وليم كريستو وكرم شعار
ترجمة: عمر حداد
وليم كريستو
صحفي عامل في “MENA” يعمل في تغطية السياسة في “لوفانت”، باحث في مركز الشرق للسياسات.
كرم الشعار
باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط، وكبير الباحثين في مركز الشرق للسياسات.
طرحت الحكومة السورية في 28 أيلول/ سبتمبر 2020 مشروع موازنتها لعام 2021، بقيمة 8.5 ترليون ليرة سورية (2.7 مليار دولار أميركي). ولا تزال تفاصيل هذه الموازنة قيد النقاش في البرلمان (مجلس الشعب)[1]. نتيجة الانخفاض الحاد في قيمة الليرة السورية والتباطؤ المتسارع في العملية الاقتصادية على مدار السنة الحالية؛ فإن موازنة عام 2021 لم تكن أقل بـ 27 في المئة فحسب، مقارنة بموازنة السنة السابقة بعد أخذ التضخم في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار في الحسبان، بل كانت الموازنة الأصغر منذ انطلاق الانتفاضة في 2011.
لا يُعدّ التخفيض الأخير للإنفاق الذي قامت به دمشق شيئًا جديدًا، إذ تظهر حساباتنا أن حصة الإنفاق على الفرد في سورية قد انخفضت بمقدار 70 في المئة منذ سنة 2010، على العلى الرغم من أنه من المعروف جيدًا أن الإنفاق الحكومي في حالة تقلص في سورية منذ بداية الانتفاضة، لكن اختبار الإنفاق على أساس نصيب الفرد، يسلط الضوء على حقيقة الخطورة في أزمة البلد الاقتصادية.
بصورة أخرى، فإن الحكومة ستنفق على مواطنيها في سنة 2021 ما قيمته أقل بثلاث مرات مما أنفقته سنة 2010 مع أن عدد السكان الذين يعيشون تحت سيطرتها اليوم هو نصف ما كان عليه حينها (11.7 مليون نسمة في 2020 مقابل 21.4 مليون نسمة في 2010).
[1] أقر مجلس الشعب السوري قانون الموازنة في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2020 (المترجم).
تقلص الإيرادات، تقلص الموازنة
إن الانخفاض المستمر في ميزانية الإنفاق السورية يعكس الانكماش في قاعدة الإيرادات التي يمكن لدمشق أن تستفيد منها.
بلغ إجمالي الإيرادات في سنة 2021 أقل مما كان عليه في موازنة ما قبل الحرب سنة 2010 بنسبة 83 في المئة. كما تغيرت مكونات هذه الإيرادات أيضًا.
وبحسب تقرير صادر عن المركز السوري لبحوث السياسات سنة 2019، فإن الدخل غير الضريبي (الدخل من مصادر غير الضرائب) يشكل ثلث الإيرادات السنوية العامة فقط، ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى انهيار إنتاج النفط بنسبة 90 في المئة في المناطق التي يسيطر عليها النظام منذ سنة 2011 (368000 برميل/ يوم مقابل 22000 برميل/ يوم سنة 2020).
على سبيل المقارنة كانت العائدات غير الضريبية تشكل ثلثي عائدات الحكومة في موازنة ما قبل الحرب سنة 2010.
يبقى أن نرى إلى متى يمكن للحكومة الاستمرار في الضغط على الناس بالضرائب من دون إثارة المظالم الموجودة أصلًا. كان 80 في المئة من السكان يعيشون في فقر مدقع قبل الأزمة الاقتصادية الحالية بحسب الأمم المتحدة في 2019.
نتيجة لانخفاض مستوى الدخل بشكل كبير طوال سنوات الصراع، فإن فرض الضرائب لم يكن كافيًا لتمويل جميع نفقات الحكومة السورية، ما أدى إلى عجز كبير ومستمر. تبلغ الإيرادات المتوقعة لموازنة سنة 2021 نحو 6 ترليون ليرة سورية (2.1 مليار دولار أميركي) ما يخلق عجزًا في الموازنة قيمته 2.5 ترليون ليرة سورية (902 مليون دولار).
على الرغم من احتمال أن تكون دمشق قد اقترضت مبالغ كبيرة من الجهات الفاعلة المحلية والأجنبية منذ سنة 2011 إلا أن محاولة الحكم بدقة على حجم مديونية الحكومة هو أمرٌ مستحيل، نظرًا إلى عدم شفافية المعاملات المالية للحكومة السورية.
على أي حال، إن عجز الموازنة المصنف في معظمه “مسحوب من الاحتياطي” لا يكشف عما إذا كانت هذه القيمة هي مجرد عملة مطبوعة مؤخرًا أو سندات صادرة أو أموال مسحوبة على شكل قروض من البنك المركزي.
إن ارتفاع الأسعار الملحوظ، خصوصًا منذ الانهيار الأخير في أواخر 2019، يعطي مؤشرًا إلى أن معظم هذه المبلغ “المسحوب من الاحتياطي” إنما هو لتغطية العملة المطبوعة مؤخرًا.
في كلتا الحالتين، سواء أكان ما تم الإفصاح عنه كمبلغ مسحوب من الاحتياطي هو مجرد عملات سورية جديدة أو قروضًا، فليس هناك حافز حقيقي يدفع الحكومة لإعادة هذا المال المقترض من بنوك الدولة.
في حين إن الاقتراض من القطاع الخاص على شكل سندات يعد بديلًا أفضل لطباعة العملة، من حيث كونه يؤمن غطاء للتضخم، لكن الشهية لإقراض الدولة السورية ضعيفة، وتزداد تضاؤلًا، ما يجبر الحكومة على اتباع وسائل أخرى للاستدانة.
معدل عجز الموازنة السورية الرسمية منذ سنة 2011 يقترب من 32 في المئة
كانت سورية قد استدانت مبالغ مالية ضخمة من حكومات أجنبية -إيران بشكل أساسي- إضافة إلى الدين المحلي. فعلى الرغم من عدم وجود أرقام موثوقة لقيمة هذه المبالغ، لكن توقعات بعض المحللين تقول إن إيران قد أقرضت سورية ما بين 30-105 مليار دولار خلال فترة الحرب -ما يزيد على عشرة أضعاف الموازنة السورية على أقل تقدير- ويتم تقديم معظم الديون الإيرانية إلى سورية تحت ستار “خط ائتماني” غامض نوعا ما. بينما يتركز الدعم الروسي للنظام السوري في معظمه في المجالين السياسي والعسكري.
من المستحيل لدمشق أن تبدأ التفكير في إيفاء دائنيها الدوليين في ظل الظروف الحالية. أما بالنسبة إلى سداد الدين المحلي المقترض من القطاعات الخاصة، فمن المحتمل أن تقوم دمشق بطباعة المزيد من الليرات، ما يفاقم مشكلة مستويات التضخم الحادة التي تعصف بالعملة في هذه السنة.
قل وداعًا لإعادة الإعمار
مع أن تفاصيل موازنة 2021 ما زالت قيد المناقشة في مجلس الشعب، لكن الجزء الأكبر من الإنفاق (82 في المئة) سيكون “إنفاقًا جاريًا -استهلاكيًا”، يصرف بشكل أساسي على برامج الدعم الاجتماعي كدعم السلع الأساسية من طعام ووقود، ودفع رواتب موظفي القطاع العام الذين يشكلون نحو ثلث القوى العاملة (1.6 مليون عامل).
النفقات الجارية في أعلى مستوياتها منذ بدء الانتفاضة 2021
تُعدّ النسبة المخصصة للإنفاق الجاري في موازنة هذه السنة هي الأعلى في العقد الأخير، ويأتي هذا الارتفاع المفاجئ بعكس اتجاه المنحنى الدال على السنوات الثلاث الأخيرة، والذي بدأ منذ سنة 2018 بالاتجاه هبوطًا، حيث كان الإنفاق الجاري ينخفض تدريجًا. وبالنظر إلى عمق الأزمات الاقتصادية التي تمر بها دمشق حاليًا يكون هذا الارتفاع في الإنفاق الجاري منطقيًا تمامًا.
قدرت جريدة قاسيون السورية في تقييم نشرته مؤخرًا أن متوسط تكاليف المعيشة للعائلة السورية قد ازداد بنسبة 74 في المئة منذ بداية 2020.
تحتاج العائلة السورية لتعيش حياة مريحة إلى 700 ألف ليرة سورية (304 دولار) شهريًا. بينما يبلغ متوسط الراتب الشهري في القطاع العام نحو 55 ألف ليرة (24 دولار)، ما يجعل معظم العائلات السورية غير قادرة على تأمين حاجاتها الأساسية.
وهكذا، وكي تتجنب الحكومة حدوث مجاعة واضحة، فإنها تقوم بالتركيز على الحاجات العاجلة للسكان من خلال الدعم والبرامج الاجتماعية. يشير الارتفاع المفاجئ في الإنفاق الجاري أيضًا إلى نهاية طموحات دمشق في الاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار في المستقبل القريب على الأقل.
بدأت الحكومة السورية التركيز على مشاريع إعادة الإعمار أول مرة في سنة 2018، بعد أن استعادت السيطرة على مساحات واسعة من الجنوب السوري، كما شقت طريقها نحو الجيب الذي تسيطر عليه المعارضة في الشمال الغربي. ومع ظهور أن انتصار بشار الأسد هو مجرد مسألة وقت، بدأ المستثمرون الدوليون بالهمس في نقاش من سيكون قادرًا على الاستثمار في العقود الضخمة اللازمة لإعادة بناء البلد.
على الرغم من أن دمشق قد وضعت جانبًا بعض السيولة لتمويل إعادة الإعمار على مدار السنوات القليلة الماضية، لكنها كانت تعول بشكل أساسي على الاستثمارات الأجنبية لتأمين التمويل اللازم للمشاريع.
قدرت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (ESCWA) سنة 2020 تكلفة إعادة بناء الأصول المدمرة في سورية خلال الحرب بـ 117 مليار دولار على الأقل. ما يعني أن سورية ستستغرق ما يزيد عن 1700 سنة لتدفع ذلك المبلغ باعتماد القيمة التي رصدتها لإعادة الإعمار في موازنة 2020 (66 مليون دولار).
أطاح تمرير حزمة العقوبات المرتبطة بـ “قانون قيصر” من قبل الولايات المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 2019 هذه الآمال بالحصول على التمويل الأجنبي. يبدو أن الخوف من العقوبات الثانوية قد أدى إلى إبعاد معظم المستثمرين الدوليين – باستثناء بعض الشركات الروسية والإيرانية.
ببساطة، لا تملك دمشق القدرة على الدخول في أي عمليات إعادة إعمار واسعة النطاق من دون التمويل الخارجي. فحالة اقتصادها مستمرة في المضي نحو الأسوأ، وسيكون على الحكومة العمل بطاقتها كلها لتغطية الحاجات الأساسية لأولئك المقيمين تحت سيطرتها.
تشير موازنة 2021 إلى أن الحكومة السورية ستكون منشغلة بتأمين الحد الأدنى اللازم للعيش لمواطنيها حيث جعلت الأزمة الاقتصادية التي تجتاح البلاد من ذلك مهمة غير سهلة.
ما لم يتم التوصل إلى حالة من الاستقرار السياسي، ورفع العقوبات للسماح بإعادة الإعمار، ستبقى مشاريع إعادة الإعمار الكبيرة ومتوسطة الحجم متوقفة، وسيستمر اقتصاد سورية النظام في المعاناة.
تاريخ نشر المقالة الأصلية: 1 كانون الأول/ ديسمبر 2020.
رابط النشر: