لم تشفع شهرة العلماء والأدباء العرب والمسلمين لأصحابها، بل تم اضطهاد بعضهم وزجهم في السجون، بل وقتلهم. فمثلًا، ولد عبد الله بن المقفع فارسيًا مجوسيًا واعتنق الإسلام، ومات مقتولًا (ت عام 759م) في عهد الخليفة المنصور على يد سفيان بن معاوية والي البصرة؛ ويقال إن بعض أعضائه حرقت في التنّور وهو حي. ويقال كذلك إن لقبه “المقفع” هو كنيه اكتسبها والده نتيجة التعذيب الذي تعرّض له، حيث تشنجت أصابع يديه على يد الحجاج. ويُقال إن مقتل ابن المقفع جاء على خلفية كتابة ميثاق بين عبد الله بن علي، عم السفاح، والخليفة المنصور.
وذاك جابر بن حيان (ت 813 م) قتل والده على يد الأمويين لمناصرته الدولة العباسية، فهرب إلى اليمن، ثم عاد إلى العراق بعد نشأة الدولة العباسية، واشتغل بالصيدلة وعلم الكيمياء في دكان له في الكوفة. كما عاش في مدينة دمشق القديمة، ولكنه توفي في الكوفة بعد أن فر إليها إثر نكبة البرامكة، وسجن هناك حتى وفاته.
وفي عصر الانحطاط، تعرّض ابن رشد (ت 1198م) للاضطهاد، ونفي، ثم صدر عفو بحقه. ولكنه تعرض للإهانة في حضرة مجلس المنصور، واتهم بالكفر والمروق في الدين، وأحرقت كتبه الفلسفية، ما عدا كتب الطب والحساب والفلك للحاجة إليها في معرفة اتجاه القبلة والليل والنهار … إلخ.
أمّا موسى بن ميمون (ت 1204م) فقد اختار الرحيل عندما أُجبرت دولة الموحدين اليهود على اختيار اعتناق الإسلام أو النفي. فاستقر في المغرب متظاهرًا باعتناقه الإسلام، ولكنه ظل خائفًا، فهاجر إلى مصر وأعلن يهوديته فيها. وعندما طالب البعض بإعدامه بحكم الردة، اعترض القاضي عبد الرحيم البيساني بحجة أنه من أُرغم على اعتناق الإسلام ليس بمسلم، فلا يجوز اتهامه بالردة.
وأبو بكر الطرطوشي ( ت 1127م) الأندلسي هو صاحب كتاب “سراج الملوك والخلفاء”، تنقّل في مكة المكرمة وبغداد والشام ومصر، ثم أُجبر على الإقامة الجبرية في مسجد الرصد في الفسطاط، ومات في القاهرة. ويُعد كتابه بمثابة صياغة نظرية سياسة حكيمة في ضوء الشريعة، وهذا ما أغضب الأمراء.
وابن خاقان (ت 1134م) صاحب كتاب “قلائد العِقيان ومحاسن الأعيان”، وهو أندلسي ولد في إشبيلية، وكان كثير الأسفار، مات قتلًا في فندق بمراكش بإيعاز من أمير المؤمنين علي بن يوسف.
كما عانى ابن حمدون (ت 1167م) الذي ولد في بغداد من السجن بسبب بعض الأخبار والقصص التي نشرها في كتابه “التذكرة الحمدونية”، وذلك رغم أن الخليفة المستنجد بالله قد حباه بمكانة خاصة.
وابن قيم الجوزية (ت 1350م) صاحب أكثر من مئة كتاب، وهو دمشقي حنبلي، فقد سجن في قلعة دمشق لِما كان له من فتاوى في قضايا إشكالية.
ولسان الدين ابن الخطيب (ت 1375م) الغرناطي، اتهم بالإلحاد والزندقة لما ورد في كتابه “روضة التعريف بالحب الشريف”، وعُذب وسجن ثم قتل خنقًا في سجنه وأُحرقت جثته قبل دفنه.
ولم يقتصر اضطهاد العلماء على الحضارة الإسلامية، فمن أوائل من اضطهدوا من العلماء الأوربيين في العصور الحديثة هو روجر بيكون (ت 1292م)، فنتيجة اهتمامه بالعلم والفلسفة أكثر من دراسة اللاهوت التي لم يكملها في الجامعة، حُكم عليه بالسجن بتهمة أن تعاليمه مستحدثة وخارجة عن المألوف، فضلًا عن اتهامه أن أفكاره الجديدة في الفلك مفسدة للدين. كان روجر بيكون يتكلم العربية ووصلته على الأرجح ترجمات جيراد الكريموني لأعمال الكندي وجابر بن حيان وابن سينا، وكتابات يوحنا النحوي في نقد الأرسطية.
واعتنق جوردانو برونو (ت 1600م) مذهب ابن رشد الذي أعطى دورًا قياديًا للعقل في الحكم على تأويل النصوص، فنسبت إليه تهمة الهرطقة في فترة مبكرة. وعندما اقترح برونو دعمه للمشروع الكوبرنيقي في القول بمركزية الشمس بدلًا من معتقدات الكنيسة الأرسطية في مركزية الأرض (أي أن الأرض هي مركز منظومتنا الفلكية)، شرعت الكنيسة في محاكمته واتهم جزافًا بجريمة قتل، ففر إلى جنيف واعتنق البروتستانتية، وعندما عاد إلى إيطاليا حُكم عليه بالهرطقة، فحرق حيًّا على خشبة في روما عام 1600م بعد أن مكث في السجن سبع سنوات.
كذلك اضطُهد غاليليو غاليلي (ت 1642م) لدعمه نظرية كوبرنيق، على الرغم من محاولاته إقناع الكنيسة بمرونة النصوص الدينية ومجازيتها، وكما كان يُعلم ابن رشد بأنه يمكن أن تنسجم المكتشفات العلمية الحديثة مع النصوص الدينية عبر التأويل. ومع ذلك حاكمته الكنيسة في روما، وتم التحقيق معه، وصدر قرار بوصفه مذنبًا لاعتناق المذهب الكوبرنيقي، وطالبوه بالتنكر له، فحكم عليه بالإقامة الجبرية والانعزال عن الناس حيث ظل كذلك خلال السنوات الثماني الأخيرة من حياته كتب خلالها أهم أعماله وهو “حوار حول علمين جديدين”، ووضع تأملاته الناضجة في مبادئ الميكانيكا.
لم يتوقف الاضطهاد الديني في الغرب إلا بعد أن تعلمنت أوروبا إثر الثورة الفرنسية تحديدًا، ومع ذلك دخلت في دورة من الاضطهاد السياسي الذي استمر لفترة طويلة. وعلى الرغم من أن الاضطهاد الديني توقف في أوروبا فإنه لم يتوقف في دول العالم الثالث في الأطراف، أي الدول التي تهيمن عليها المراكز الرأسمالية. ولدينا أمثلة عديدة معاصرة من إفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب شرقي آسيا، وغيرها من المناطق المتوترة دينيًا وطائفيًا وعرقيًا ومذهبيًا، والتي ما زال البحث في جذور عدم استقرارها غير مكتمل بعد. إذ يتبدى للناظر أنّ هذه الاختلافات هي مشكلة التخلف بينما في الحقيقة هي من نتاج الاستقطاب.
وكما يقول مهدي عامل في كتابه “أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية” إن نهضة البرجوازية بالفكر العربي هي التي حالت دون نهضته الفعلية إلى اليوم. ولذلك فإنها تحاول إخفاء فشلها الطبقي بقولها إن الفكر ليس فكرها إنما هو فكر الماضي، هو العقل العربي! وما المشكلات التي تطرحها البرجوازية المحلية، كالتخلف والتقدّم، الحداثة والنهضة، التراث والمعاصرة… إلخ، إنما هي أدوات البرجوازية الكولونيالية المفلسة للتغطية على فشلها ولإعادة إنتاج ذاتها. وفي هذا السياق يدفع العلماء والمتنورون الثمن عبر الاضطهاد، إما على يد السلطة أو ما تنتجه من شعب متخلف، كما حدث مع حسين مروة، ومهدي عامل، ونصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، ونوال السعداوي، وسيد القمني، وغيرهم.