توفيت قبل أيام، في الثالث من حزيران/ يونيو الجاري، الأكاديمية والطبيبة النفسية، صوفي فرويد، التي اشتُهرت من خلال عملها في علم النفس ومعارضتها لعمل جدّها، سيغموند فرويد، في التحليل النفسي. استغلَّتْ صحيفة النيويورك تايمز وصحف أخرى نبأ وفاتها ليستعيدوا ما صرّحت به في إحدى المقابلات القديمة معها في عام 2002، حيث قالت: “أنا متشكّكة في كثير من التحليل النفسي، أعتقد بأنه انغماس ذاتي نرجسي لا يمكنني تصديقه”. وبين موافقةٍ على التصريح إياه ورفضٍ له، وبين دفاعٍ عن التحليل النفسي وهجومٍ عليه، تعدَّدت الآراء وتفاوتت في فهم التحليل النفسي وتفسير التصريح.
غير أن قليلًا من الاطلاع على التحليل النفسي يكفي لحلّ الإشكالية التي جاء بها هذا التصريح، والموافقة على ما ينطوي عليه هذا التصريح ورفضه في آن معًا. نعم، لا شكّ أن التحليل النفسي يمكن أن يتحوّل إلى ممارسة نرجسية، إن فهمنا النرجسية هنا بمعنى الحبّ المفرط للذات. إلا أن هذا الحب لا يقلّل من موثوقيته أو قابليته للتصديق. وإن كان لنا أن نغيّر شيئًا في تصريح حفيدة فرويد وأن نشير إلى مشكلة قائمة وملموسة في التحليل النفسي، سنقول: “نعم، يمكن أن يكون التحليل النفسي انغماسًا ذاتيًا نرجسيًا، ونستطيع تصديقه مع ذلك، إلا أنه لا يمكننا اعتماده وحده منهجًا لتغيير المجتمع والواقع”.
لعلّ أحد الدروس البدهية والأولى في التحليل النفسي هو درس المعرفة الذي يقول: إن مسألة المعرفة، أولًا وأساسًا، هي مسألة حبّ. ليس غريبًا أو معيبًا إذًا أن يعود التحليل النفسي، بوصفه أداة معرفة ضرورية، بكثير من الحب الذاتي على المحلّل النفسي أو على القارئ، بوصفنا كائنات لغوية ومعرفية. ويأتي الإفراط في الحب ربما من جذرية هذه المعرفة، من جذرية التحليل النفسي وصعوبة التنقيب فيه. لكن ما يجدر الانتباه إليه هنا، وهو ما غفلت عنه حفيدته وما يغفل عنه كثيرون في انغماسهم في التحليل النفسي، هو أن فرويد نفسه لم يسمح لنفسه أن يحبّ بإفراط أو أن “يتجاوز حدودًا معينة” في الحب، وهو ما أكّد عليه المحلّل النفسي جاك لاكان في سيمينار “أخلاق التحليل النفسي”. فالتحليل النفسي، أو حتى الحب، هو مسألة أخلاقية لا تسمح بالإسراف، ومسألة منطقية أيضًا وفقًا لهيغل، الذي اقُترن اسمه بالتحليل النفسي، والذي يختلف في فهمه للحب عن بقية الرومانسيين الألمانيين، حيث قامت فلسفته كلها على فهمه للحب وجعله الحب مسألة منطق، حيث يقول: “يجب أن أحب بذكاء. إن الحب غير الذكي يمكن أن يؤذي أكثر من الكره”. أما في ما يتعلق بالانغماس الذاتي النرجسي الفاقع في التحليل النفسي -وحتى نفرّقه عن الانغماس الأول، سنسمّي الأول بالإيجابي والثاني بالسلبي- فبقدر ما يكون هذا الانغماس السلبي أمرًا شخصيًا وفرديًا، يمثّل هذا الانغماس موقِفًا سياسيًا واجتماعيًا.
ارتبط التحليل النفسي، بوصفه ثورة فكرية وأداة نقد، بالفكر اليساري في القرن العشرين، ولا سيما من خلال أعمال مفكّري مدرسة فرانكفورت، الذين زاوجوا بين التحليل النفسي وعلم الاجتماع والسياسة والفلسفة، ومن خلال مَن جاء بعدهم من مفكرين ومحلّلين. وليس من المبالغة في شيء القول إن أفضل ما أصاب اليسار في القرن العشرين، وأسوأ ما أصابه، -في المستوى الفكري، لا في المستوى السياسي- هو اقترانه بالتحليل النفسي. فعلى الرغم من الاستبصارات المهمّة التي أضافها التحليل النفسي إلى الفكر الثوري اليساري، فقد ساهم التحليل النفسي في حلّ ما تبقى من الطاقات الثورية في القرن العشرين والقضاء عليها تمامًا، وذلك من خلال تحويل عملية التفكير إلى “انغماس ذاتي نرجسي (سلبي)”، ونزع مادية كل حراك، وكل فكر، وكل تحليل، وتمييعه. لقد وجد يساريو القرن العشرين في التحليل النفسي حجة لتبرير الشلل السياسي الذي أصابهم، فتحوّلت التحليلات والدراسات على حين غرة من التركيز على الشروط المادية لأي ظاهرة إلى التركيز على التهويمات النفسية وقضايا الجسد والجندر، على الرغم من أهمية هذه الأخيرة. ولذلك أسباب عديدة ومختلفة، منها التحوّل نحو الذاتية والبنائية والاختزالية الثقافية التي لا تختلف كثيرًا عن الاختزالية البيولوجية. لكن ما يركّز عليه مقالنا هذا هو علاقة المعرفة الجذرية، التي تقتضي حبًّا للذات، بالفعل السياسي، كما جاء في بداية المقالة على لسان صوفي فرويد في ذمّها للتحليل النفسي بوصفه “انغماسًا ذاتيًا نرجسيًا”. وهنا نسأل: ما الذي يدفعنا إلى الفعل السياسي؟ أهو حب للذات أم حب للآخر؟ أو أيهما يسبق الآخر؟ وما هي حدود هذا الحب حتى يكون أخلاقيًا ومنطقيًا وذا أثر فعلي في الواقع؟
يقول الفيلسوف الأمريكي مايكل هاردت إن هناك نوعين من الفعل السياسي، النوع الأول ينبع من إحساس الشخص بالذنب تجاه الآخر حين يكون في موقع أفضل منه، فيشعر هذا الشخص بأنه يعطي شيئًا ما للآخر، هو الذي يقدّم له المعرفة والمعونة، أي أنه يهب الآخر الأدنى منه هبة ما انطلاقًا من أهميته هو نفسه وأهمية أفكاره وموقعه وما لديه (وهذا هو الحب الذي يبدو حبًا للآخر، إلا أنه في الحقيقة ليس سوى حبّ الذات باستخدام الآخر)؛ والنوع الثاني من الفعل السياسي ينبع من إحساس الشخص بأن هذا الآخر الذي ربما يكون في موقع أدنى مني هو الذي يقدّم شيئًا لي، هو الذي يُكسبني ذاتيتي ويمنحني معنى لوجودي، هو الذي ينقذني من اغترابي بتقديمه لي المعرفة، فأتعرف إلى نفسي من خلاله، ويحتّم عليّ الفعل السياسي كفعل حياة ووجود (وهذا هو الحب الذي يبدو حبًا للذات، إلا أنه ليس سوى حب الآخر من خلال الذات، وهذا هو “الانغماس النرجسي” الإيجابي والأصيل الذي نختبره في “ممارسة” المعرفة التي يمكن أن تكون الفلسفة أو التحليل النفسي أحد أشكالها الأكثر جذرية).
وفي حين يتساوى الفعلان السياسيان في الشكل، يختلفان في المضمون والقيمة الأخلاقية والنتيجة. وليست هناك مشكلة فعلية في هذا الاختلاف، فالاختلاف يبقى خاضعًا للحرية الشخصية والطريقة في التفكير والنظر إلى الأمور. لكن المشكلة تنشأ في هذين النوعين عند توقف عملية المعرفة القائمة على الحب عند حدود معينة. فإن لم يتجسد النوع الثاني، أي فعل المعرفة القائم على “حب الآخر من خلال الذات”، في فعل سياسي مادي ملموس، يبقى ممارسة نفسية داخلية وحاجة ترفية، بلا أي تأثير في الواقع مهما بلغ من قوة وجذرية وعمق. وربما يكون المثال الأفصح على هذا النوع هو الماركسية الفرويدية والغربية بصورة خاصة وما انتهت إليه اليوم من ميوعة ولزوجة. وإن لم يرجع النوع الأول، أي فعل المعرفة القائم على “حب الذات باستخدام الآخر”، من الخارج إلى الداخل ويراجع فرضياته الأولى، يبقى الفعل السياسي مهما كان له من صخب على أرض الواقع فعلًا سطحيًا شكليًا منزوع القيم الروحية اللازمة لتحقّقه المادي الحق والصريح. وربما يكون المثال على النوع الثاني هو الليبرالية ومشتقاتها وما انتهت إليه من زهو فارغ يوحي بكثير من المخاطر.