إلياس مرقص وإعادة تأسيس المفهومات القومية

لم يكن المفكر الراحل إلياس مرقص منتميًا سياسيًا وتنظيميًا إلى التيار القومي العربي أو (القوماوي) بتعبيراته، على الرغم من انتمائه الحاسم فكريًا وروحيًا إلى المسألة القومية العربية، ودفاعه العنيد عن فكرة الوحدة العربية، ولكن على أسس ومبادئ ومقدمات مغايرة ومتعارضة مع المضامين المعتقدية للأيديولوجية القومية العربية على اختلاف تجلياتها التنظيمية والسياسية، وعلى الأخص متعارضة ومغايرة للأوثان التي أقامتها تلك الأيديولوجيا من مثل وثن (الأمة الخالدة) ووثن (اللغة المقدسة) ووثن (الخصوصية)، ووثن(الأصل)، وغيرها من الأوثان التي تضع العرب خارج منطق الصيرورة، منطق التشكل والانحلال، وخارج الانتماء إلى التاريخ البشري.

ولطالما دعا إلى تأسيس فكر قومي داخل التاريخ والعالم في مواجهة (الفقه القومي (السائد، ودعا إلى تفريغ شحنته الميتافيزيقية القائمة في رؤيته للأمة، ونزع تصوره (الفخذي) عن القومية العربية. فالهوية القومية الحقيقية في نظره: (ليست (بطنًا)، البطن فارغ… الهوية هي رابطة الـ (هو)مع الكون، مع العالم، مع الإنسان والتاريخ، كتقدم وكمسائل، رابطة محددة دائمًا ومعينة، ومفتوحة على اللانهاية. هكذا الهوية الفردية، المليئة حقًا لشخص، لشعب، لأمة، لحزب، لطبقة، لجماعة حية، للبشرية بالكامل، وعلى هذا الأساس، الهوية هي توجه، تطلع، نزوع إلى مستقبل ممكن وواجب، الهوية بالمعنى الآخر تجريد ميت، لا هوية) ([1]).

ولأن أيديولوجية التيار القومي العربي كانت (فقهًا) قوميًا، طردت العلمانية والديمقراطية والحداثة من بناها السياسية والتنظيمية والثقافية، وتصالحت باكرًا مع التقليد، وأعادت إنتاج الماضوية والمذهبية والعنصرية وكل مظاهر التأخر في رؤى أحزابها وحركاتها وفصائلها وميليشياتها، فأرست بهذا المقدمات المجتمعية والثقافية لنشوء التيارات الارتدادية الظلامية. فلم يعد خافيًا أن انهيار (الاجتماعات الوطنية) في كل من سورية والعراق واليمن وليبيا، وانفجار الحروب الأهلية فيها، هو من نتائج السياسات ما دون الوطنية، التي انتهجتها (الدول) السلطانية المحدثة في تلك البلدان، التي رسّخت سلطاتها وهيمنتها تحت سحر العناوين القومية وجاذبيتها التعبوية.

لذا، كان إلياس مرقص، مبدئيًا ونهائيًا، معارضًا للمقدمات المعرفية والثقافية والسياسية والأخلاقية (للفكر القومي) العربي التي أفضت إلى النتائج الكارثية التي تعيشها اليوم بلدان ما أصطلح على تسميته: (الربيع العربي)، وميّز بين الأهداف والمناهج، ففي الوقت الذي تصدى فيه لتفنيد ودحض مناهج ورؤى التيارات القومية، انحاز بشكل حاسم إلى الأهداف القومية العربية، فيقول: (إيماني مطلق بأن لا مستقبل ولا حياة للشعوب العربية بدون الوحدة القومية لأمة العرب، وإيماني مطلق أيضًا: بأن المسيرة الطويلة الشاقة المتعددة الوجوه نحو الوحدة، المسيرة التي هي اليوم – أكثر منها في أي وقت مضى – عمل دؤوب ومعركة وثورة، هذه المسيرة تتوقف، بين جملة أمور، وفي رأس جملة أمور، على الوعي إذن على الفكر…. في رأيي، لا وحدة عربية، بدون الديمقراطية والعلمانية، فإما أن تكون أمة العرب أمة مدنية ديمقراطية حرة أو لا تكون، إما أن تكون أمة مواطنين في دولة حق، أو أن تكون ممالك مملوكية) ([2]).

نعم، لقد كان مهمومًا بتأسيس مفهوم الأمة العلماني بمواجهة مفهوم الملة الديني، والأكثرية السياسية بمواجهة الأكثرية الإثنية أو المذهبية، ودولة الحق والقانون بمواجهة السلطات المستبدة و(فوضى الدول)، وكذلك، كان مهمومًا بنزع الهالة الأسطورية عن اللغة العربية وتحويلها إلى لغة قومية في خدمة تقدم الكيانات العربية القائمة، ونزع الهالة الأسطورية عن تاريخ العرب ورؤيته كما تحقق بالفعل. بكلام آخر: نقل إلياس مرقص مفهومات المسألة القومية من مجال (الأوهام الأيديولوجية) إلى ميدان التاريخ الواقعي.

([1]) ياسين الحافظ، في المسألة القومية الديمقراطية، الأعمال الكاملة لياسين الحافظ، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005)، ص 960.

([2]) مقدمات في نقد الفكر القومي، (إصدار مركز دراسات الوحدة العربية)، ص 1 – 2.

 

منير الخطيب

كاتب وباحث سوري، يكتب في مجال الفكر السياسي، وله إسهامات عديدة في الصحافة العربية، مهندس مدني.

مشاركة: