النفوذ الأوروبي غير المستغل في سورية

1.  نصف قرن من الانحدار

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 مرت الذكرى الخمسون للانقلاب العسكري الذي أوصل حافظ الأسد إلى السلطة في سورية. والذي أطلق عليه نظامه اسم “الحركة التصحيحية”[1]، سمح الانقلاب للأسد بتعزيز سيطرة حزب البعث، الحزب نفسه المستولي على السلطة منذ عام 1963، ودفعه إلى التعدي تدريجيًا على كل جانب من جوانب حياة السوريين من خلال نظام تلقين عقائدي يبدأ من المدرسة الابتدائية. بشعارات اشتراكية وقومية، جعل الأسد دمشق “قلب العروبة النابض” وجعل هذه الفكرة هي المهيمنة في حكمه.

إن مسار انحدار النظام التدريجي إلى الاستبداد المطلق موثق جيدًا، كما هو الحال مع تدخله السيئ السمعة في المنطقة، وفي مقدمتها لبنان، وفي جميع أنحاء العالم (بما في ذلك المحاولة السيئة السمعة لتفجير رحلة تابعة لشركة إل عال عام 1986، والمعروفة باسم قضية الهنداوي[2]). بعد الانتفاضة التي قادها الإخوان المسلمون ومذبحة حماة (التي قيل إنها قتلت ما يصل إلى 40 ألف شخص بأوامر من رفعت الأسد شقيق الديكتاتور[3])، كان الأسوأ مقبلًا بالنسبة للسوريين؛ عاشوا في عزلة تامة، معزولين عن العالم العربي بسبب دعم النظام لإيران في حربها مع العراق (الدولة العربية الوحيدة التي فعلت ذلك، على الرغم من العروبة المعلنة)، وحُرّمت معظم حقوق الإنسان والضروريات الأساسية مثل الوصول المنتظم إلى الماء أو الكهرباء.

لقد أدت الرغبة الأميركية في المشاركة العربية لتحرير الكويت عام [4]1991، وما تلاها من إطلاق عملية مدريد للسلام غير المسبوقة، إلى إعادة الأسد أخيرًا إلى الساحة الدولية المحترمة. مهد هذا الطريق لابنه بشار لتولي السلطة بسلاسة عام 2000، وتحويل سورية إلى أول جمهورية وراثية في المنطقة. لأول مرة منذ عام 1970، اعتقد العديد من السوريين أنهم كانوا يتخذون منعطفًا وأن التفاحة ستسقط بعيدًا عن الشجرة. سرعان ما أظهر لهم العقد التالي أن هذا لم يحدث، وفي السنوات التي تلت ذلك، أدركوا أن الابن سيتجاوز قسوة والده.

1.1 العقد الأول المضطرب لبشار

بالنسبة إلى النضج الملحوظ لسياسات الأسد الأب، أظهر العقد الأول من حكم الأسد الأصغر حدودًا من قلة الخبرة، مع ميله إلى إصدار أحكام متهورة مقترنة بغرور غير محسوب. على الجبهة المحلية، سرعان ما تم تحطيم الضجة حول زيادة الحريات، التي تم تسويقها من الموالين للأسد، بسبب عدم تسامح الأسد مع المعارضة ورده القاسي على دعوات الإصلاح. تم إسكات وسجن العديد من نشطاء المجتمع المدني والكتاب والمثقفين، بتهمة تهديد الأمن القومي عندما تجرؤوا على الحديث عن حقوق الإنسان وحرية التعبير.[5]

مع الغزو الأنكلو أميركي للعراق في عام 2003، بدأت إدارة بوش في تصوير الأسد على أنه صيد سهل[6] بعد تحديه الصريح للولايات المتحدة، ودعمه الصريح للمقاومة المسلحة ضد القوات الأجنبية في العراق. في حين أن العمل العسكري لم يُنظر فيه حقًا، إلا أنّ الولايات المتحدة أقرت على الفور قانون محاسبة سورية واستعادة السيادة اللبنانية، ما أدى إلى تضييق الحبال على الأسد على أمل أن يغير ذلك سلوكه.[7]

كما حرض بشار الأسد سلسلة من الأحداث مع الجار المضطرب الآخر، ما أجبر السياسيين اللبنانيين على تمديد ولاية الرئيس المعيّن إميل لحود بشكل غير دستوري. كانت هذه إملاءات غير حكيمة، حيث كان بإمكان الأسد ضمان ولاء العديد من المرشحين بدلًا من فرض لحود.[8] وأثار ذلك إدانة دولية وتبني قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 لعام [9]2005 برعاية فرنسية أميركية، القرار الذي دعا إلى انسحاب القوات الأجنبية من لبنان. تبع ذلك الانسحاب المهين للقوات السورية، بعد أسابيع من اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والذي نُسب على الفور إلى سورية وحليفها حزب الله.

ترافقت كارثة لبنان محليًا مع حملة متجددة ضد منتقدي النظام، لا سيما أولئك الذين تجرؤوا على التعبير عن تضامنهم مع أقرانهم اللبنانيين.[10] بمعزل عن معظم دول العالم العربي مرة أخرى، وجد نظام الأسد ارتياحًا غير متوقع عقب الحرب الإسرائيلية على حزب الله في عام 2006؛ مع عدم قدرة إسرائيل على سحق الميليشيا المدعومة من إيران، نجحت هذه الأخيرة في شل لبنان، وسلطت أذرعها على اللبنانيين في انعكاس جذري ودموي للمواقف المعلنة[11]، وأصبحت صانع الملوك في اتفاقية استضافتها قطر في عام 2008.[12] على الرغم من كل الصعاب، تمت إعادة تأهيل بشار الأسد مرة أخرى من خلال شراكته مع حزب الله، حيث احتل مكانه بين قادة العالم في باريس بدعوة من الرئيس نيكولا ساركوزي لاستعراض 14 يوليو.

بعد أقل من ثلاث سنوات، قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية في جنوب سورية وانتشارها كالنار في الهشيم في جميع أنحاء البلاد، افترض بشار الأسد أنه لا يقهر. بعد أن نجا مرارًا وتكرارًا من الاضطرابات العديدة دون أن يصاب بأذى، تفاخر في فبراير 2011 في صحيفة وول ستريت جورنال بشأن استقرار بلاده أثناء انتقال الربيع العربي في جميع أنحاء المنطقة.[13] بعد أسابيع قليلة، أُشعل الفتيل في درعا بسجن وتعذيب صبية كتبوا على حائط مدرستهم: حان دورك يا دكتور.[14]

1.2  العقد الثاني القاسي لبشار

عندما تحول المدنيون السوريون إلى ثوار، تحدوا النظام رغم علمهم بقوته الهائلة واستعداده المؤكد لسحق أي معارضة بعنف، افترضوا أن المجتمع الدولي لن يسمح بحماة أخرى، ولن يظل مكتوف الأيدي وهو يشاهد ذبح المدنيين. توقع السوريون أن يتم تحذير النظام الذي صُنف على أنه راعٍ للإرهاب لعقود من الزمن، وأن يتوقف عن مساره بعد سنوات من الخطابات حول ضرورة الإصلاح. سرعان ما أدركوا أنه ما من مساعدة آتية صوبهم؛ ومع ذلك، استمروا.

لقد خلقت الحصيلة المذهلة للقتلى والدمار على أيدي الأسد وحلفائه واقعًا جديدًا في المنطقة وخارجها، مع عدم وجود أدنى دليل على أنه من الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستعادة ما يشبه الحياة الطبيعية.

الأرقام الحالية تقديرات في أحسن الأحوال، وأقل من الأرقام الفعلية في أسوئها. على الرغم من أن الأمم المتحدة أعلنت أنها ستتوقف عن إحصاء عدد الضحايا في وقت مبكر من الحرب، زاعمةً أنه من الصعب الحصول على أرقام دقيقة، صرح المبعوث الخاص آنذاك ستيفان دي ميستورا في أبريل من عام 2016 أنّ عدد القتلى قد وصل بالفعل إلى 400 ألف على الأقل. تم تقديم هذا التقدير المتحفظ قبل الجزء الأكبر من حملة القصف الروسية واعتداءات النظام العنيفة على حلب في وقت لاحق من ذلك العام، وعلى الغوطة في عام 2018، وعلى إدلب من عام 2019.[15]

لكن منظمات المجتمع المدني السورية ومنظمات حقوق الإنسان الدولية كانت تتابع عن كثب، ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، أدت هذه الحرب بالفعل إلى مقتل ما لا يقل عن 586 ألف سوري.[16] علاوة على ذلك، تم توثيق الفظائع التي ارتكبها النظام وحلفاؤه بدقة من قبل العديد من المراقبين المستقلين، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية والمركز العالمي لمسؤولية الحماية، الذين يقدرون عدد القتلى بأكثر من 560 ألفًا.[17]

إذا كانت السنوات العشرين الأخيرة من حكم بشار الأسد قد أظهرت شيئًا، فهو أن استقرار البلاد حتى الآن لم يتم ضمانه إلا من خلال القمع الشديد والتذبذب الدولي بشأن سورية. تم تكييف الاقتصاد لكيلا يستفيد منه سوى المقربين من الأسد، في حين كانت البنية التحتية الأساسية والتعليم والصحة تتدهور بسرعة تنذر بالخطر، مصحوبة بارتفاع معدل النمو السكاني، وتفشي البطالة، ونشوء جيل جديد من دون أي آفاق على الإطلاق حتى للحياة البسيطة التي حظي بها أهلوهم.

مع الربيع العربي أو بدونه، كانت سورية منذ فترة طويلة على الطريق الزلق نحو الانفجار الداخلي.

1.3 استنتاجات معيبة

على الرغم من هذه التطورات المروعة، في الذكرى الخمسين لانتزاع نظام الأسد السلطة في سورية، وبعد مرور 10 سنوات على الانتفاضة الشعبية في آذار/مارس 2011 وما تلاها من حرب، فإن جوقة من الأصوات الأوروبية تقاوم السوريين في المعارضة والمجتمع المدني من خلال تأدية دور محامي الشيطان بطريقة حرفية، مجادلةً من أجل قبول ما يسمى “الحقائق على الأرض”.

تدعو هذه الرواية بشكل مبسّط إلى أنه بعد الانتصار العسكري للنظام واستعادته جزءًا كبيرًا من سورية، قد يكون الوقت قد حان لإعادة معايرة نهج أوروبا (والعالم) تجاه نظام الأسد، مع الاعتراف الفعلي بالأسد قائدًا سوريًا، ورفع العقوبات “لمساعدة السوريين” الذين يتضررون منها أكثر بكثير من النظام.

علاوة على ذلك، يجادل هذا السرد بأن المساهمة الأوروبية الكبيرة في إعادة إعمار سورية ضرورية للسماح بإعادة اللاجئين السوريين من قواعدهم الأوروبية، بعد أن أصبح أمنهم كما يُزعم لم يعد مشكلة. بعبارات أخرى، توصف سورية بحالة ما بعد الحرب، ويتم التسويق للأسد على أنه شر لا بد منه. يبدو أن مثل هذه الحجج ترتكز بقوة على تمني التخلص من السوريين في أوروبا، ومنع الآخرين من محاولة العثور على اللجوء هناك. ومع ذلك، ليس لديهم على الإطلاق أي علاقة بالواقع الحالي أو آفاق المستقبل. بالنسبة إلى معظم السوريين، مع وجود نصف قرن من الأدلة لدعم موقفهم، يظل نظام الأسد أسوأ بديل ممكن، ولا يزال استمرار قبضته على السلطة عقبة أمام عودتهم.[18] في الوقت الحالي، لا يزال الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي هو أن “الأوضاع داخل سورية في الوقت الحالي لا تصلح لتشجيع العودة الطوعية على نطاق واسع، في حالة من السلامة والكرامة بما يتماشى مع القانون الدولي”.[19]

يمكن لأوروبا فعل ما هو كثير للتخفيف من بعض الخراب في السنوات العشر الماضية في سورية وما حول سورية. مع فرار السوريين من وحشية الأسد وحلفائه، كانت أوروبا سخية في ما يتعلق بأموالها، ولكنها بخيلة بدعمها للمبادئ ذاتها التي تدعو إليها بشأن حقوق الإنسان والمساءلة والعدالة والديمقراطية.

بطبيعة الحال، فإن الاتحاد الأوروبي مؤسسة ضخمة تُعتمد قراراتها التي غالبًا ما تتباطأ بسبب سياسات أعضائها ذوي السيادة. ومع ذلك، لديها رئيس المفوضية الأوروبية، وممثل سامي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والعديد من كبار المسؤولين الذين لهم نفوذ ومهمتهم العمل من أجل المصالح الجماعية للاتحاد. إنهم بحاجة إلى إعادة النظر في موقفهم وتقييم مسارات العمل الجديدة.

بعد خمسين عامًا من الأسدية الوحشية التي لم تؤثر على السوريين وجيرانهم فحسب، بل خلقت أيضًا أمواجًا عبرت البحر الأبيض المتوسط، حان الوقت لإعادة تقييم السياسات الأوروبية تجاه الصراع السوري، ولو للمصالح أوروبية طويلة المدى فقط. بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن الاضطلاع بدور قيادي في حل سورية ليس مجرد مسألة سياسة خارجية: إنها مسألة مصلحة استراتيجية وأمن محلي، وكلاهما سيبقى بعيد المنال بينما يظل الأسد في السلطة.

2. عقد السلبية المختارة الأوروبي

كان القرن الحادي والعشرون قد بدأ بشكل جيد بالنسبة لبشار الأسد، الذي بدا أن صعوده إلى السلطة يقره معظم قادة العالم، ولا سيما الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الزعيم العالمي الوحيد الذي حضر جنازة حافظ الأسد في يونيو 2000. وبدعم فرنسي، كان من المفترض أن تنخرط سورية في إصلاحات جادة على الصعيدين الاقتصادي والإداري، وفي النهاية على المستوى السياسي. ومع ذلك، تكرر الإحباط في باريس في عواصم الاتحاد الأوروبي الأخرى، حيث أظهر بشار الأسد بسرعة ألوانه الحقيقية محليًا وإقليميًا.

2.1 الاتفاقية المراوغة للشراكة مع الاتحاد الأوروبي

بدأت إحباطات الاتحاد الأوروبي المبكرة تجاه سورية بتردد الأسد بشأن اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي[20] ورفضه قبول إدراج إشارات إلى حقوق الإنسان وأسلحة الدمار الشامل. لكن بطريقة نموذجية لدبلوماسية الأسد، أظهر النظام السوري فجأة توقًا لاتفاقية الشراكة عندما كانت مكانته الإقليمية والدولية في خطر أو أسوأ من ذلك. وبالتالي، عقب غزو العراق، كان النظام سيرحب بالتوقيع على الاتفاقية. لكن في عام 2006، أصدر بشار الأسد تحذيرًا مزدوجًا للأوروبيين والسوريين الذين يأملون في الحصول على مساعدة من أوروبا. وفي حديثه مع الصحفي حمدي قنديل عبر تلفزيون دبي، قال إنه حذر الأوروبيين من التدخل في الشؤون الداخلية السورية، وأن أي تدخل من سفارة أجنبية لمصلحة أسير سوري سيعد خيانة من جانب المعتقل.[21]

عندما تعزز موقف سورية الإقليمي مرة أخرى، وأصبحت أوروبا على استعداد لإعادة إطلاق عملية التفاوض، تقاعس الأسد مرة أخرى ورفض. تبخرت كل الآمال في التوصل إلى اتفاق مع بدء الانتفاضة السورية، لكن مثل هذه الأمثلة على الرضا الأوروبي تكثر للأسف في ما يتعلق بنظام الأسد. كان من الواضح بشكل صارخ طوال الوقت أن الأسد سعى للحصول على تمويل أوروبي بينما رفض إصلاحًا اقتصاديًا جذريًا (خشية أن تتأثر شبكة المحسوبية) أو سياسيًا، وأنه لن يصبح نوع الشريك الذي أنشأ له الاتحاد الأوروبي هذه الاتفاقية.

2.2 العقوبات والتردد

في عام 2011، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على النظام السوري ردًا على قمعه العنيف للانتفاضة المدنية.[22] استهدفت العقوبات الشركات ورجال الأعمال المرتبطين بالنظام، وشملت حظرًا على استيراد النفط؛ وقيدوا بعض الاستثمارات وتصدير المعدات والتكنولوجيا إلى سورية. وجمدوا أصول البنك المركزي السوري المودعة في الاتحاد الأوروبي. كما تم إصدار إدانات رسمية لعنف النظام بشكل منتظم، ولكن لم يُحاول سوى القليل لكبح جماح الأسد وجيشه وميليشياته المتنامية.

كما تأثرت قرارات الاتحاد الأوروبي الفاترة بالخلافات من الداخل حول طريقة التعامل مع الأسد، حيث كانت بعض الدول الأعضاء أقل رغبة في اتخاذ موقف قوي ضد النظام. قوبلت المواقف الأولية القوية لبريطانيا وفرنسا وهولندا وألمانيا بإحجام دول مثل اليونان وإيطاليا والمجر وبولندا وجمهورية التشيك (الأخيرة، على عكس بقية أعضاء الاتحاد الأوروبي، لم تغلق سفارتها في دمشق). لا تزال هذه الخلافات قائمة حتى اليوم، مع تزايد الدعوات لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع الأسد من نفس المجموعة.

خلال ممارسة أقل الضغوط على نظام الأسد الذي لم يكن لديه فرصة لإحداث تغيير حقيقي، لم يقدم الاتحاد الأوروبي مساعدة ملموسة للمعارضة السياسية التي بدأت البحث عن إجماع على خطوط السياسة الرئيسة، وعن دعم الدول الديمقراطية القوية. كان مفهومًا دومًا أن التدخل العسكري الأوروبي لم يكن خيارًا أبدًا؛ علاوة على ذلك، حتى الدعم السياسي الجاد لتحالف مجموعات المعارضة السورية تعرقل بسبب إصرار أوروبي ودولي على أن تكون المعارضة بالإجماع والشمول. على عكس المعارضات الأخرة في جميع أنحاء العالم، لم يُمنح السوريون الحق في الاختلاف بينهم، وقيل لهم بعبارات لا لبس فيها إنهم لن يحصلوا على دعم كبير حتى يتوصلوا إلى اتفاق منسجم بينهم على كل شيء عمليًا. أهدر هذا وقتًا ثمينًا بينما كان الأسد يكافح عسكريًا، مما منحه تطمينات غير مباشرة بأن المعارضة لا يمكن أن تشكل تهديدًا لهيمنته.

كما لم تحاول أوروبا الضغط بشكل جدي على الدول الأخرى الداعمة لنظام الأسد. في الواقع، حدث العكس في حالة إيران، التي كانت عدة دول تتفاوض معها على اتفاق نووي بأي ثمن. جاء هذا الأخير، في الواقع، على عاتق السوريين الذين عانوا من وطأة اعتماد النظام المتزايد تدفق المساعدات المادية والمالية والعسكرية الإيرانية – كل ذلك دون عوائق بأي شكل من الأشكال بموجب الاتفاق النووي. على العكس من ذلك، فقد تمكنت إيران من نشر أجنحتها وتعدي نفوذها على سورية بشكل أكبر بسبب الاتفاق النووي.

على الرغم من قوته الهائلة لكونه مؤسسة، أو مجموع أجزائه المختلفة، أظهر الاتحاد الأوروبي جمودًا تامًا عندما بدأ الأسد وحلفاؤه ارتكاب أعظم جرائم الحرب التي شهدها هذا القرن. العالم دان، لكن وقف متجمدًا أمام المذابح الجماعية للمدنيين كتلك في الحولة[23]، المجازر الكيماوية[24]، حصار الغوطة[25] وحلب[26] ومدن أخرى، وحملات قصف ضخمة بالبراميل المتفجرة السيئة السمعة[27]، وإطلاق صواريخ سكود على المناطق المدنية[28]، والهندسة الديموغرافية[29]، والتهجير القسري، وتعذيب المدنيين على مستوى صناعي ضخم[30]، والاستهداف النوعي للمدارس والمستشفيات[31] والأسواق، وتدمير جميع المباني والبنية التحتية، التي يمكن أن تفيد أي سوري اختار الانتفاضة على الأسد.[32]

لم تكن هذه السلبية الأوروبية نتيجة غير مقصودة لتقييد أيدي الدول المؤثرة، ولا النتيجة المؤسفة للعوائق في مجلس الأمن: فقد تم اختيارها عمدًا مسارًا ثابتًا للتقاعس عن العمل. منذ البداية، كان هناك جهد أوروبي متضافر ليكون جزءًا من إجماع دولي واسع (وبالتحديد مجموعة أصدقاء سورية الكبيرة[33])، مع ضمان نقل العصا إلى الولايات المتحدة لتولي زمام القيادة في سورية في الوقت نفسه.

عندما رفضت إدارة أوباما التزحزح عن دعمها الملموس للمعارضة (تقديم نظارات الرؤية الليلية، على سبيل المثال، التي لا يمكن أن يكون لها تأثير في البراميل المتفجرة التي تتساقط من مروحيات الأسد)، وعندما اتخذ الرئيس أوباما الطريق السهل ردًا على ذلك. كانت أول مذبحة كيماوية واسعة النطاق في الغوطة على الرغم من تحذيره من “الخط الأحمر”[34]، كان الاتحاد الأوروبي أكثر من سعيد أن يحذو حذوه، متشدقًا بالكلام عن عدم قدرته المزعومة على فعل المزيد.

2.3 العامل الروسي

مع دخول روسيا العسكري إلى الصراع السوري في عام 2015، بزعم أنها كانت تقاتل داعش بينما في الواقع تقصف مناطق المعارضة والمدنية فقط [35] (تاركةً استهداف داعش في الرقة على الأغلب للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة)، واصل الاتحاد الأوروبي تراجعه إلى مكان غير ذي صلة بالمشهد السوري، على الرغم من التصاعد المتزامن في عدد اللاجئين الذين يلتمسون اللجوء في صلبه، الأمر الذي تسبب لاحقًا في اضطرابات سياسية كبيرة داخل الاتحاد وفي دول مختلفة.

طبعًا هذا الشلل الأوروبي لم يقتصر على سورية. ففي مواجهة العدوان الروسي في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، كان بإمكان الاتحاد الأوروبي أيضًا اتخاذ موقف أقوى بكثير وإظهار قوته لكونه مؤسسة، ولكن سرعان ما اتضح لروسيا أنه ليس لديها الكثير لتخشاه من ناحية انتقام حقيقي. على عكس العواقب الأكثر محدودية التي تعرض لها الاتحاد الأوروبي لسماحه لأوكرانيا بأن تقع فريسة للضغط الروسي من أجل نفوذ أكبر، كان للأحداث في سورية، في المقابل، تأثير حقيقي وملموس على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ولكن مع تطوراتها المقلقة، التي تشهد تصاعدًا في الحركات الشعبية، وتراجع الولايات المتحدة من المنتديات الدولية، وأزمة لاجئين غير مسبوقة، ومواجهة الواقع المفاجئ لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (متأثرة نفسها ولو جزئيًا على الأقل بأزمة اللاجئين)، يبدو أن الاتحاد الأوروبي فقد توجهه السياسي المشترك، حيث أصبح غارقًا في السياسات المحلية والسياسات التي تتعلق بالهجرة والأمن والاندماج.

2.4 المساعدة الأوروبية لسورية

مع سورية، ركز الاتحاد الأوروبي توجهه إلى المساعدات الإنسانية. منذ عام 2011، وزعت حتى الآن ما يقرب من 20 مليار يورو على السوريين، مع 4.9 مليار أخرى تعهدت بها لعام 2020 وما بعده، من خلال منظمات الإغاثة ومنظمات المجتمع المدني المحلية.[36] ومع ذلك، فإن هذا المبلغ الهائل لم يحل مشاكل حقيقية ولم يخفف من معاناة السوريين. دون ضغوط سياسية جادة لاحتواء الهجوم العسكري للأسد وحلفائه، لا يمكن لأي قدر من المساعدة أن يحمي المستفيدين المقصودين، خاصة أن النظام قد أمّن – من خلال حق النقض الروسي في مجلس الأمن – احتكار عمليات التسليم من خلال ضوابط حدودية محدودة.[37]

في الوقت نفسه، منذ بداية الانتفاضة، واصل الاتحاد الأوروبي بحق تقديم الدعم المالي واللوجستي للعديد من منظمات المجتمع المدني السوري، واستثمر في بناء القدرات وزيادة الوعي حول الديمقراطية والمساءلة والعدالة والمواطنة. ومع ذلك، تمامًا كما هو الحال مع المساعدات الإنسانية فإن هذا الاستثمار المهم في مستقبل السوريين سيصبح بلا معنى، وسيكون من أجل لا شيء إذا كان المستفيدون غير قادرين على تطبيق ما تعلموه، وإذا كان درسهم الوحيد من الاتحاد الأوروبي هو “افعل كما نقول، ليس كما نفعل نحن”.

3 آثار التقاعس عن العمل

مع اقتراب الثورة السورية من الذكرى السنوية العاشرة على اندلاعها، بعد مد وجزر في السيطرة على أجزاء مختلفة من البلاد من جانب قوات المعارضة (المقاومة العسكرية التي تشكلت من قبل الجنود المنشقين الذين رفضوا الانصياع لأوامر إطلاق النار للقتل، والمدنيين الذين حملوا السلاح وانضموا إليهم تدريجيًا في الجيش السوري الحر)، تمكن نظام الأسد من استعادة مناطق واسعة من سورية بدعم من الحلفاء الأقوياء الذين أكدوا له تحقيق نصر عسكري. ومع ذلك، في المستقبل المنظور، لا يزال الأسد وروسيا بحاجة إلى التعايش مع وجود القوات الأمريكية في الشمال الشرقي، ووجود القوات التركية في شمال البلاد.

3.1 النصر العسكري

مع أن أغلبية الهجمات جاءت من الجو، من طائرات الهليكوبتر أكانت أم من الطائرات المقاتلة، فإن الانتصارات الأولية للمتمردين السوريين قد انقلبت حتمًا دون القدرة على تحييد طائرات الأسد. لم يتم تسليم الأسلحة الكافية (وبالتحديد منظومات الدفاع الجوي المحمولة)، ولا تطبيق منطقة حظر الطيران التي طالب بها معظم المعارضة السورية عمومًا والمجتمع المدني بقوة، أو حتى النظر بجدية فيها.

ومع ذلك، لولا الدعم الفعلي من إيران (على الأرض) وروسيا (في الجو)، لما كان الأسد قادرًا على استعادة قرية واحدة من المتمردين السيئي التسليح. وبالتالي، فإن هذا الانتصار العسكري ليس للأسد ولا للجيش السوري الذي تدريجيًا أخذ دورًا أقل بروزًا مقابل الميليشيات المدعومة من إيران (أقواها حزب الله)، تحت التوجيه الاستراتيجي لقاسم سليماني حتى اغتياله عام 2020، مع قيام القوات الجوية الروسية بالأعمال الصعبة. أما جيش الأسد وميليشياته، فكانوا يتحكمون بشكل كامل في اعتقال وسجن وتعذيب عشرات الآلاف من السوريين، كما وثقته صور قيصر المهربة من سورية.[38]

هذه نقطة مهمة يجب مراعاتها عندما تبدأ أوروبا التخطيط لسيناريوهات ما بعد الحرب؛ إذا لم تتم مساءلة مجرمي الحرب هؤلاء، فسيكون من المستحيل تحقيق حالة سلام وتعايش سوري فعال – خاصة عندما أثبت الأسد بنفسه أنه غير قادر على الصمود دون مساعدة جادة، وسوف يلجأ مرة أخرى إلى العنف الشديد عند أي علامة احتجاج.

3.2 المضائق الاقتصادية الرهيبة

حتى مع هذا الانتصار العسكري للأسد، لا شيء آخر يتحسن للنظام. في الواقع، تدهور وضع جميع السوريين بشكل كبير، حيث أثبت التقدم العسكري أنه غير مهم للاقتصاد. ومع ذلك، فإن العقوبات ليست سوى جزء صغير من المعادلة، ومن غير المرجح أن يخفف قرار تخفيف العقوبات بشكل كبير من معاناة السوريين. كما رأينا مرارًا وتكرارًا، يصادر الأسد كل مساعدة مخصصة للسوريين المحتاجين لإعطاء الأولوية لميليشياته وأمراء الحرب وأعوانه، دون ترك أي شيء ليتقاطر على السكان.

تظهر الحريات المالية التي اتخذها النظام، كما أثبتتها التطورات المحلية الأخيرة مرة أخرى، أن الأسد ينقلب على أقرب حلفائه وعائلته عند الحاجة، للتأكيد على حكمه. إن تجريد الأسد العلني لابن عمه رامي مخلوف قوته، الذي كان حتى ذلك الحين مدير محفظة نظام الأسد، هو أحدث مثال على ذلك. تخفيف العقوبات دون قيود لن يصل إلى من هم في أمس الحاجة إليه.

إضافة إلى ذلك، من خلال حق النقض لحلفائه في مجلس الأمن، ضمن الأسد أيضًا أن المساعدات الدولية تأتي من خلال الحدود التي يسيطر عليها فقط.[39] وهذا يسمح له بتوزيع المساعدات وفقًا للتحالفات التي تناسبه، مما يضمن أن الأشخاص الذين يحتاجهم يستفيدون بما يرضيهم، ويتجاهل تمامًا مسألة المكان الذي تشتد الحاجة للمساعدات به.

أدى التأثير الكلي لهذه العوامل مجتمعة إلى اختبار السوريين في المناطق التي يسيطر عليها النظام -حتى السوريين الذين يفضل النظام تصويرهم على أنهم مؤيدون نشطون- لأكثر الظروف قسوة منذ بداية الحرب. غُمرت شبكات التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة بصور نشرها سوريون في دمشق وحمص ومدن كبرى أخرى في سورية تحت سيطرة النظام، تظهر طوابيرًا ضخمة أمام المخابز، أو حتى مقاطع فيديو تُظهر سوريين يضطرون إلى الركض خلف شاحنة توصيل الخبز، وكثيرًا ما يعودون إلى المنزل خاليي الوفاض للأطفال الجوعى. في الوقت نفسه، تم عرض صفوف ضخمة من السيارات تنتظر في الطابور لأيام كاملة لملء خزانات الوقود الخاصة بهم، في جميع أنحاء البلاد.[40]

بينما يكافح السوريون العاديون من أجل البقاء، يستمر الأثرياء المرتبطين بالنظام في التمتع بامتيازاتهم الرأسمالية القائمة على المحسوبية. تفاخرت إيماتيل (أحدث شركة اتصالات سورية بعد تجريد رامي مخلوف احتكاره لشركة سيريتل) على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها بأنها أول شركة -وسورية هي الدولة الأولى- تبيع iPhone 12، أحدث منتجات أبل الذي لم يمض على إطلاقه سوى عشرة أيام حتى وجوده في دمشق.[41]

هذه ليست أفعال نظام لديه أي نية لتأمين معيشة مواطنيه المتبقين بمساعدة الاتحاد الأوروبي.

3.3 لاجئون بلا مأوى

ولعل القضية السورية التي يتردد صداها في أوروبا هي قضية اللاجئين، التي تعد عبئًا لا يطاق على القارة. بعد الترحيب الأولي في عام 2015، لا سيما في ألمانيا التي أعلنت أنها ستستقبل مليون لاجئ،[42] تضاءل الترحيب في بعض الأماكن، وتم سحبه بالكامل في أماكن أخرى. حتى أن بعض الأحزاب السياسية في دول مختلفة (مثل حزب البديل اليميني المتطرف في ألمانيا، وحزب الشعب في الدنمارك) بدأت شن حملات سياسية لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم الأم، بدعوى أن الحرب قد انتهت وسيكون من الآمن لهم العودة.[43]

لا تزال عودة معظم اللاجئين غير آمنة، حتى مع انتهاء حملات القصف الجوي على معظم مناطق سورية. حتى اليوم، يتعرض المواطنون للمضايقة والترهيب والتهديد والسجن لأدنى انحراف عن الطاعة التامة والصمت المطالبين بهم من النظام.

للأسف، المثير للسخرية، أن هؤلاء اللاجئين يجدون أنفسهم غير مرغوب فيهم، ليس في البلدان التي لجؤوا إليها فحسب، ولكن في بلدانهم الأصلية أيضًا. حتى أولئك اليائسين بدرجة كافية للعودة إلى وضع غير مستدام في سورية يثبط النظام مسعاهم من خلال وسائل مختلفة، آخرها ضريبة الدخول الفعلية (التي تعادل حوالي 100 دولار) لمجرد عبور الحدود.[44]

وحتى لو نجحوا في العبور، فمن شبه المؤكد أنه لا يوجد مكان يذهب إليه اللاجئ السوري، ربما باستثناء محافظة إدلب المنكوبة بالفعل. ففي كل منطقة استعادها نظام الأسد، تمت إعادة تخصيص المنازل التي لم يتم تدميرها في عملية هندسة ديموغرافية واسعة النطاق، بتوجيه من إيران. صادر النظام عددًا لا يحصى من الممتلكات السورية، واستولى على كمية كبيرة من قطع الأراضي، التي لن يتمكن اللاجئون من العودة إليها حتى لو كان الوضع آمنًا بشكل مبسط كما وصفته بعض الأطراف.

من خلال إبرام صفقة مع تركيا لكبح جماح اللاجئين المحتملين من البحث عن اللجوء في أوروبا، لم يتراجع الاتحاد الأوروبي عن مبادئه الإنسانية فحسب، بل وضع اللاجئين السوريين -وإلى حد ما الاتحاد الأوروبي نفسه- في وضع واهٍ كبيادق على رقعة الشطرنج التي يملكها الرئيس أردوغان.[45]

في غضون ذلك، يُترك الجزء الأكبر من اللاجئين السوريين لإرادتهم الخاصة، عالقين في ضائقة شديدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط مع انعدام آفاق للمستقبل، غير مرحب بهم في أي مكان. في المخيمات الرسمية أكانوا أم في المساكن غير الرسمية، يعاني اللاجئون من الأمية المتفشية، وزواج الأطفال، والبطالة، والإحباط، جميع هذه الأمور تؤدي إلى تراجع عقليات أكثر أصولية – وهو منحدر خطر للسوريين والأوروبيين على حد سواء.

هذا هو الجيل الضائع في سورية، وسيتضاعف أكثر إذا لم يتم اتخاذ أي تدابير لتغيير المسار الذي يسلكه اللاجئون ضد إرادتهم الجماعية.

3.4 المعارضة الهالكة

في خضم هذه الظروف التي هي في معظمها خارج السيطرة السورية، خُذل الشعب السوري أيضًا بسبب الأداء السيئ للمعارضة بشكل عام، المتجمعة الآن في ائتلاف وطني واسع لقوى الثورة والمعارضة السورية. في حين أن إنشاء التحالف وإنجازاته الأولية كان مدعومًا من جانب جزء كبير من السوريين، لا سيما خلال المفاوضات الرسمية التي أعقبت المجزرة الكيماوية في الغوطة عام 2013، فقد انزلق التحالف إلى انعدام أهميته على الرغم من المجموعات الفرعية التي تم إنشاؤها خصيصًا للتفاوض.

عندما بدأ الدعم الضمني العالمي والأوروبي للثوار السوريين يضعف، وجدت فصائل مختلفة من المعارضة نفسها تعتمد دعم مختلف الرعاة غير الديمقراطيين الذين يُملون الخطوط العريضة التي يجب أن يتخذها رعاياهم. اليوم، يستجيب بعضهم لأنقرة، وآخرون للرياض، وغيرهم لموسكو، ويتعرض جميعهم للانتقاد من جانب جزء كبير من السوريين الذين يشعرون أنهم أصبحوا متحدثين باسم الحكومات المعنية التي تدعمهم، بدلًا من كونهم متحدثين باسم المعارضة عامة والشعب السوري الذي لا يزال ينتظر النجاة من يأسه خاصة.

كما تتعرض المعارضة لانتقادات شديدة لفشلها في إشراك المجتمع الدولي، وإثبات قضيتها بعقلانية وإيجاز في العواصم ووسائل الإعلام المؤثرة في العالم، ولفشلها في شرح جوهر الصراع في سورية للجماهير الأوروبية والعالمية. وبدلًا من ذلك، شاهد السوريون بفزع شخصيات عديدة من المعارضة تتخاصم فيما بينها على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى القنوات الناطقة باللغة العربية.

لقد كان السوريون دائمًا يقصدون أن تُفهم هتافات الثورة لسقوط النظام على أنها مطالب بسقوط نظام بأكمله، وليست استبدال نظام بآخر يشبهه. كان هناك الكثير من الانتقادات السورية لألعاب “الكراسي الموسيقية” الأخيرة للمعارضة، حيث تبادل زعيم الائتلاف وزعيم الهيئة العليا للمفاوضات الأماكن في الانتخابات الأخيرة بطريقة بوتين وميدفيديف.[46] حقيقة أن قمة سلالم التحالف لم تفكر حتى في كيفية رؤية السوريين لهذا الأمر، حيث يفترض أنهم يمثلون أصواتًا تتحدث مع السوريين في أنحاء العالم جميعها. فبدلًا من القيادة بالقدوة، أظهر العديد من أعضاء المعارضة أن ارتباطهم بـ “الكرسي” (تعبير سوري ملطف عن السلطة) يختلف قليلًا عن ارتباط النظام.

لا يزال من المستحيل على السوريين انتخاب ممثليهم أو معارضتهم، لكن من المشكوك فيه أن يختاروا كثيرين من المعارضة الرسمية المشكلة ذاتيًا لتمثيلهم يومًا ما، بعد إخفاقاتهم المذهلة في دعم القيم ذاتها التي طالبت بها الانتفاضة المدنية الشعبية.

لقد تركت هذه القضايا معظم السوريين يشعرون بالمرارة وخيبة الأمل، وشعروا بالإحباط بسبب معارضتهم المعترف بها، والخذلان من قبل القوى العظمى التي تعظ دون أن تمكن حقوق الإنسان والديمقراطية، وشعروا بالخذلان من المنطقة التي أساءت معاملتهم باستمرار.

 4 أوهام المشاركة

على الرغم من كل العواقب السلبية لأفعال النظام والتقاعس العالمي، فإن الخطاب الرسمي من القوى العالمية الرائدة يلمح الآن إلى تغييرات في سلوك النظام فقط – وهو تراجع كبير، على الرغم من أن تغيير النظام لم يكن مطروحًا على الطاولة في المقام الأول.

تتحدث الرواية الحالية عن انتصار النظام وبقائه أمرًا واقعًا، وانكفاء قضية السوريين برمتها إلى قضية لاجئين يجب إعادتهم إلى بلد “آمن” على الرغم من كل الأدلة المعاكسة.

كما أُثيرت حجج حول عدم قدرة الأسد على إعادة بناء المناطق المدمرة في سورية مع استمرار العقوبات. ومع ذلك، ليس هناك ما يشير إلى أن الأسد كان ينوي في المقام الأول إعادة بناء المناطق التي دمرها هو وحلفاؤه. في الواقع، لم يخف الموالون للنظام أبدًا حقيقة أنه من الأسهل إدارة عدد أقل من السكان من حيث الطاعة، لا سيما أولئك الذين أخضعوا بالفعل نتيجة الإرهاق المطلق، وليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه.

إن الحجج المتعلقة بالمشاركة “من أجل السوريين” (التي تُسمع بشكل متزايد في أوروبا والولايات المتحدة) هي نتيجة لقراءة خاطئة للتطورات. الحرب لم تنته مادامت إدلب تلوح في أفق حل الصراع. ما يقرب من 200 ألف مدني بريء وسجناء رأي ما زالوا محتجزين لدى النظام[47]، وموقعهم ومصيرهم مجهولين لأحبائهم؛ على الرغم من التزام النظام بتحريرهم امتثالًا لقرار مجلس الأمن 2254، ورغم المطالبات المتكررة من المبعوث الخاص للأمم المتحدة غير بيدرسن، فإن الأسد يرفض التزحزح عن هذا الأمر الذي لن يكلفه شيئًا.

لن يعود اللاجئون إلى سورية، حتى لو كانوا يرغبون في العودة، غير محظورين بسبب تكلفة تأشيرة الدخول الافتراضية الجديدة هذه فقط، ولكن أيضًا بسبب الاحتمالات المرعبة التي تنتظر أولئك الذين يعودون، خوفًا من استمرار القمع -أو حتى الموت- من النظام.[48] أولئك الذين ما زالوا قادرين على العودة، على الرغم من كل الصعاب، يجدون أنفسهم مهجورين لإرادتهم الخاصة، مع منازلهم المدمرة أو المصادرة أو التي يتعذر الوصول إليها دون صكوك تثبت ملكيتها.

إنّ وجود روسيا (وإيران) في سورية مستمر لفترة طويلة. حقق الرئيس بوتين أهدافه العسكرية، لكنه يكافح لاحتواء الصراع والحصول على عائد من استثماراته. إنه يحتاج إلى مخرج يحفظ ماء الوجه ويحل العديد من المشكلات في وقت واحد. تظهر مؤشرات نفاد صبر روسيا من الأسد بشكل متكرر هذا العام، حيث بدأت وسائل الإعلام الروسية في انتقاد عدم كفاءة الأسد في حل القضايا الحكومية.[49] في أكتوبر/تشرين الأول، منع بوتين حتى شحنات القمح من الوصول إلى سورية للضغط على الأسد للانخراط في اللجنة الدستورية، مما تسبب في نقص فوري في خبز البلاد.[50]

وبالتالي، فإن اتباع توصيات إعادة الانخراط سيضمن تخليص روسيا وإيران وبالطبع الأسد من أعباء وصعوبات تهدئة غضب السكان وإحباطهم، بينما يستمر نظام المحسوبية في إثراء نفسه على حساب الجميع.

على المدى الطويل، ستكون إعادة الانخراط هذه مقدمة لتدفق لا نهاية له من اللاجئين، وتفشي الأمية، وزواج الأطفال والانفجار السكاني، والراديكالية والتطرف، وربما الجهادية. على المدى الطويل، سوف تتفاقم المشكلة الحالية وستخرج عن السيطرة.

كما أنها ستمكن نظام الأسد من الاستمرار في كونه عقبة رئيسة أمام الحلول في المنطقة، خاصة في لبنان الذي يرتبط مصيره بمصير النظام السوري (من خلال حزب الله).

حتى الآن، لم تفد التهدئة أحدًا سوى الأسد المسؤول شخصيًا عن أكبر كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين. سمحت أفعاله أيضًا للقادة الشعبويين والاستبداديين بأوهام العظمة (في تركيا وروسيا، من بين آخرين)، بتوسيع ساحة لعبهم دون مخاطر حقيقية من التداعيات، وتحويلهم إلى لاعبين حقيقيين قادرين على فرض أجنداتهم الخاصة على الاتحاد الأوروبي المُضعف لنفسه.

5 تحديد معالم المرحلة الانتقالية السورية

5.1 الموالاة والمعارضة؟

يزعم بعض المؤيدين الأوروبيين للانخراط مع الأسد أن أغلبية السوريين لم ينقلبوا على نظام الأسد واستمروا في دعمه في جميع مناطق النظام. ومثلما يقللون عدد القتلى السوريين، فإنهم يقللون أيضًا عدد السوريين الذين فروا من ديارهم (ما لا يقل عن 7 ملايين نازح داخليًا) وبلدهم (أكثر من 6 ملايين). هؤلاء بالفعل يشكلون أغلبية بسيطة، على أقل تقدير.

كما أنه خطأ فادح -أو خداع متعمد- عد السوريين الخاضعين لسيطرة النظام “موالين للأسد”. لا يتوهم السوريون أن مساحة أدنى معارضة قد تلاشت. ومع ذلك، لا يزال الاستياء متفشيًا، ويدرك معظم الناس أن نهاية الحرب لا تعني تحسين حياتهم. أظهرت التظاهرات العلنية في السويداء هذا العام[51]، وتلك في الساحل السوري في مناطق تعد معاقل للنظام، أنه حتى السوريين الذين التزموا الصمت لسنوات يتكلمون الآن.

لا يمكن حساب ميزان الموالين والمعارضين من خلال حساب الأراضي التي استعادها الأسد وسيطر عليها، ولكن من خلال حساب عدد الأشخاص الذين سيعطون آراءهم الصريحة -إذا كان بإمكانهم ذلك-. لا تزال الأغلبية الصريحة من السوريين خارج سيطرة الأسد، والسوريون الخاضعون لسيطرته أبعد ما يكونون عن ولائهم.

هذا يعني أنه على الأقل، فإن أغلبية (إن لم تكن الأغلبية الساحقة) السوريين ستدعم بنشاط الانتقال السياسي للمضي قدمًا، مع وجود أجزاء قليلة جدًا من السكان لا تزال مستعدة للقتال من أجل الأسد (الميليشيات، أمراء الحرب، والمقربين).

إلى جانب ذلك، إذا اتبعت أوروبا قوانينها الخاصة بحقوق الإنسان والمساءلة، فإن إمكانية التعامل مع نظام الأسد بعد جرائمه الجسيمة لن تكون حتى مشكلة يجب مراعاتها، بغض النظر عن عدد الأشخاص الذين ما زالوا يدعمونه.

5.2 جهات فاعلة جديدة

لسنوات، استخدم نظام الأسد وأنصاره الذين ينشرون معلومات مضللة رواية مرهقة تقول “إما الأسد أو المتطرفين”. يستمر استخدام هذه المعادلة لتكون ذريعة لعدم القيام بأي شيء، على الرغم من الأمثلة العديدة للمجتمع المدني والمعارضة في المبادرات الكبيرة التي تثبت أنه كان هناك دائمًا خيار ثالث. هذا لا يعني أن هناك فريقًا مخصصًا جاهزًا لتولي المهمة؛ بل يعني أن رغبات أغلبية السوريين يمكن تحقيقها من خلال ممارسة ديمقراطية تعددية وتشاركية.

ظهرت اليوم قيادات محلية جديدة. بعد سنوات من ممارسة قدراتهم المكتسبة حديثًا للواجبات المدنية، مع شبكات من مجموعات المجتمع المدني الممتدة عبر سورية والمنطقة ومعظم العالم الغربي، يجمع سوريين عديدون بين المعرفة والطموح القوي ليكونوا جزءًا من مستقبل بلدهم. معًا، يشكلون قاعدة هائلة مع ثروة من الخبرات، وقد أسسوا قوة شعبية يمكن أن تساهم في إعادة بناء سورية – ماديًا بشتى الطرق.

5.3 خيارات الاتحاد الأوروبي

في حين أن فكرة التدخل الأوروبي على المستوى العسكري لم تكن مطروحة على الطاولة أبدًا، لا تزال هناك سبل عديدة يمكن أن يتخذها الاتحاد الأوروبي ليأخذ مكانه الصحيح كجهة فاعلة رئيسة في سورية، ولحماية مصالحه. لهذا، يمكنه استخدام الأدوات الدبلوماسية والقانونية والمالية، بالشراكة مع السوريين في أوروبا الذين يجب أن يُنظر إليهم على أنهم أصول وشركاء -وليسوا مجرد عبء- والذين يمكنهم تقديم مساهمة كبيرة في الحل الطويل الأجل للصراع.

هناك فرصة لاستعادة وكالة السوريين الموجودة بالفعل داخل الاتحاد الأوروبي، من خلال منحهم دورًا في إعادة بناء مجتمعهم ومستقبل بلدهم الأم. حتى لو لم يختر الجميع العودة بعد أن عاشوا حياة جديدة في أوروبا، فإنهم جميعًا تقريبًا لديهم أسر ممتدة وشبكات اجتماعية ليدعموهم، وحاجة مؤلمة مشتركة لفعل شيء ما – كما يتضح على مر السنين من الجهد الضخم والعدد غير المحدود امن منظمات المجتمع المدني التي أسسها السوريون وقادوها لما يقرب من 10 سنوات. يجب أن يعملوا مع صانعي السياسة في الاتحاد الأوروبي.

يمكن للاتحاد الأوروبي أيضًا أن يؤدي دورًا حاسمًا في دعم أصوات المعارضة الجديدة، حتى لا يشعروا بأنهم ملزمون أو مضغوطون للالتزام بخط الحكومات غير الديمقراطية التي تدعم المعارضة السياسية القائمة. وحدها الديمقراطية الغربية هي القادرة حقًا على دعم ورفع مستوى العديد من السوريين المؤهلين الذين يمكنهم تقديم مساهمات نوعية في عملية الانتقال السياسي في بلادهم، وإعادة بنائها.

يشكل اللاجئون أحد أهم أوراق النظام السوري (وروسيا). إنهم يعرفون مدى يأس معظم الدول للتخلص منهم، وبالتالي يعلقون فكرة العودة والحياة الطبيعية على موافقة الغرب على رفع العقوبات فقط. لكن النظام لن يعيد بناء المناطق التي دمرها. بدلًا من ذلك، إنّه يقوم ببناء مشاريع عقارية فاخرة عملاقة على أراضٍ تم الاستيلاء عليها بشكل غير قانوني[52] (حيث تم بالفعل تصميم معظم المناطق الصالحة للسكن ديموغرافيًا بمساعدة إيران). إن إعادة اللاجئين قسرًا إلى مناطق غير آمنة لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى في المنطقة – الفوضى التي ستؤثر في أوروبا أيضًا.

من خلال استمرار التركيز على الأعراض فقط، وعدم الجرأة على معالجة السبب الجذري للأزمة السورية التي أصبحت مشكلة أوروبية، فإن الاتحاد الأوروبي سيحكم على نفسه بسنوات من التوترات المتصاعدة، وموجات من اللاجئين، وانعدام الأمان بشكل متزايد. حان الوقت لاختيار طريق أخرى تعود بالفائدة على السوريين والاتحاد الأوروبي.

الأسد يحتجز الشعب السوري على أنهم رهائن، منتظرًا العالم الديمقراطي أن يشفق على المعاناة في المناطق التي يسيطر عليها، وأن يرفع العقوبات حتى يتمكن من التظاهر بمساعدتهم. لكن الأسد غير مهتم بمجتمع فعّال. إنه أكثر من سعيد بالمجتمعات التي بالكاد على قيد الحياة والتي تخشى أن تطلب أكثر من الحد الأدنى بعد الآن، وبالتالي إبقاء الناس تحت المراقبة بينما تشبع النخبة الطماعة.

لذلك لا يمكن لسورية البقاء كيانًا قابلًا للحياة، ولا المساهمة في استقرار شرق البحر الأبيض المتوسط، بينما لا يزال نظام الأسد قائمًا.

6 التوصيات

يجب على الاتحاد الأوروبي النظر في تنفيذ التوصيات الرئيسة التالية بشأن سورية، تحت مظلات عدة: أولًا، مقاربة جديدة تجاه الأشخاص؛ ثانيًا، حافز اقتصادي وتعليمي مشترك؛ ثالثًا، الدفع باتجاه عملية قضائية. رابعًا، تطور سياسي واقعي مع روسيا؛ وأخيرًا، إعادة تنظيم التحالفات العالمية في ما يتعلق بسورية.

1 ربط جهود المعارضة والمجتمع المدني في أوروبا وحول سورية

يجب أن يدعم الاتحاد الأوروبي مجموعة جديدة من شخصيات المعارضة المستقلة، بما في ذلك أولئك الذين ينتمون إلى الشتات السوري في أنحاء أوروبا جميعها (في المعارضة وفي المجتمع المدني)، الذين يمكنهم أن يصبحوا قادةً جددًا ويخلقون صلة قوية بين الاتحاد الأوروبي وسورية. سوف يبنون جسور ثقة جديدة، ويساهمون في تكوين السوريين في سورية وما حولها، ويعيدون إحياء ثقة المجتمع المدني في إمكانية بداية جديدة في الوطن.

تعود قدرة الجماعات ذات الميول الدينية على المضي قدمًا في الثورة السورية جزئيًا إلى الدعم والتنظيم المستمرين، ماليًا وسياسيًا وعسكريًا. من خلال مساعدة السوريين العلمانيين بجدية على فعل الشيء نفسه خارج المجال العسكري، ودون قيود على دعمهم من أنظمة إقليمية غير ديمقراطية، سيحدث الاتحاد الأوروبي تغييرًا حقيقيًا في كل من الديناميات والروايات حول الانتقال (انتقال مفوض بموجب قرار مجلس الأمن 2254)[53]. من مصلحة أوروبا وسورية المستقبل إضعاف الجماعات الدينية والطائفية التي تسللت إلى تحالفات معارضة عديدة – وتحالفات النظام في هذا الصدد – من خلال صعود قوى سياسية علمانية قوية ومستقلة.

2 وضع جذور اقتصادية وتعليمية جديدة

يجب على الاتحاد الأوروبي أن يعيد النظر في التأثير العام لحزم المساعدات الخاصة به، ويجب عليه إعادة التفكير في فائدة المنح المتفرقة التي تقتصر على الدعوة الواسعة بشأن قضايا التحول الديمقراطي. وبدلًا من ذلك، ينبغي أن يبدأ الاستثمار في برامج التعليم والتدريب المهني الهادفة والمترابطة مع مخططات الأسرة، بهدف مساعدة المجتمعات على تحقيق الاكتفاء الذاتي على المدى الطويل. سيضمن ذلك أنه بينما يتلقى الآباء (النساء والرجال) تدريبًا رسميًا على المهارات المفيدة التي ستكون مطلوبة لإعادة بناء الدولة، يتم تعليم الأطفال بمنهج جديد يدمج قاعدة وطنية مع مفاهيم المواطنة الدولية. يجب إعداد المناهج بالتنسيق والتشاور مع الشخصيات السورية المستقلة والمجتمع المدني في المنطقة وفي الشتات، بما فيهم أولئك في أوروبا، لضمان عدم تأثير أي أجندة (سياسية أو دينية أو عرقية) على النهج التعليمي.

يجب بناء محاور التعليم والتدريب المهني هذه في مناطق محظورة على الأسد، ويمكن للاتحاد الأوروبي، ويجب عليه، استخدام نفوذه السياسي والاقتصادي الهائل لفرض ضمانات بعدم التدخل من جانب روسيا وتركيا. حتى دون منطقة حظر طيران أو وجود مسلح أو جنود على الأرض، فإن الاتحاد الأوروبي سيساهم في استقرار وإعادة إعمار أجزاء من سورية الخارجة عن سيطرة الأسد بالمعنى المادي والتجريدي، بانيًا نموذجًا يمكن تكراره في أماكن أخرى من البلاد عند حدوث الانتقال.

على وجه الخصوص، يجب أن يهدف الاتحاد الأوروبي إلى نشر المواطنة العلمانية وسياسات النوع الاجتماعي في الأفعال وليس الأقوال فقط. يجب أن تمنح مخططات الاتحاد الأوروبي هذه النساء تدريبًا مهنيًا يتجاوز التدريب المعتاد المقدم حاليًا (الخياطة، صنع الصابون، الخبز، وما إلى ذلك). كما ينبغي أن تبدأ هذه المخططات في تعليم الفتيات والشابات المهارات التي يهيمن عليها الرجال عمومًا في المجتمعات المحافظة، للمساهمة بنشاط في استدامتهن، وفي التنمية الاقتصادية لبلدهن. لتغيير عقلية الجيل القادم، يجب أيضًا تدريب النساء على المهارات التجارية ومهارات العمل واللغات وإدارة البرامج، والمجالات المهنية التقليدية مثل الطب والهندسة المعمارية.

بعد إنشاء هذه المحاور الجديدة، يجب على الاتحاد الأوروبي تقديم حوافز لطالبي اللجوء واللاجئين للعودة إلى بلادهم، والانتقال إلى هذه المناطق المستدامة الجديدة، وتقديم فرص عمل لأولئك الذين يلتزمون بهذه البرامج.

لإحداث تغيير جذري في النظرة إلى المستقبل، ولتلبية احتياجات ومطالب الأغلبية العظمى من المجتمع المدني السوري على مدى العقد الماضي، يجب على الاتحاد الأوروبي بذل كل ما في وسعه للابتعاد عن مفاهيم “الأقليات” و “الأغلبيات”- من الناحية الدينية والطائفية والعرقية والقومية. ويجب أن يتبنى برامج ولغة قابلة للتنفيذ تعزز مفهومًا أكثر عمقًا وإنصافًا للديمقراطية والمواطنة والعلمانية. هذه مفاهيم ضرورية لها مكانها في المجتمع السوري في هذه المرحلة من الصراع.

3 دفع عمليات المساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية

يجب على الاتحاد الأوروبي تقديم دعم قوي وكامل لمحاكمات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في الولايات القضائية الأوروبية ذات الصلة، حيث تسمح التشريعات بذلك. يجب أن تسرع الدعم القانوني لمحاكمات مجرمي الحرب، والأشخاص المذنبين بالتهرب من العقوبات، لمتابعة سياسة الاتحاد الأوروبي المعلنة للسعي لتحقيق العدالة والمساءلة في سورية.

هذا هو أحد التطورات التي أعطت السوريين الأمل الأكبر في إمكانية الوصول إلى خاتمة في سورية (مع المحاكمات في ألمانيا، والقرار الأخير للحكومة الهولندية بمقاضاة نظام الأسد). تعيد هذه المحاكمات ثقة السوريين بالقيم الأوروبية، وهو تطور مطلوب لإعادة تقويم سلس لدور الاتحاد الأوروبي في مستقبل سورية وعلاقاته مع اللاجئين.

4 ممارسة ضغط سياسي ملموس لتحقيق الانتقال

روسيا، أعظم رصيد للأسد على الساحة الدولية، في حاجة ماسة إلى الأشياء التي يمتلكها الاتحاد الأوروبي بوفرة، أي الأموال والموارد، وكلاهما مفتاح لحل ورطة سورية. لم يكن هدف بوتين أبدًا بقاء الأسد بحد ذاته، كما يقول مراقبون عديدون بشكل خاطئ: كان هدف بوتين إقامة نفوذ روسي عسكري واقتصادي وسياسي قوي في سورية والمنطقة. الأسد كان الوسيلة وليس الغاية. بينما حقق بوتين هذا الهدف، فإنه عالق الآن مع مشكلة الأسد الكبيرة، وهي مشكلة شائكة للغاية، اضطرت روسيا إلى تعيين أربعة مبعوثين سوريين للتعامل مع ملفات مختلفة.[54] كما يدفع بوتين من أجل عودة اللاجئين إلى سورية، على افتراض أن هذا من شأنه أن يدفع أوروبا نحو تمويل وإعادة بناء ما دمرته القوات الجوية الروسية والميليشيات الإيرانية وجيش الأسد.

يجب إقناع بوتين بفرض الانتقال السياسي المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي لن يهدد مصالحه على الأقل. لذلك، يجب على الاتحاد الأوروبي ممارسة ضغوط سياسية جادة مباشرة على روسيا فيما يتعلق بتسهيل البنود الوحيدة التي تتم مناقشتها حاليًا بموجب القرار: اللجنة الدستورية، والاستفتاء التالي، والانتخابات تحت إشراف دولي. هناك عدد كافٍ من المشاريع الكبيرة قيد الإعداد بين روسيا والاتحاد الأوروبي بحيث يربط هذا الأخير بعض الخيوط بالاتفاقات مع روسيا؛ مشروع North Stream II هو أحد مجالات التفاوض المحتملة، حيث يمكن إقناع بوتين بمنح تنازلات في سورية تتعلق بالمصالح الأمنية للاتحاد الأوروبي.

5 قيادة حملة استعادة الإجماع الدولي بشأن سورية

بينما يراقب السوريون بتشاؤم الذكرى الخمسين لانقلاب الأسد، والذكرى العاشرة للثورة التي حولها النظام إلى صراع دموي، تنتقل الولايات المتحدة الأميركية منذ سنوات من عدم اليقين الدولي في عهد الرئيس ترامب إلى حقبة متوقعة من الدبلوماسية المألوفة في عهد الرئيس بايدن.

لن يكون التغيير محسوسًا في الأسلوب فحسب، بل أيضًا في السياسة المتعلقة بقضايا مهمة مثل سورية. في تعليق مشجع، قالت نائبة الرئيس المنتخب كامالا هاريس إن إدارة بايدن “ستقف مرة أخرى إلى جانب المجتمع المدني والشركاء المؤيدين للديمقراطية في سورية، وستساعد في دفع تسوية سياسية، حيث يكون للشعب السوري صوت”.[55]

سيحدث تغيير كبير متعلق بسورية في القرار المعلن للرئيس المنتخب بايدن، الذي يعمل بالفعل مع فريق قاد السياسة خلال إدارة أوباما، للانضمام إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني) في غضون أشهر من توليه منصبه.[56] هذه موسيقى لآذان النظام الإيراني، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، التي لا تزال تؤمن بأن انخراطًا بهذا الحجم مع طهران يجني ثمارًا. لكن الاتحاد الأوروبي قد يضر بمصالحه إذا لم ينتهز هذه الفرصة لتقديم المشورة للولايات المتحدة الأميركية لاتخاذ نهج أكثر قوة تجاه استمرار تدخل النظام الإيراني في سورية (ولبنان)، ليس من خلال قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية في عام [57]2019 فقط، لكن بضغط سياسي حازم ومتواصل.

لن تعارض روسيا كبح جماح إيران في السياق السوري، وسيكون لها هي نفسها مشكلات في إعادة المعايرة الخاصة بها مع الولايات المتحدة الأميركية عقب السنوات القليلة الماضية المضطربة. من شأن الموقف المشترك بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي بشأن مشاركة كل من روسيا وإيران في سورية أن يؤدي إلى حلول عملية أكثر بكثير في مسارات العمل المختلفة التي ينادي بها هذا البحث.

يمكن للاتحاد الأوروبي، ويجب عليه، أن يقود حلفاءه إلى تعلم الدروس الصحيحة من السماح للأسد بتصعيد الانتفاضة إلى صراع، ما أدى إلى إراقة الكثير من الدماء والدمار والتداعيات التي تتجاوز حدود سورية. يجب أن يكون الاتحاد الأوروبي استباقيًا، ويتحكم في قرارات السياسة الخارجية التي تؤثر على أمنه.

لتجنب 50 عامًا أخرى من الفوضى الإقليمية التي يقودها الأسد، فإن المشاركة المتجددة لأجل السوريين ومعهم -ولكن بالتأكيد ليس مع نظام الأسد- ستفيد أولئك الذين عانوا من العواقب المأساوية لسياسة عدم التدخل هذه، ما يؤدي إلى فهم جديد وطريقة مؤقتة. بين الاتحاد الأوروبي وبعض جيرانه في منطقة البحر الأبيض المتوسط.


[1] “Profile: Syria’s Ruling Baath Party”, BBC, July 9, 2012.

[2] Francis X. Clines, “Britain Breaks Syrian Ties; Cites Proof of Terror Role; El Al Suspect is Convicted; US Recalls Envoy”, New York Times, October 25, 1986.

[3] Deborah Amos, “30 Years Later, Photos Emerge from Killings in Syria”, NPR, February 2, 2012.

[4] Andrew Glass, “George H.W. Bush Creates Coalition to Liberate Kuwait”, Politico, August 7, 1990.

[5] “A wasted decade; Human rights in Syria during Bashar al-Assad’s first ten years in power”, Human Rights Watch, July 16, 2010.

[6] Alex Shone, “A low hanging fruit: Engagement with Syria and its role in the Middle East”, Defence Viewpoints, 25 November, 2010.

[7] “Fact Sheet: Implementing the Syria Accountability and Lebanese Sovereignty Restoration Act of 2003”, The White House Press Release, May 11, 2004.

[8] Brian Whitaker, “By unpopular demand; Syria increased its international alienation by pushing Lebanon into extending Emile Lahoud’s presidential term”, The Guardian, September 6, 2004.

[9] “Security Council Declares Support for Free, Fair Presidential Election in Lebanon; Calls for Withdrawal of Foreign Forces There”, United Nations, September 9, 2004.

[10] Robert G. Rabil, “Syria’s Regime Writes its Future in the Sand”, The Daily Star, May 24, 2006.

[11] “Hezbollah Takes Over West Beirut”, BBC, May 9, 2008.

[12] Robert F. Worth and Nada Bakri, “Deal for Lebanese Factions Leaves Hezbollah Stronger”, New York Times, May 22, 2008.

[13] “Interview with Syrian President Bashar al-Assad”, Wall Street Journal, January 31, 2011.

[14] Jamie Tarabay, “For Many Syrians, the Story of the War Began with Graffiti in Dara’a”, CNN, March 15, 2018.

[15] John Hudson, “U.N. Envoy Revises Syria Death Toll to 400,000”, Foreign Policy, April 22, 2016.

[16] “Syrian Revolution Nine Years On: 586,100 Persons Killed and Millions of Syrians Displaced and Injured”, The Syrian Observatory for Human Rights, March 15, 2020.

[17]  مالا يقل عن 580 ألفًا قٌتلوا في سورية منذ مارس 2011، انظر

“16 UNSC vetoes blocking action and accountability”, Global Centre for the Responsibility to Protect, September 15, 2020.

[18] Ben Hubbard, “Syria Seeks Return of Refugees, but They Fear Leader’s Wrath”, New York Times, November 12, 2020.

[19] the European Council’s “Declaration by the High Representative on Behalf of the EU on the Refugee Conference in Damascus”, November 10, 2020.

[20] Andrew Rettman, “EU Clears Way for New Treaty with Syria”, EU Observer, October 8, 2009.

[21] “Hamdi Kandil’s interview with Bashar Assad” (الرئيس بشار الأسد مع حمدي قنديل ), Dubai TV, August 23, 2006.

[22] The European Union’s “Council Decision 2011/782/CFSP of 1 December 2011, concerning restrictive measures against Syria and repealing Decision 2011/273/CFSP”.

[23] “Houla Massacre: UN Blames Syria Troops and Militia”, BBC, August 15, 2012.

[24] Joby Warrick, “More than 1,400 Killed in Syrian Chemical Weapons Attack, U.S. Says”, Washington Post, August 30, 2013.

[25] United Nations’ report, “Syria’s Siege of Eastern Ghouta ‘Barbaric and Medieval‘ Says UN Commission of Inquiry”, June 20, 2018.

[26] Lyse Doucet, “Aleppo Siege: ‘We Are Crying and Afraid’”, BBC, December 3, 2016.

[27] Kenneth Roth, “To Stem the Flow of Syrian Refugees, Stop the Barrel Bombs”, Human Rights Watch, September 23, 2015.

[28] Spencer Ackerman. “Syria Fires Scud Missiles, Burning Bombs and Even Sea Mines at Rebels”, Wired, December 12, 2012.

[29] David Gardner, “Syria is Witnessing a Violent Demographic Re-Engineering”, Financial Times, October 2, 2019.

[30] Anne Barnard, “Inside Syria’s Secret Torture Prisons: How Bashar al-Assad Crushed Dissent”, New York Times, May 11, 2019.

[31] Malachy Browne et al, “Hospitals and Schools Are Being Bombed in Syria. A U.N. Inquiry Is Limited. We Took a Deeper Look”, New York Times, December 31, 2019.

[32] Ben Taub, “The Assad Files: Capturing the Top-Secret Documents That Tie the Syrian Regime to Mass Torture and Killings”, The New Yorker, April 18, 2016.

[33] Marc Daou, “Friends of Syria Push for Tougher Sanctions”, France 24, July 6, 2012.

[34] Romain Houeix, “A History of the Syria Chemical Weapons ‚Red Line‘”, France 24, April 14, 2018.

[35] Helene Cooper et al, “Russians Strike Targets in Syria, but Not ISIS Areas”, New York Times, September 30, 2015.

[36] “Syrian Crisis: EU Mobilizes an Overall Pledge of €6.9 Billion for 2020 and Beyond”, European Commission, June 30, 2020.

[37] Edith M. Lederer, “Russia and China Veto Cross-Border Aid to Syria’s Northwest”, Associated Press, July 8, 2020.

[38] European Center for Constitutional and Human Rights’ report, “Caesar Photos Document Systematic Torture”.

[39] “UN Restarts Syria Cross-Border Aid But With Only One Access Point”, The Guardian, July 12, 2020.

[40] Ben Hubbard, “Syria’s Economy Collapses Even as Civil War Winds to a Close”, New York Times, June 15, 2020.

[41] Emmatel’s Facebook announcement on the “Launch of the iPhone12 in Damascus”, 23 October, 2020.

[42] Luke Harding, “Angela Merkel Defends Germany’s Handling of Refugee Influx”, The Guardian, September 15, 2015.

[43] “Denmark’s Government at Risk in Row With Nationalists Over Syrian Refugees”, Reuters, December 12, 2017.

[44] Sara Kayyali, “Syria’s 100 Dollar Barrier to Return”, Human Rights Watch, September 23, 2020.

[45] “Migrant Crisis: EU-Turkey Deal Comes Into Effect”, BBC. March 20, 2016.

[46] “Internal Strife, Accusations of Cronyism Amid Syrian National Coalition Elections”, North Press Agency, July 16, 2020.

[47] Katarina Montgomery, “Assessing the State of Syria’s Detainees”, The New Humanitarian, June 6, 2014.

[48] “Returning Syrian Refugees Face Death and Disappearance”, The New Arab, November 7, 2018.

[49] “Russia’s Media Campaign Against Al-Assad Regime: Causes and Consequences”, Emirates Policy Center, April 30, 2020.

[50] Bethan McKernan and Ahmad Haj Hamdo, “Syria Introduces Limits on Subsidized Bread as Economic Crisis Bites”, The Guardian, October 5, 2020.

[51] Sarah Dadouch, “Syrian Protesters Raise Rare Anti-Assad Chants Amid Economic Plunge”, Washington Post, June 11, 2020.

[52] Zeina Karam, “A Luxury City Shows Blueprint for Syria’s Rebuilding Plans”, Associated Press, November 5, 2018.

[53] The United Nations’ Resolution, “Security Council Unanimously Adopts Resolution 2254 (2015), Endorsing Road Map for Peace Process in Syria, Setting Timetable for Talks”, December 18, 2015.

[54] “Four Russian Envoys to Syria: Kinshak as a Special Envoy for …”, Al Khaleej Times, October 2020.

[55] “Kamala Harris: US Will Reverse Trump-Era Policy, Restore Relation with Palestine”, Middle East Monitor, November 3, 2020.

[56] Katrina Manson and Michael Peel, “Biden Team Considers Options on Iran Nuclear Deal”, Financial Times, November 10, 2020.

[57] The U.S. Department of State’s fact sheet on the “Caesar Syria Civilian Protection Act”, June 17, 2020.

وحدة الترجمة مسؤولة عن أعمال الترجمة في مؤسسة ميسلون، من اللغات الأوروبية إلى العربية، وبالعكس؛ ترجمة ما تُصدره مؤسسة ميسلون باللغة العربية، وفقًا لاختيار إدارتها، إلى عددٍ من اللغات الأخرى، بهدف إيصال دراساتها إلى الناطقين باللغات الأخرى، وترجمة البحوث والدراسات والمقالات المهمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية بهدف تعريف المثقفين والباحثين والمهتمين في منطقة الشرق الأوسط ببعض ما ينشر عن المنطقة في مراكز البحوث العالمية.

مشاركة: