في زمنٍ مضى كانت للنصّ المكتوب سطوة، وكان للنشر في صحيفة أو مجلة سحرٌ، فيما يزخر العصر الحالي بكتابات ومنشورات هائلة في كل لحظة. كل فرد اليوم هو كاتب بطريقة أو أخرى، لكن ليست كل كتابة إبداعًا. كان الإبداع دائمًا لصيقًا بالقلّة، بينما الرّداءة شقيقة الكثرة. كل البشر كانوا يشاهدون التفاحة تسقط من الشجرة على الأرض، لكن نيوتن وحده من شغل تفكيره بسقوطها. نيوتن وحده من أبدع.
كثرة الكتّاب اليوم توازيها قلّة القراء في منطقتنا. الساحة متخمة مثلًا بسياسيين لا يقرؤون. يمارسون السياسة على الطريقة السبحانية، أدواتهم الشعارات والفضائيات والسفارات وحسب. كأننا في سوقٍ يصرخ فيه الجميع لبيع بضاعتهم لكن لا أحد يشتري. هناك بيئة مفتوحة اليوم على مصراعيها، وفّرتها وسائل الاتصال الحديثة؛ كل فرد يكتب بحرية، سواء أتقن لغة الكتابة ومعاييرها أم لا، يكتب متمردًا، هكذا يعتقد، على المعايير والأعراف والتقاليد والقوانين والآداب، أو في الأحرى يضع نظمه الخاصة به، وهذه تستند إلى ثقافة مسطحة. هذا الانعتاق، وربما الانفلات، من الخوف والكبت والسجن، السياسي والاجتماعي، يوازيه جوع مديد وعطش شديد إلى التعبير، يتّخذان، في أحيانٍ كثيرة، صيغة النهش أو “اللّبط”، بدلًا من الهضم البطيء. قالوا قديمًا الجائع لا يميِّز بين أصناف الطعام. التعبير بصخب مثل تناول الطعام بصخب، كلاهما يثيران الاشمئزاز في الأنفس.
كثرة التعبير يوازيها أيضًا ضعف شديد في الذاكرة، فلا يكاد المرء يذكر ما كتبه قبل يوم وهو في أشدّ انفعالاته، فكيف سيتذكر ما كتبه قبل عام أو ثلاثة؛ هو لا يكترث لشيء إلّا لتفريغ شحناته موقّتًا، غير مهتمٍّ بآثارها، ولا باكتشاف أحدهم لتناقضاته أو “خزعبلاته”. المهم أن يعبِّر ويعبِّر ويعبِّر، وأن يكتب ويكتب ويكتب، ولا مشكلة بالنسبة إليه إن ظلّ عقله برميلًا بلا قعر، لا يثبت فيه شيء، ولا يرسم مسارًا تراكميًّا لأي شيء، ولا يتوخّى هدفًا إلى أي شيء.
مع اكتساح وسائل التواصل لحياتنا، واكتساحنا لساحاتها، حدثت تطوّرات إيجابية في حياتنا وأنماط عيشنا وطرائق تفكيرنا باتت معروفة على نطاق واسع. لكن، جنبًا إلى جنب، استيقظت أو نمت سلبيات تكاد تفتك بنا لا سبيل إلى إنكارها. ثمة نمط جديد من الاستبداد يلتهم حياتنا اليوم، وربما يرمينا بعيدًا لنكون فضلات العصر الجديد. إنّه استبداد الفوضى والصراخ والتفاهة والجهل والشعبوية، وهو أسوأ أنواع الاستبداد، ومنه يتغذّى الاستبدادان السياسي الديني اللذان يكاد اجتماعهما معًا أن يكون ميزة حصرية خاصة بمنطقتنا، المنطقة الموسومة بالعيش بلا أمل أو أفق.
أطلق بعضهم اسم عصر الميدياقراطية، عصر سلطة وسائل الاتصال التي تكاد تصبح سلطة فوق كل السلطات؛ سلطة متغطرسة وغير مسؤولة وخطرة. سلطة تهدِّد الحياة الثقافية حين يصبح إيقاعها السريع والموقّت والمباشر معيار الحكم على الإنتاج الثقافي. سلطة تحوِّل الديمقراطية إلى حطام عندما تصبح هي مصدر ومرجعية قرارات السياسيين. سلطة تدفن فكرة العدالة عندما تغدو هي أساس أحكام الإدانة والبراءة.
تبدو الحقيقة اليوم ملك من يصرخ أكثر، وصاحب الصوت العالي له صدارة المجلس. ويبدو الصراخ جوهر معظم ما يُكتب أو يُنشر اليوم. أصبحت الكتابة تعبيرًا عن الصراخ لا التفكير. الصراخ سهل وشائع فيما التفكير صعب ونادر. الضجيج وضياع الحوار وتعميم التفاهة وتسييد الفوضى وتغذية الانقسام والكراهية هي بعض منتوجات الصراخ أو الكتابة وفق إيقاع الصراخ. ربما لأنّ ثيودور هرتزل قال ذات يوم إن تاريخ البشرية “ليس سوى قطعة من سلاح وجعجعة الرأي الزاحف”، ولذلك نصح أتباعه “عليكم أن تصيحوا وتصيحوا وتصيحوا”. بعضهم، في منطقتنا، اقتنع بالصراخ سلاحًا، ربما لأنّه لا يتقن غيره، واعتقد أن الثورات تنتصر بالجعجعة.