ثلاثة مشاريع رئيسة تتنازع على الجولان وتنسجم في معاداتها لمفاهيم الحرية كلها، ولكل هوية تضع الإنسان وهمومه في أعلى سلم أولوياتها.
هذه المشاريع الثلاثة هي: دولة الاحتلال من جهة، نظام الأسد من جهة ثانية، وما بينها يتمدد مشروع طائفي ويتعمّق.
نظام الأسد:
إن جرح الجولان النازف منذ عام 1967 بدأ – للمفارقة – بإصدار وزير الدفاع السوري آنذاك ((حافظ الأسد)) البلاغ رقم66، معلنًا سقوط القنيطرة قبل أن يصل إليها أي جندي إسرائيلي. تلا ذلك التبجح الإعلامي الصادر عن إذاعة دمشق، بالتعليق الشهير على انتهاء المعارك: ((الحمد لله، لقد استطاعت قواتنا الباسلة حماية مكاسب الثورة أمام الزحف الإسرائيلي، الحمد لله الذي أفسد خطة العدو وقضى على أهدافه الجهنمية، إن إسرائيل لن تحقق نصرًا يذكر، طالما أن حكام دمشق بخير)). فلا عجب إذن في أن يستمر قتل السوريين اليومي في وقتنا هذا، حين يردد القتلة مقولة ((الأسد أو نحرق البلد)).
لقد أهمل النظام السوري قضيّة الجولان بمثل ما أهمل كل قضايا السوريين، هذا النظام المشغول بتعميق طعناته في الجسد السوري لم يلتفت إلى الجولان وقضيته إلّا من خلال ما يخدم مصالحه الضيّقة وسطوة سلطانه، ومن نافل القول الحديث عن إمكان إعادة الجولان إلى سورية. فالدولة ممثلة بنظام الأسد أطلقت على حرب عام 1973 اسم حرب تشرين التحريرية، وأعلنت انتصارها في تلك الحرب، ومن ثم فإن الجولان السوري المحتل قد تحرر وفق مفاهيم النظام حيث رفع حافظ الأسد العلم السوري في سماء القنيطرة، وظن أنه حرر نفسه من أي مسؤولية تجاه الجولان، إلّا أن رفض سكان الجولان المحتل قرار الضم الذي أصدرته إسرائيل في 1981-12-14، وإعلانهم الإضراب الكبير في 1982-2-14 كان إحراجًا موجعًا للنظام السوري بقدر ما هو صفعة للمشروع الإسرائيلي بسلخ الجولان عن سوريته ودمجه في دولة الاحتلال.
لم يبادر نظام الأسد إلى أي مشروع حقيقي في الجولان، واقتصر دوره على ردات فعل متأخرة غالبًا، ولم تكن للجولان أي قيمة غير استثماره بيد النظام لتبرير جرائمه المستمرة بحق الشعب السوري.
الاحتلال الإسرائيلي:
تأسست إسرائيل دولةً تجمع السياسي بالديني، وأطلقت على نفسها في تعريفها الذاتي أنها دولة الشعب اليهودي، وعلى الرغم من المجازر كلها التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني إلّا أن هذا التعريف هو الذي حمل كثيرين في الغرب على التعاطف معها انطلاقاٌ من تميّزها الأقلي في المنطقة، ومن جمالية تحقيق حلم ديني توراتي أيضًا، ولا يخلو من بعدين أساسين: حنين استرجاع البداية، ورغبة في التمهيد للنهاية. ولأن هذه الدولة الناشئة محوطة بجيران بدؤوا يميلون إلى تعريف قومي يجمعهم -ويفتقر في الوقت نفسه إلى أي مشروع عملي على الرغم من الرفض العلني والقاطع لممارسات الاحتلال- فقد عملت على الدفع بفكرة تكرار مشروعها الذي يجمع السياسي والديني. من هنا لعبت إسرائيل دورًا مهمًا في تعزيز فكرة الدولة المارونية في لبنان، وعملت على مشروع إنشاء دولة درزية أفشله ثلاثة دروز هم كمال جنبلاط، وكمال أبو صالح (من سكان مجدل شمس في الجولان) وكمال أبو لطيف الذي اغتيل على يد أحد الموالين لنظام الأسد عام 1985[1].
أفادت دولة الاحتلال من تجربتها في فلسطين كثيرًا، فقد اكتشفت أن الفلسطينيين الذين بقوا في قراهم ومدنهم يشكلون عبئًا كبيرًا على روايتها الزاعمة أن فلسطين أرض بلا شعب، موعودة لشعب بلا أرض، فعمدت في أثناء احتلالها للجولان السوري وبعد احتلالها له عام 1967 إلى تهجير الغالبية العظمى من سكانه. وتقول الأرقام إن 138000 مواطن سوري كانوا يعيشون في 137 قرية و112 مزرعة في الجولان السوري، وخلال ستة أيام من عام 1967 بين الخامس من حزيران والعاشر منه هجّرت إسرائيل 131000 مواطنًا، وأفرغت 131 قرية من سكانها، إضافة إلى مدينتي القنيطرة وفيق، تبعَ هذا التهجير هدم هذه القرى والمدن، حيث لم يبق في الجولان السوري المحتل غير 7000 مواطن سوريّ في حينه يصل عددهم اليوم إلى 22000 مواطن[2].
الطائفية المتمددة:
في أقصى شمال هضبة الجولان 5 قرى، كان يسكنها عام 1967 نحو 7000 مواطن سوري من المذهب الدرزي، لم يهجروا بيوتهم لثلاثة أسباب:
1- إن مشايخهم قد أصدروا حرمًا دينيًا بحق كل من يترك بيته وينزح
2- إن قراهم وبيوتهم لم تتعرض للقصف كما تعرضت قرى وبلدات الجولان الأخرى، فإسرائيل كانت تخشى ردّة فعل بعض جنودها وضباطها من دروز فلسطين الذين سيقفون مع أبناء طائفتهم.
3- إن إسرائيل كانت قد بدأت فعلًا برسم خطة لإنشاء دولة درزية، وذلك منذ عام 1958، وهي تحتاج إلى كسب ود الدروز في هذه القرى، ليكونوا مفتاحًا في علاقتها مع الدولة المفترضة، وكانت إسرائيل تأمل أن تنجح فكرة الدويلات الطائفية، لتكون حاجزًا بينها وبين العمق العربي، ولتعطي مصداقية لمشروعها الاحتلالي الاستيطاني أيضًا من منطلق أن هذا الشرق متشظٍ في تقسيمات طائفية غير موحد في مشاريع سياسية جامعة[3].
قرية واحدة في الجولان سكانها من العلويين لها قصّة غريبة مع الاحتلال، فقد عدها الإسرائيليون جزءًا من لبنان، ولم يدخلوها، في حين رفض لبنان ممارسة أي دور في هذه القرية باعتبار أنها قرية سورية، وليست لبنانية. ويقول أحد سكان القرية في مقابلة باللغة العبرية مع مجلّة ((طِبَع هدباريم)) (طبيعة الأمور): ((رفض اللبنانيون قبولنا خشية أن يـُعتبروا كمن ضموا إليهم أرضًا سورية، لذلك منعونا من اجتياز الحدود. لمدة شهرين ونصف كانت الغجر دولة مستقلة بين لبنان وإسرائيل مكونة من 36 عائلة. نصف سكان القرية -350 نسمة تقريبًا- هاجروا في إثر الحرب إلى سورية. وعندما فرغت مستودعات الأغذية توجهنا إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي، وطلبنا منه رفع مشكلتنا إلى الكنيست، وعاد بعد أسبوعين، ورفع العلم الإسرائيلي فوق القرية)).
منذ تلك الأيام الستّة التي استغرقتها إسرائيل في احتلال الجولان، بدأ العمل المكثّف في أروقة مؤسسات دولة الاحتلال على طمس معالم الهوية السورية لأهالي الجولان، فبدأت بفرض مناهجها التعليمية على الطلاب، ونذكر هنا أن لدولة الاحتلال ثلاثة مناهج تعليمية؛ أولها المنهج التعليمي للطلاب اليهود، ثم المنهج التعليمي للطلاب العرب، وأخيرًا المنهج التعليمي للطلاب الدروز، فالدروز بحسب رؤية إسرائيل وتطلعاتها ليسوا عربًا، ويجب العمل على فصلهم عن محيطهم العربي تمهيدًا لتحويل مذهبهم الديني إلى هويّة شخصية تجعلهم مفصولين عن عمقهم العربي، وفي الوقت نفسه آمنين في حضن إسرائيل التي بدأت بإقحام فكرة أنها لا تكن العداء لهم، وأنها امتنعت عمدًا عن تهجيرهم.
بعد السطو على المنهج التعليمي عينت إسرائيل إلى مجالس دينية مذهبية، ومجالس محلية، كانت وظيفتها الرئيسية تنفيذ سياسة الاحتلال، وسيطرت على غالبية مصادر المياه، وربطت قرى الجولان بشبكات الكهرباء الإسرائيلية وتحول التعامل الاقتصادي بمقوماته كلها إلى العملة الإسرائيلية. وبكلمات أخرى عمل الإسرائيليون على قطع الروابط المحتملة كلها لإبقاء أبناء الجولان على هويتهم السورية.
تعدد أوجه الصراع على هوية الجولان والبدائل الممكنة
لم تنجح إسرائيل في الجولان تمامًا، وليست هي الوحيدة التي أفادت من تجربتها في فلسطين، فقد رفض سكان الجولان القبول بدولة الاحتلال بديلًا من سوريتهم.
وكانت لإسرائيل بعض النجاحات بإقناع فئات من المجتمع بأن مستقبلهم هنا في ظلال دولتها مع إخوتهم من دروز فلسطين، وهذا خلاصهم من ممارسات المتنفذين السوريين الذين كانوا يستبيحون قراهم مثل القرى السورية كلها، ويتصرفون من دون رادع قانوني أو أخلاقي، في حين تدعي إسرائيل احترام خصوصية الأفراد والممتلكات، ولعل هذا ما حاولت غرسه في مفهومات الناس هنا.
لم يكن هذا النجاح شاملًا، ولم ينطل على السكان كلهم، بعض الفئات ممن كانوا يعملون في مؤسسات الدولة السورية قبل الاحتلال موظفين أو ممن جمعتهم علاقات تجارية مع محيطهم السوري أو حتى أولئك الذين تفتّحت في أذهانهم مفهومات الوطنية والمواطنة، هؤلاء جميعًا كانوا يرفضون القبول بدولة غير سورية منذ أيام الاحتلال الأولى، فكان أول اعتقال سياسي لمواطن سوري من الجولان بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على الاحتلال، حيث اعتقلت في 1967-9-4 ((ماجد فؤاد أبو جبل)) بتهمة جمع المعلومات عن الاحتلال وتقديمها إلى الدولة السورية[4].
تجربة الاعتقالات السياسية كانت الأساس في خلق روابط الصلة بين الجولان السوري المحتل وفلسطين، ففي السجون الإسرائيلية وجد المعتقلون السوريون أنفسهم في احتكاك مباشر مع إخوتهم من الفلسطينيين، وبدأت تجمعهم مناقشات وأحاديث يومية عن دور إسرائيل وغايتها، عن مشاريعها وتطلعاتها الاستعمارية، وفي الوقت نفسه عن آفاق العمل المشترك بين فلسطين والجولان في مواجهة عدوٍ مشترك يضمر لهما هاوية واحدة.
عام 1973 اعتقلت إسرائيل أكبر مجموعة من سكان الجولان، ممن كانوا يعملون على جمع معلومات أمنية عسكرية عن دولة الاحتلال وتحصيناتها، وتقديمها إلى الدولة السورية، فبلغ عدد المعتقلين 80 ناشطًا [5]، 58 منهم كانوا يعملون في مجموعة واحدة مقسّمة إلى خلايا تنظيمية صغيرة، لهذه المجموعة ومحيطها الفضل الأكبر في التأسيس لظاهرتين ميّزتا تجربة الجولان السوري تحت الاحتلال:
الظاهرة الأولى هي رفض الجنسية الإسرائيلية والتمسك بالهوية السورية، وقد تجلّت بعد إصدار إسرائيل قرار الضم عام 1981، وما تبعه من أحداث رفض هذا القرار على صعيد شامل من سكان الجولان، ورفض القبول بالجنسية الإسرائيلية وصولًا إلى الإضراب الكبير عام 1982[6].
أما الظاهرة الثانية فقد تمثلت بتأسيس علاقة سياسية وطنية مع فلسطين، والتمهيد لعلاقة ثقافية تشغلها قضايا الهوية المشتركة على الرغم من الفوارق السياسية والديمغرافية.
يدين سكان الجولان لإخوتهم الفلسطينيين بمساندتهم الكبيرة لهم خلال هذا الإضراب وبعده أيضًا، فقد أعلنت إسرائيل أن الجولان منطقة مغلقة، ولم تسمح لأحد بالدخول إليه، وبدأت بابتزاز المواطنين مشترطة قبولهم بالجنسية الإسرائيلية للسماح لهم بتلقي العلاج في مؤسساتها الطبية على سبيل المثال، وكان مستشفى ((المقاصد الفلسطيني)) أوّل من أقام مشفى ميدانيًّا، ووضع كل مقدراته الطبية في خدمة أبناء الجولان، وعلاجهم مجانًا، وأدى خدمات جليلة أسهمت بإنجاح الإضراب.
من جهتهم كان أبناء الجولان من أوائل الذين أدخلوا المساعدات إلى الضفّة الغربية عند اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987[7] في مشهد جدير بالتأمل والدراسة، حيث كانت نساء الجولان يتحلّقن حول مواقد الحطب لإعداد كميات كبيرة من الخبز، وإرسالها إلى فلسطين، إضافة إلى إرسال شاحنات من المؤن والتفاح، كانت هذه الشاحنات تعبر شوارع الجولان وقراه، والنساء يصرخن عليها أن تتوقف قليلًا، ليضفن إلى حمولتها بعض المقتنيات أو ما استطعن إليه سبيلًا من مأكلٍ أو ملبس.
إن غياب أي دورٍ للدولة السورية ونظامها الحاكم في تعزيز هويّة سوريي الجولان، ودعمها ثقافيًا أو سياسيًا، حمل أبناء الجولان على شق طريقهم بأنفسهم إلى سوريتهم، لقد مثّل خط وقف إطلاق النار المحاذي قرية مجدل شمس من جهتها الشرقية نقطة التقاء أبناء الجولان السوري المحتل بأهليهم في سورية، حيث كانوا يلتقون على جانبي هذا السياج طوال أيام السنة لتبادل أخبارهم الاجتماعية، وفي مناسبتين لتبادل الخطابات السياسية -الرابع عشر من شباط والسابع عشر من نيسان- حيث كان النظام وكيلًا حصريًا لهذه المهرجانات الخطابية. واستطاع أبناء الجولان كسر هذه الوكالة مرّات قليلة من خلال استضافة الفنان السوري ((سميح شقير)) على الجانب الشرقي لخط وقف إطلاق النار، كان هذا أول تفاعل ثقافي مباشر بيننا وبين عمقنا الثقافي السوري، وكان تحديًا واضحًا لهيمنة النظام على علاقتنا مع سوريتنا. عندما انتبه النظام إلى ما تشكله هذه العلاقة من تهديد لسطوته على المشهد العام، أجهض المحاولات التي تبعتها كلها التي كانت تهدف إلى تحويل خط وقف إطلاق النار إلى نقطة تلاقٍ ثقافي حقيقي، وأبقى فقط على الأشكال المعهودة التي تمرّ عبر قنواته الأمنية والسياسية.
كانت ثمة محاولات ناجحة عدة لكسر احتكار النظام لعلاقة أبناء الجولان الثقافية والسياسية مع الحراك الثقافي السوري، أذكر على سبيل المثال لا الحصر أن الفنان السوري ((سميح شقير)) تحوّل إلى أيقونة وطنية يحفظ أبناء الجولان أغنياته كلها عن ظهر قلب، ويرددونها في مناسباتهم في احتفالاتهم وسهراتهم، في الوقت نفسه كانت الأغنيات والأهازيج الفلسطينية تجد طريقها إلى أذهان سوريي الجولان، أغنيات الانتفاضة مثالًا. في الجولان السوري المحتل أنشأ مجموعة من الفنانين والمثقفين ((مركز فاتح المدرس للفنون والثقافة))، كان هدف المركز أن يُعنى بشؤون الفن التشكيلي والموسيقى والثقافة عامةً، وقد عمل وفق رؤية شمولية لمعنى الثقافة الحرة والمنفتحة ودلالتها، وعلى ربط الحركة الفنية والثقافية في الجولان المحتل بالحركة الثقافية داخل الوطن الأم سورية، والوطن العربي، والعالم عامة. أخذ المركز على عاتقه استضافة فنّانين ومثقفين سوريين من خلال إقامة معارض لأعمالهم في لجولان وفي أحايين عدة استضافتهم للحديث والحوار معهم صوتًا وصورة عبر تقنيات الإنترنت المتعددة (من بين نشاطات مركز فاتح المدرس للفنون والثقافة في هذا الخصوص: مهرجان الأفلام الوثائقية السورية الذي تضمّن عرض أفلام المخرجين عمر أميرالاي، أسامة محمد ومحمد ملص، وتبعت عرض الأفلام أمسية حوار مطوّل مع أسامة محمد وعمر أميرالاي أُطلق عليه اسم ((السينما السورية تسترد الهضبة المحتلة))[8]، ومعرض للفنانين السوريين الشباب، معرض لأعمال الفنان السوري مروان قصّاب باشي، معرضًا لأعمال الفنان السوري علي فرزات وكثير غيرها). يضاف إلى ذلك أن الكاتب السوري ياسين الحاج صالح بدأ بنشر مقالاته وكتاباته في مواقع الجولان الألكترونية، وبعد انطلاق الثورة السورية استمرت النشاطات التي تحاول كسر هذا الاحتكار، ولكنها أخذت بعدًا جديدًا تمثل بمحاولة تسليط الضوء على الأحداث في سورية من وجهة نظر السوريين الرافضين لنظام المجزرة والثائرين عليه. هذه النشاطات على الرغم من تأثيرها العميق في نفوس سوريي الجولان إلّا أنها كانت محكومة بالمحدودية نظرًا لقلّة المتاح من مشاريع تقديم القضايا المشتركة بين السوريين على طرفي خط وقف إطلاق النار.
عند انطلاق الثورة السورية، قام عدد من أبناء الجولان السوري المحتل بالانضمام إلى المؤسسات الفاعلة في هذا الحراك، وكسر حال الجمود واحتكار نظام الأسد للعلاقة مع الجولان، فانخرط البعض في لجان التنسيق المحلية، وبدؤوا بالعمل سوية مع الناشطين السوريين لدعم الحال الثورية السورية، وأسسوا تنسيقيات في الجولان.
كان تجمع ((فناني ومبدعي سوريا من أجل الحرية (أمارجي)) من أوائل مؤسسات الثورة الثقافية التي عملت على ضم أعضاء من الجولان السوري المحتل إلى صفوفها، ومثلها أيضًا تجمعات التشكيليين والصحافيين السوريين الأحرار، وسارت حركة ضمير على النهج ذاته، فانضم إليها عدد من أبناء الجولان المحتل، وكان أول نشاط للحركة أمسية شعر شارك بها شعراء سوريون قرؤوا قصائدهم، والتقوا أهلهم في الجولان عبر السكايب.
بعد انطلاق الثورة السورية أنشأ الفنان السوري ((مضاء المغربي)) فرقة ((نص تفاحة)) التي عملت على تقديم أغنيات من الجولان تدعم الحراك الثوري السوري، وقدمت الفرقة أعمالها كلها إما بالمشاركة مع فنانين وموسيقيين فلسطينيين أو مع فنانين وموسيقيين سوريين، وليس من المصادفة أن يُطلق على الفرقة اسم ((نص تفاحة)) للتعبير عن أن التفاح في الجولان المحتل لن يكتمل النضج فيه إلّا حين يصير إلى نصفه الآخر في الوطن السوري.
ولأن حاجة الجولانيين تحت الاحتلال تقتضي بالضرورة أن يجدوا أفقًا لتفاعلاتهم الثقافية، وطرح مشروعاتهم، ومشاركة همومهم مع محيط حيّ، فقد كانت فلسطين نافذة وأفقًا يمدّنا بالضوء ويحرسنا من يبس العزلة.
وجد الناشطون السوريون من أبناء الجولان طريقًا واضحًا للتغلب على المصاعب الكثيرة التي وضعها الاحتلال الإسرائيلي أمامهم، وامتنع النظام السوري عن تقديم أبسط واجباته تجاههم وتجاه المواطنين كلهم في الوطن السوري. فلسطين التي صارت تشبهنا أو للدقة صرنا نشبهها، كانت هي السبيل الوحيد للانتصار على مشاريع طمس الهوية الثقافية والسياسية لأبناء الجولان. البداية -كما أسلفت- كانت بتجارب العيش المشترك في سجون الاحتلال –إن صحّت تسميتها بالعيش- فهي من جهة أقلّ من ((عيش)) لأنها تحمل كثيرًا من المعاناة التي تنتقص من مقومات ((العيش))، ومن جهة ثانية كانت أكثر أهمية من محض ((العيش)). خلال مدد السجن وما بعدها استطاعت هذه التجارب خلق روابط متينة أولًا بين الأفراد وعائلاتهم ورفاقهم في السجن من الأسرى الفلسطينيين، وانتقلت لتأخذ طابعًا اجتماعيًا، ولا سيما أن الحديث يدور عن مئات الأفراد وعوائلهم، ثم سارت إلى علاقات مؤسساتية ومهنية، تهدف في غالب الأحيان إلى تقاسم الخبرات والمعارف، وتسعى أيضًا إلى العمل المشترك في كل ما من شأنه تعزيز مفهوم الهوية الوطنية ثقافيًا وسياسيًا في ظل وعي مشترك لغياب السند الخارجي وتحديدًا غياب الأطر الحكومية المعنية بتعزيز هذا المفهوم. وهنا لا بد من لفت النظر إلى أن أهالي الجولان السوري المحتل المتمسكين بهويتهم وثقافهم السورية يواجهون في الوقت نفسه -أحيانًا دون إدراك كامل- مطامع إسرائيل الاستعمارية ووحشية جرائمها بالقتل والتهجير، وتهدم بيوت وقرى الجولان شاهد حيّ، وإهمال نظام مذبحة سورية قضاياهم كلها، إنهم يعيشون تفاصيل حياتهم اليومية كأي فلسطيني، يحملون في أيديهم أوراق عدوهم الثبوتية، ويتمسكون بهويتهم الوطنية، يتحدثون باللغة العربية وأوراقهم الرسمية جميعها مكتوبة باللغة العبرية، يطلبون موافقة إسرائيل على مشاريعهم كلها، ويدينون ممارساتها، ويرفضون الاحتلال ويعملون في المستوطنات. هذه الحياة اليومية يما فيها من تناقضات في السلوك تعبّر أيضًا عن عمق الجريمة الإسرائيلية المستمرة منذ عام 1948 والتي لم تنته فصولها بعد.
في الجانب الثقافي كانت هنالك حاجة ماسة إلى فضاء قادر على فهم خصوصية الجولان، وإلى مساحة تتيح للناشطين الثقافيين تقديم رؤاهم من دون الرضوخ إلى إرادة المحتل، ومن دون المرور تحت عباءة النظام، عملت مجموعات من الفنانين والمثقفين السوريين في الجولان على ربط إيقاعهم بالحركة الفنية والثقافية الفلسطينية، في محاولة للانتصار على مشاريع إسرائيل بعزلهم وتجفيف منابع وعي الهوية عنهم. يقيم فنانو الجولان معظمهم معارضهم في فلسطين، ويقرأ أدباء الجولان وكتاباتهم في فلسطين وينشرونها هناك، يعزف الموسيقيون في فلسطين، ويعمل ناشطون حقوقيون وصحافيون وأساتذة جامعات في فلسطين، وجميعهم -كلّ في مجاله- يستقدمون إلى الجولان خبرات ومعارف فلسطينية، فنونًا وأدبًا فلسطينيًا، وهذا أحد ركائز تعزيز الهوية، بمعنى إيجاد فسحة لممارسة الذات في إطار جماعي مع الحفاظ على خصائص الجغرافية والتاريخ والثقافة واللغة، فما بالنا حين يُضاف إليها الهمّ المشترك في مواجهة عدو هذه الهوية، والتطلع إلى الخلاص منه.
من بين النشاطات الثقافية المميزة التي أخذت على عاتقها ربط حاجات الجولانيين بما يشبهها من موسيقى ومسرح وعروض رقص، مهرجان ((من الجولان)) عام 2007، ومهرجان ((إلى الجولان)) الذي أقامه ((مركز فاتح المدرس للفنون والثقافة)) عام 2008 بالشراكة مع ((مركز خليل السكاكيني الثقافي)) و((مؤسسة عبد المحسن القطان)) في رام الله، و((جمعية الجولان للتنمية)) و((مؤسسة قاسيون الثقافية)) في الجولان، حيث احتفل أبناء الجولان طوال عشر أمسيات بحضور وسماع أكثر من 12 عرضًا فنيًّا وموسيقيّا ومسرحيًّا، إضافة إلى أمسية للأدب الفلسطيني. وأقام المركز عددًا من المعارض الفنية لتشكيليين فلسطينيين في صالته، وقدّم إلى فلسطين كثيرًا من المعارض الفنية، إضافة إلى العروض الموسيقية، والمشاركة المستمرة في المهرجانات الفلسطينية كجزء فاعل ومؤثر فيها.
وقدم ((مسرح عيون)) لأبناء الجولان عددًا من العروض المسرحية والموسيقية الفلسطينية، إضافة إلى مشاركاته المتميزة في مهرجانات المسرح الفلسطينية. وقد فاز ((مسرح عيون -جولان للتنمية)) عن مسرحيته ((قمر على باب الشام)) بجائزة أفضل مسرحية في مهرجان ((مسرحيد)) الثالث عشر عام 2014، وأقام أربعة مهرجانات للمسرح في الجولان، كان آخرها عام 2013، وتميزت مسرحية ((شرق أوسط جديد)) بتفاعل ملفت مع واقع الثورات العربية وبصورة خاصة في سورية.
وتقدم فرقة ((هوا دافي)) الموسيقية التي تأسست في الجولان إنتاجها الموسيقي في فلسطين، وهي تعد واحدة من الفرق الموسيقية المميزة على ساحات الأرض المحتلة كلها.
يضاف إلى المؤسسات والمراكز الثقافية في الجولان جهود أفراد كثيرين من الجولان، استطاعوا تحقيق ربط لافت بين هوية أبناء الجولان السورية وبعدها الفلسطيني.
ختامًا أرى أن هويتنا السورية الموروثة ما زالت فاعلة في ضمائرنا على الرغم من كل الصدأ الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي، وعززه إهمال نظام الأسد الذي يحتل سورية، ولكن بديلنا الثقافي ونافذتنا الأكثر إشراقًا هي فلسطين، بما نحمله معًا من رفضِ للاحتلال، وبما تشكله من بوصلة واضحة تحكم واقعنا اليومي في تحديد هوية العدو بأنه كل من يمارس ظلمًا أو قمعًا، وكل من يقتل أصحاب الأرض ويهجّرهم من بيوتهم وبلداتهم، وكل من لا يجد الطريق الواضح إلى الانتصار لحرية الإنسان في الأزمنة والظروف حلها.
إن هوية أبناء الجولان السورية في رؤيتها لعمقها الفلسطيني، وفي ظل غياب جهة سورية قادرة على تأدية دور مؤثر يستطيع تخطي خط وقف إطلاق النار، وما تسعى إليه إسرائيل من هيمنة على تفاصيل الحياة في الجولان المحتل، هو في الوقت نفسه تأكيد على اسرائيلية نظام حكم الأسدين في سورية، فكلما أوغل هذا النظام في وحشيته وفي سطوته على الحياة الطبيعية في سورية، كلما صار احتلالًا أوضح، وكلما تمسك السوريون ومن ضمنهم أبناء الجولان المحتل بحقهم في الحرية والعدالة، كلما تعمقت فلسطين مفهومًا للحرية والعدالة في نفوسهم أكثر.
ما يشبه شهادة شخصية
((كان سؤال الهوية دائمًا مسألة معقدة بالنسبة إلي، إذ وُلدت وأعيش في الجولان الذي تحتله إسرائيل، حيث تهاجمني اللغة العبرية كيفما نظرت، وهي ليست لغتي، فهل أنا جزء من هذه الهوية؟
إسرائيل دولة احتلال، ولا يمكن أن تكون وطنًا، في لحظة ما أواسط عام 1996 قرّرت ومجموعة من رفاقي تنظيم أنفسنا في مجموعة سرّية للكفاح ضدّ الاحتلال ومؤسساته بصورة عامة، وضدّ وجوده في الجولان السوري بصورة خاصة، فاعتقلنا في إثرها، وأمضيت في سجون الاحتلال 7 سنوات ونصف السنة.
هنا بدأ التعقيد في سؤال الهوية يزداد عمقًا، فقد اكتشفت فلسطين التي فيّ أو ربما صرت فلسطين التي التقيتها في رفاق السجن. وها أنا اليوم فلسطيني الظروف والجغرافيا، سوريّ التاريخ والهوى، ممنوع من سوريتي بشكل قسري، وتحتلني إسرائيل التي نجحت في بعض محاولاتها من زرع وتعزيز النزعة الطائفية شكلًا من أشكال الهوية. كان لا بدّ لي من السؤال: من أنا إذن؟ والإجابة الوحيدة الممكنة بالنسبة لي: أنتَ مَن تريد أن تكون. فنفضت عنّي كل هويَة لا تنحاز للإنسان في كل الظروف. الهوية ليست سؤالًا في الجغرافيا أو السياسية بقدر ما هي سؤال يصيب الضمير في التعريف الذاتي. وهويتي صراع دائم من أجل الحرية، وانحيازٌ كامل لكل مظلوم في وجه كل ظلم)).[9]
- لا تدّعي هذه الورقة الإحاطة بكامل تفاصيل العلاقة بين فلسطينوالجولان السوري، إنما هي محاولة لتسليط الضوء على المفاصل الرئيسية -بحسب رؤية كاتبها- التي كان لها الأثر الأبرز في تحديد وتثبيت هذه العلاقة، ومن ثم تحويلها إلى فاعل مؤثر في هوية أبناء الجولان السوريين.