هناك افتراض شائع يرى أن عام 1949 يمثِّل تاريخًا تأسيسيًا للقانون السوري الحديث، إذ خلال أربعة الشهور ونصف الشهر من حقبة حسني الزعيم (نيسان/أبريل – آب/أغسطس 1949) صدرت القوانين المدنية والجزائية. وإذا ما سلمنا بعام 1949 تاريخيًا تأسيسيًا رئيسيًا، تصبح المنعطفات الأخرى في التاريخ السوري، مثل الانقلابات العسكرية المختلفة من عام 1949 حتى 1953، والوحدة مع مصر من عام 1958 حتى 1961، واستيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963 (والتي كانت جميعها حاسمة سياسيًا، لكن لم يكن لها تأثير يذكر على النظام القانوني وممارسة السلطة القضائية في حد ذاتها)، غير مهمة، إذ إنها لم تُغيِّر في بنية وشكل ومضمون القوانين التي أُنفذت في عام 1949 إلا قليلاً.
وخلال السبعينيات والثمانينيات، عندما وطّد الرئيس حافظ الأسد السلطة في إطار ما يسمى بـ «الحركة التصحيحية» للبعث الثاني، دخل عددٌ قليلٌ من التغييرات القانونية التي أثرت على وضع الملكية الخاصة حيز التنفيذ، مما فرض تهديدًا بأمر واقع على «روح» قوانين عام 1949. وحتى تغييرات كهذه كانت تشبه «تعديلات» جزئية للقانون المدني، أكثر من كونها تعديلات تغيّر في البُنى الأساسية. والأمر الغريب آنذاك، أن الاضطرابات السياسية الرئيسة التي كانت لها انعكاسات سياسية هائلة لم تمس النظام القانوني على الرغم من ذلك.
أولاً:
دعونا نبدأ بعرض موجز للقوانين الأساسية التي صدرت منذ السبعينيات[1]، وكانت في معظمها قوانين اقتصادية. قبل عام 1966، كان هناك «قانون اقتصادي» واحد فحسب يعمل على تنظيم تداول العملة بين سورية والعالم الخارجي، والذي وُضع في الأصل في عام 1952، كما حدّد أيضًا كيفية عمل مكتب صرف العملات. أما البقية فكان من المفترض أن تُنظم بموجب القانون المدني لعام 1949 نفسه. وبين عامي 1966 و1986، صدرت أربعة قوانين جديدة حاسمة: قانون العقوبات الاقتصادية (1966)، وقانون قمع التهريب (1974)، وقانون إحداث محاكم الأمن الاقتصادي (1977)، وقانون عقوبات تهريب العملة السورية والعملات الأجنبية والمعادن الثمينة (1986).
كيف يمكننا تفسير تكاثر مثل هذه القوانين، وما هي أهميتها القانونية؟ وهل تعمل هذه القوانين، التي تركت القانون المدني بجزئه الأكبر من دون تغيير منذ إلغاء المواد المتعلقة بحرية تكوين المجتمعات في عام 1958، على الحد بشكلٍ غير مباشر من المظهر «المدني» (أو «الخاص») للقانون من خلال تصنيف الصفقات الخاصة في فئة سلطة الدولة؟ وكما أشار آلان واطسون في دراساته الرائدة حول أنظمة القانون المدني، يمكن وصف تقاليد القانون المدني المؤسساتي بغير الطبيعية. وفي الواقع، فإن مبادئ القانون الطبيعي تؤكد على أهمية الدولة بالنسبة للمجتمع البشري، إذ ترى أن الدولة تنظم الشؤون الإنسانية[2]. وعليه، فإن القانون السوري الحديث، على الرغم من أنه متجذر في التقاليد المدنية (غير الطبيعية)، قد تحول مع ذلك تدريجًا لضمان أسبقية طبيعية للدولة في إدارة الشؤون الإنسانية، مقلِّلاّ من أهمية الجمعيات الحرة والعقود الخاصة، بينما يعطي أولوية لمشاريع الدولة التي تصب في نهاية المطاف في منفعة «الصالح العام». وبالتالي، تكون الدولة هي الوكالة الرئيسة التي تحدث «التماسك الاجتماعي» من خلال السيطرة على حركة التسويات التعاقدية التي تحدث بين الخاصة (في القطاع الخاص).
إن قراءة القوانين السورية بالتزامن مع تسويات المحاكم الفعلية سرعان ما تتحول إلى عملية توثيق مروعة لأفراد اُتهموا بتفضيل مصالحهم الخاصة على مصالح الجماعة. كما أن ملفات قضية كهذه تشكل فخًا للمستخدمين أنفسهم، الذين يعتقدون ببساطة بأنهم كانوا يتبعون الإجراءات ويفعلون الشيء الصحيح. وباختصار، ما إن تنصِّب الدولة نفسها على أنها الوكالة الطبيعية لحماية المجتمع، سيقع المستخدمون في شرك النظام القضائي، الذي من حيث المبدأ يفضل التسويات المدنية الخاصة، هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الجماعية السياسية الغامضة التي لم تزل هزيلة التكوين والتشكّل هي أيديولوجية أكثر منها قانونية، وتتعارض مع الروح الخاصة للقانون المدني.
وتبدو هذه الجماعية واضحة للعيان في نصوص القوانين الاقتصادية التي صدرت خلال عقدين ما بعد عام 1966. وتظهر هذه النصوص، وهي قصيرة جدًا – نحو عشر صفحات – كيف أُحدثت «القواعد الاقتصادية» بالتوازي مع القانون المدني. ولكن في حين تتبع القوانين المدنية، التجارية والجزائية، التقاليد الفرنسية والرومانية منذ مدة طويلة، لم تكن «القواعد الاقتصادية» الجماعية سوى مزيج من التركيبات السياسية والأيديولوجية من دون إجراءات قانونية ملازمة. ولذلك فإن المستخدمين يقعون باستمرار في مصيدة بين «خصوصية» معاملاتهم الخاصة والجماعية الأيديولوجية للدولة البعثية.
وبما أن الجماعية بناءٌ أيديولوجي شعبوي دون حدود قانونية معرَّفة بوضوح، فإن القوانين الاقتصادية للفترة بين عامي 1966 و1986 تميل إلى «تجريم» المعاملات الخاصة التي يُزعم أنها «تقاوم النظام الاشتراكي». وهكذا، بدلاً من قانون المسؤولية التقصيرية، الذي تخضع له المعاملات المدنية، فإن خليط القوانين الاقتصادية، سواء صراحة أو بالأمر الواقع، يجرِّم المعاملات التي تهدف إلى مقاومة النظام «الاقتصادي» الاشتراكي. وعلى سبيل المثال، تعرِّف المادة الأولى من قانون العقوبات الاقتصادية لعام 1966 مفهومًا جديدًا لـ «الأموال العامة» يشمل، إلى جانب أملاك الدولة المنقولة وغير المنقولة، الأملاك التي تعود إلى كلٍّ من الجمعيات التعاونية والنقابات والمنظمات الشعبية الموقَّرة. وتفصِّل المادة الثانية أنه حتى مؤسسات حزب البعث تعتبر جزءًا من «الأموال العامة»، على الرغم من أن الشروع في إجراء تحقيق يتطلب تصريحًا من الأمين العام. ويعرِّف الباب الثاني من القانون نفسه «الجرائم الكبرى» والعقوبات الخاصة بها، وأحكام السجن التي تراوح من خمسة إلى خمسة عشر عامًا مع الأشغال الشاقة، مع التركيز بشكلٍ خاص على جرائم السرقة، المعاملات غير القانونية التي تتضمن أملاكًا للدولة أو عقودًا غير قانونية لتعزيز المصالح الفردية. وتذهب المادة رقم 9 إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال فرض عقوبات على أولئك الذين ساهموا «طوعاً» في «خفض الإنتاج»، عن طريق تقديم معلومات مهمة لطرف ثالث مثلاً. وتنص المادة رقم 15 على عقوبات تتراوح بين سنة إلى ثلاث سنوات من السجن ضد جميع أولئك الذين «قاوموا النظام الاشتراكي».
ومنذ عام 1966 حتى 1977، كانت محاكم الجنايات في المحافظات مسؤولة عن الفصل في «الجرائم الاقتصادية»، بينما باشرت المحاكم الجنائية العادية العمل كالمعتاد – جرائم السرقات والسطو، وسفاح القربى واعتداءات الاغتصاب على الأفراد والممتلكات، والقتل وما شابه. ولكن في عام 1977 صدر تشريع جديد بإقامة «محاكم الأمن الاقتصادي» في دمشق وحلب وحمص، والتي كان يترأسها قضاة خاصّون بها، وتقضي بصورة أساس على قانون عام 1966، والتي لم تُلغ إلا بموجب مرسوم رئاسي في عام 2004. ومع ذلك، لم يزل قانون عام 1966 ساريًا إلى نطاق واسع، ويستمر تحت السلطة القضائي للمحاكم الجزائية والجنائية العادية.
ثانيًا:
وتصل ثقافة «الجرائم الاقتصادية» الحديثة هذه كامل نفاذها وقوتها ما إن يقع المستخدمون في متاهة النظام القانوني بين حقوقهم المدنية (كما صاغها القانون المدني) والمطالب الجمعية والدولتية التي تأتي في صيغٍ «اقتصادية» بدائية. ومن المفيد عند هذه المرحلة دراسة حالات ملموسة؛ فليس القصد من وراء ذلك «توضيح» كيفية عمل القوانين – نظرًا إلى أن صوغ القانون هو صوغ لكل قانون بمفرده، مع قواعده وأنظمته المستقلة الخاصة – إنما فهم لغة المستخدمين وكيف يوثقون حالاتهم الخاصة.
وبالنظر إلى حالة التاجر محمد خير، وهو عضو في غرفة تجارة دمشق، ويتطلب عمله التجاري تحويل رأس المال بين سورية ومصر[3]. وبما أنه يقوم بأعماله التجارية في الإسكندرية، كان على تحويل رأس المال أن يتبع الأنظمة في كلا البلدين، الأمر الذي يعني في جوهره اتباع قاعدة «مساواة» من حيث الواردات والصادرات. وعلاوة على ذلك، فإن كل تصريح للاستيراد أو التصدير يجب أن يجري في غضون إطار زمني قصير وموافق عليه مسبقًا. وفي هذه الحالة، تلقّى موافقة من البنك المركزي السوري على طلبه تصدير المنتوجات الغذائية إلى مصر بشرط أن يتم إنجازه خلال ستة أشهر، بين 20 تموز/يوليو 1971 و10 كانون الثاني/يناير 1973. في ذالك الوقت، كانت كل من سورية ومصر تفرضان قواعد صارمة على استيراد وتصدير السلع وتدفق العملة الصعبة. وأكثر من ذلك، ما إن جاءت حماية العملة المحلية متزامنة مع فرض قيود على المنتوجات التي يمكن تصديرها أو استيرادها، حتى وجد التجار أنفسهم بالطبيعة يعملون بموجب أنظمة تحدُّ كثيرًا من قدرتهم على المنافسة بحرية، ولا سيما مع التجار ذوي الصلات الجيدة بالمؤسسة السياسية. وفي بعض الحالات، تحولت تلك المعاملات الموجهة إلى مأزق قانوني.
وفي حالة محمد خير، بدأ الجحيم عندما صودرت جميع أمواله المصرفية العامة والخاصة بموجب أمر عرفي بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر 1972، قبل ثلاثة أشهر من الموعد النهائي للتصدير، ما منعه من إنهاء التزامه بالتصدير خلال الإطار الزمني الأصلي المحدد من جانب البنك المركزي. ولم يأت شهر آذار/مارس عام 1974، بعد أربعة عشر شهرًا من انتهاء الموعد النهائي للتصدير، حتى أصدر مكتب القطع أمر ضبط وإحضار في حقه، متهمًا إياه بتنفيذ صفقات غير مشروعة بالعملة الصعبة، والإتجار بالعملات الأجنبية والإضرار بالعملة الوطنية عن طريق قبض حوالات منشؤها مصر بأسعار مساوية لأسعار البنك المركزي. وباختصار، اُتهم تاجرنا بتحويل الأموال بين البلدين دون أن يكون قد نفذ تعهده بتصدير السلع في المقام الأول، فضلاً عن فشله في تصريف تلك السلع في السوق المصري الاستهلاكي»، وفي حين أضرَّ بالاقتصاد السوري بما يقدَّر بـ 3.457.580 ليرة سورية (70.000 دولار)؛ علاوةً على ذلك، اُتهم بإرسال الأموال التي كان قد تسلمها من مصر إلى لبنان، وبالتالي يكون قد استخدم لبنان بوصفها «منطقة محايدة» لـ «غسيل الأموال».
ومع تقدم الدعوى، لم تُزوّد القضية بكثير من الأدلة تثبت أن تاجرنا أساء بالفعل استخدام الإجراءات البيروقراطية السورية والمصرية من أجل تبادل السلع (بما فيها العملات) بسعر أفضل من الأسعار المفروضة رسميًا. وقد بنى الدفاع مرافعته على نقطتي ضعف رئيستين في حجة المدعي العام؛ أولهما: أن المتهم لم يكن قادرًا حتى على إنهاء صفقته خلال الإطار الزمني المحدّد من جانب البنك المركزي، نظرًا إلى أن الأمر العرفي صدر قبل ثلاثة أشهر من الموعد النهائي؛ وثانيهما، أن شرعية الأمر العرفي بحدّ ذاتها هي موضع شك، على أرضية أن المدعى عليه لم يكن يمثل «خطرًا وطنياً» في حدّ ذاته.
واستُعجل في طلب الضبط من مكتب القطع من جانب المدعي العام بدمشق، والذي أرسله بدوره إلى قاضي التحقيق. وفي غضون ذلك، صدر أمر عرفي ثانٍ في كانون الأول/يناير 1980، بتحويل الملف إلى مصدره الأول، قاضي التحقيق في دمشق. وعلى الرغم من أن الأخير قال إنه لم يكن هناك أدلة جدية ضد المدعى عليه، غير أن المدعي العام استأنف الدعوى في محكمة الأمن الاقتصادي في دمشق. وقد رفضت هذه الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر دعوى الاستئناف في ما يتعلق بتهمة الإتجار بالعملات العامة. وبما أن قرار المحكمة كان نهائيًا، أُحيل الملف إلى المحكمة الابتدائية في دمشق التي قررت في آذار/مارس عام 1988 أن المدعى عليه غير مذنب في جميع التهم المنسوبة إليه. كما أن المحكمة أشارت إلى الطبيعة غير المنطقية لمحكمة الأمر العرفي. ثم أُحيلت القضية بعد ذلك إلى مجموعة من الطعون الأخرى، والتي لسنا في صدد الخوض فيها هنا. ويكفي القول إنه لم يكن شهر آذار/مارس من عام 1991 حتى أقرت المحكمة الإدارية العليا أخيرًا بأن «الأمر العرفي تجاوز غرضه التشريعي الأولي، معتبرة أن الأدلة المقدمة لم تثبت مخاطر حقيقية تسبب بها إتجار المدعى عليه غير القانوني المزعوم بالعملات الصعبة على الأمن القومي». وفي كانون الأول/ديسمبر عام 1991، أقرت المحكمة نفسها نقطة حاسمة بأنه ينبغي للإشراف على القضايا المدنية التي تمس «أمن الدولة» أن تندرج ضمن اختصاصها (سلطانها القضائي)، إذ إن القانون الإداري وحده يمكنه تحديد ما إذا كانت الإجراءات تُتّبع بشكلٍ صحيحٍ من جانب مختلف الإدارات (المحاكم) العرفية. وأغلقت القضية بشكلٍ نهائيٍّ في كانون الأول/ديسمبر عام 1992، بعد عشرين عامًا من صدور أمر المحكمة العرفية الأولي، بالتزامن مع صدور حكم نهائي يُقر بأن الحكم العرفي كان لاغيًا وباطلاً.
والقضية هنا ليست ما إذا كان يحق لبلد ما فرض قواعد وأنظمة صارمة على تدفق العملات والسلع عبر حدودها، حتى وإن كانت القواعد في الحالة السورية مشدَّدة جدًا ومبهمة مما جعل حركة التبادل التجاري تزحف زحفًا. ما هو مهم هنا هو كيف لقضية صرف عملات عادية، والتي انطوت بداية على تصدير سلع غذائية إلى مصر، وهي بلد يتمتع بعلاقات ودية مع دمشق، على نطاق صغير مقارن، أن تنتهي بقضية أمن دولة، ولماذا استغرقت عقدين من الزمن لصدور حكم نهائي في شأنها. وعلاوةً على ذلك، وكما تكاثرت القوانين الاقتصادية المختلفة في السبعينيات والثمانينيات، أُنشئ عدد أكبر من المحاكم خصيصًا للتعامل مع هذه القوانين، مما خلق بلبلة بين النصوص والاختصاصات القضائية. والنتيجة أن روح قانون عام 1949 المدني الذي يحمي الحريات الفردية في التبادل وتكوين الجمعيات، قد هُمّش بالكامل لمصلحة دولتية متبلدة، أيديولوجية أكثر منها قانونية.
ومن أمن الدولة إلى الرفاهية الجماعية، وجدت السلطة القضائية نفسها واقعة في شرك النزاعات التي ما تزال جوانبها القانونية غير محدّدة بوضوح. وبعبارة أخرى، هناك دائمًا منطقة غامضة، تقع على هامش القانون المدني، إذ يجد المستخدمون أنفسهم فيها متورطين فجأة. وبالتالي فإن احتيالاً بسيطًا يمكن أن يتحول إلى اتهام بـ «الإضرار بالإنتاج الاشتراكي» أو أن تتحول عملية صرف ثانوية للعملات إلى شأن يقلق أمن الدولة. والأكثر أهمية أن مصادرة الأملاك علقت بين أحكام القانون المدني التي تحمي من حيث المبدأ الملكية الخاصة، وتلك التي ترتبط بالصالح العام، استنادًا إلى التشريعات والأنظمة الصادرة خلال التوسع الهائل للدولة منذ السبعينيات.
وإذا كان هدف تدخل الدولة هو جميع أنواع الممتلكات المنقولة وغير المنقولة، فذلك لأن الدولة قد قدَّمت نفسها على أنها الضامن الطبيعي للحقوق المدنية، واضعة الأولويات السياسية فوق تلك المدنية من أجل بقاء الجماعية. وعلى الرغم من أن قانون عام 1949 المدني قد شدّد بقوة على الحق الشخصي للمعاملات التي يجريها الأفراد، غير أن هذه الحقوق أصبحت مهمشة نتيجة للحقوق الطبيعية الدولتية المتزايدة أبدًا، كما لو أن المعاملات الخاصة قد أصبحت تهديدًا لوجود الدولة بحدّ ذاته.
وكانت العقبة الأكبر أمام حقوق الملكية الخاصة في عام 1958، في السنة الأولى للوحدة مع مصر، عندما سمحت السلطات للبلديات باستملاك قدر ما تحتاجه من الأملاك العقارية، خاصة أكانت أم من الأوقاف، من أجل تشجيع الإسكان العام. ومنذ ذلك الحين، تبنَّت كل مدينة «خطة تنظيمية»، ترسم حدودًا تطوق المدينة، خارج نطاق الأماكن التي يُحظر فيها البناء. ومع إدماج المناطق الريفية في الخطة، قامت البلديات بمصادرة الأملاك المُدرجة حديثًا بغرض تحويلها إلى مشاريع عامة.
وعُممت سياسة المصادرة هذه في القانون رقم 60 لعام 1979 (الذي غالبًا ما يوصف خطًا بقانون المصادرة)، والمرسوم رقم 20 لعام 1983 والقانون رقم 26 لعام 2000 (الذي هو نسخة منقحة عن القانون رقم 60 لعام 1979). وجميع هذه القوانين تقدم مزيجًا معقدًا من الإجراءات للمصادرة والطعون واسترداد الأموال. وباختصار، أحدثت هذه القوانين والأنظمة في نظام الملكية مجموعة قيود مماثلة لتلك الموجودة في معاملات البضائع، مع تعامل الدولة وكأنها الحامي الطبيعي للملكيات البارزة. وعلاوةً على ذلك، وحيث أن الملكية الخاصة أصبحت ضحية إحكام سيطرة الدولة على الممتلكات المنقولة وغير المنقولة، كان على المستخدمين إيجاد طرق لتفادي القنوات العادية لنقل الملكية، سواء ضمن العائلة أو مع الغرباء. وبالتالي أصبح من الشائع وقوع الناس في ورطات قضائية كلما نقلوا ممتلكات. إضافة إلى وضع ملايين الملكيات في الأحياء الفقيرة؛ إذ يفتقر الجزء الأكبر منها إلى التسجيل الصحيح، غير أنها تُنقل مع ذلك بشكلٍ روتينيٍّ من خلال إجراءات توريث قانونية صاغها المستخدمون المعنيون أنفسهم.
وفي السبعينيات، في ذروة حركة حافظ الأسد التصحيحية، فُرضت أنواع القيود كافة على نقل الملكية، ولا سيّما القانون رقم 3 لعام 1976 الذي يحظر رسميًا ما يسمى «البيع المزدوج» للمتلكات المدينية غير المبنية من مالك إلى آخر. وبعبارة أخرى، لا يستطيع مشترٍ مبدئيًا أن يبيع مشترٍ آخر، ما لم يوجد تعهد باستخدام الملكية لشكل من أشكال المشاريع السكنية أو الصناعية. وكان الغرض من هذا القانون، في فترة كانت فيها أسعار الأملاك المدينية تُحلِّق، ولم يكن هناك إمكانات استثمار حقيقي في كلا القطاعين المالي والتصنيعي، والحد من المضاربات الاستثمارية التي من شأنها دفع الأسعار حتى أعلى من ذلك. وعلاوةً على ذلك، فإن هذا القانون قد صدر بالتوازي مع تشريعات ومراسيم أخرى مقيِّدة، مثل أنظمة تقسيم المناطق المختلفة، وإجراءات المصادرة والقيود المفروضة على تقسيم ممتلكات العائلة الكبيرة (بما فيها حيازات الشيوع) بين مستخدمين أفراد.
دعونا ننظر في قضية نذير الخاصة، إذ تقدم بدعوى في شباط/فبراير 1982 ضد محافظ دمشق، يزعم فيها أن المحافظ رخَّص لنذير البدء ببناء أرضه الخاصة بشرط أن يتنازل نذير عن قسم من ملكيته من أجل حرمة «الأملاك العامة». وادعى المُدعي أن فراغ جزء من ملكيته قد حصل بالفعل، ولكنه فعل ذلك رغمًا عن إرادته؛ ولذلك لم يقم بإتمام العقد مع المحافظ إلا بعد أن أضاف تحفظاته إلى ورقة العقد نفسها. وفي الدعوى، لخص نذير هذه التحفظات وطلب استرداد أمواله عن الجزء المفقود من ملكيته.
وادعى رئيس البلدية أن المادة 773 من القانون المدني تحذر المالكين من أنه، على الرغم من حقهم في الخصوصية وسلامة ممتلكاتهم، ينبغي عليهم أخذ القوانين والمراسيم التي من شأنها حماية المصلحة العامة بعين الاعتبار. وأشار المحافظ في دفاعه عن نفسه إلى المادة 12 من القرار رقم 350 لعام 1978 مساكن دمشق، التي تنص على أنه «كلما تطلبت الخطة الجارية، في لحظة تطبيق البناء، أن يتم إلحاق جزء من الممتلكات لممتلكات أخرى خاصة أو عامة، فعندها يُمنح الترخيص فحسب بعدما يقوّم الجزء الذي ينبغي إلحاقه بشكلٍ صحيحٍ، واستلام المبلغ كله». وباختصار، إن التنازل المجاني عن جزء من الملكية، الذي يحصل من أجل الحصول على رخصة بناء في الجزء غير المُتنازل عنه، لا يجيز للمالك أن يحصل لاحقًا على سعر تعويضي للملكية الذي سبق وأن تنازل عنها للصالح العالم.
ردّت المحكمة الابتدائية في شهر شباط/فبراير من عام 1983، الدعوى: «وكانت محكمة النقض قد بررت مسبقًا [بناء على دراسة ملف آخر] أنه بمجرد أن يكون المدعي قد تنازل عن جزءٍ من ممتلكاته للصالح العام من أجل الحصول على رخصة بناء، فإن ممارسة كهذه مقبولة وقانونية، ولن يتم النظر فيها على أنها تصرف تحت الإكراه، معتبرة أن المدعي قد حصل عوضًا منها على رخصته بالبناء. وبعبارة أخرى، ما دامت هناك «مصلحة عامة» مشتركة، فإنه لا يشكل فرقًا إن كان المدعي قد ذكر أي تحفظاتٍ [عند صوغ العقد] أم لا، طالما أن التنازل حدث بشكلٍ قانوني».
وفي سلسلة دامت عقدًا من الزمن من الردود والردود المضادة، أكثر ما يبرز في الحقيقة هو مفهوم الإجبار أو الإكراه، وذلك لسبب بسيط هو أن المحكمة تُفرِّق بين انتهاك للحقوق الشخصية، من جهة، وفعل التبادل المتعمَّد ضمن الإجراءات الإدارية من أجل الحصول على رخصة بناء، من جهة أخرى. وبالتالي، حتى التحفظات التي أُلحقت بالعقد الأصلي كانت مؤشرًا على أن المدعي كان مدركًا للتنازل المقترح عليه. وبالتحليل النهائي، كان مفهوم الإكراه هو الذي ساد وحصل المدعي على حكم إيجابي في شباط/فبراير عام 1991 من محكمة الاستئناف في دمشق، وعُوِّض بمبلغ 1.215.000 ليرة سورية (24.000 دولار أميركي) عن الملكية المبُادلة بشكلٍ غير قانوني.
أمرٌ واحدٌ يبدو واضحًا: إن الروح الأصلية للمبادئ القانونية لعام 1949 قد تعرضت للخذلان (الخيانة) بشكلٍ لا رجعة فيه، على الرغم من أن النص بحدِّ ذاته لم يُمس. فقد خسر المواطنون السوريون كثيرًا من حرياتهم المدنية، ليس في الميدان السياسي فحسب بل أيضًا في ما يتعلق بحق التبادل وتكوين الجمعيات بحرية، كما وضعها القانون المدني أصلًا. ومع ذلك، فإن فهم القانون السوري لن يكون كاملاً دون النظر إلى التشريعات البرلمانية.
ثالثًا:
وفقًا لأحكام دستور عام 1973 فإن المسؤولية التشريعية تعود لمجلس الشعب. ولكن في الممارسة العملية، فإن ثقل الصلاحيات التشريعية للرئيس توازن صلاحيات المجلس، ذلك أن الرئيس مخوَّل بالتشريع طالما أن المجلس ليس في حالة انعقاد، والاستراحات البرلمانية طويلة جدًا، وأيضًا لأن الدستور يعطي الرئيس هامشًا واسعًا في إصدار المراسيم. وفي الواقع، فإن القوانين التي كان لها أكبر الأثر في الحياة السورية في السنوات الأخيرة كان مصدرها الرئيس.
ومع ذلك، فإن أحكام الدستور جعلت من مجلس الشعب المؤسسة الوحيدة التي تحدُّ – رسميًا وعمليًا، ولكن واقعيًا أيضًا – من حجم الصلاحيات الرئاسية. وفي الفقرات التالية نقوم بتحليل سنّ قانون، لشرح الكيفية التي يصبح من خلالها المجلس جزءًا من الشبكة المؤسساتية واللعبة السياسية. بدأ مشروع القانون في مجلس الوزراء، وعلى نحو أدق مع وزير العدل، نزار العساسي، الذي كان هو نفسه عضوًا سابقًا في البرلمان؛ وكانت غادة الجابي، وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، مشاركة فيه لاعتبار من رئيس الوزراء بأنها، بوصفها رئيسة سابقة للاتحاد النسائي العام السوري، تتمتع بنفوذٍ خاصٍّ في ما يتعلق بالمسألة التي يجري تناولها.
ويقترح المشروع الذي ناقشه المجلس تعديل سنّ حضانة الطفل عند طلاق الأبوين. وبذلك فإنه مكوِّن أساس من مكونات قانون الأحوال الشخصية، وهو القانون الذي يتعامل مع الزواج، والطلاق والميراث. كما أصدرت سورية قانون الأحوال المدنية في 7 أيلول/سبتمبر عام 1953 (القانون رقم 59 لعام 1953). ويشكل هذا النص، الذي ينطبق على جميع السوريين من المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، جزءًا مما يسمى «الثورة التشريعية» التي حدثت خلال مدة حسني الزعيم الرئاسية القصيرة، على الرغم من أن صدورها الفعلي تم في مدة رئاسة أديب الشيشكلي (1951-3). كما عُدّل في عام 1975، قانون الأحوال الشخصية، وكذلك إدخال تغييرات مهمة في ما يتعلق بتعدد الزوجات، والمهر، والنفقة والطلاق بالتراضي (الخلع) وسن حضانة الأطفال. وفي ما يتعلق بالمسألة الأخيرة، تنص المادة رقم 19 من القانون رقم 34 لعام 1975 على أن «مدة الحضانة [من جانب الأم] تنتهي عندما يبلغ الصبي عمر التاسعة، والفتاة [عمر] الحادية عشرة». كما عُدّل الحكم نفسه مرة أخرى بموجب القانون رقم 18 لعام 2003، الذي ووفق عليه من جانب مجلس الشعب في 19 تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، وصدر عن رئيس الجمهورية بعد أسبوع من ذلك. وتنص المادة رقم 146 من قانون الأحوال الشخصية اليوم على أن «مدة الحضانة [من جانب الأم] تنتهي عندما يصل الصبي عمر الثالثة عشرة والفتاة [عمر] الخامسة عشرة». وكان هذا التعديل هو ما أثار النقاش الذي سننتقل إليه الآن.
إن نظرة فاحصة إلى الطريقة التي انفتح بها النقاش تشكل مدخلاً جيدًا للحياة البرلمانية السورية. إذ بدأ النقاش مع رئيس المجلس، وهو يذكِّر الأعضاء بالإجراءات الواجب اتباعها: تقديم مشروع قانون من جانب الحكومة؛ وعقد جلسة للجنة المجلس للشؤون الدستورية والتشريعية، وتقديم مشروع القانون بعد تعديله من جانب اللجنة، إلى مجلس الشعب. ويقرأ أمين المجلس نصوص مشروع الحكومة ومشروع اللجنة، بعدها يكون المجال مفتوحًا أمام النواب الراغبين في التكلم. وفي خطوة أولية، افتُتح النقاش بسلاسة، مع بعض التدخلات لصالح مشروع اللجنة المُعدَّل وغيره من مشاريع تطالب بتعديلات. وبعد ذلك، طلب أحد الأعضاء إغلاق باب النقاش، والبدء بالتصويت على مشروع القانون. طُرح اقتراح إغلاق باب النقاش للتصويت وأُقرَّ من أغلبية الأعضاء. ومع إقرار إغلاق باب النقاش، استدعى رئيس المجلس أمين المجلس ليباشر قراءة المادة رقم 1. وعند هذه المرحلة فحسب حدث خلاف بشأن إغلاق باب النقاش، وهي خطوة استهلت جولة ثانية من النقاش طُرحت خلالها سلسلة أخرى من التصريحات. وفصل النقاش المستأنف، الذي كان فوضويًا بعض الشيء، مؤيدي اقتراح الحكومة الأصلي عن مؤيدي اقتراح اللجنة ومؤيدي التعديل المقترح من جانب العضو المستقل محمد حبش. كما قُدّم اقتراح ثان لإغلاق باب النقاش، الذي بدوره أُقرَّ من الأغلبية، ومن ثم طُرح مشروع اللجنة للتصويت ورُفض، مما جعل الوضع أكثر إرباكًا، حتى أن رئيس المجلس علَّق الجلسة.
وبعد استئناف الجلسة، بدأ طور ثالث من النقاش اتسم بتعديلات إجرائية وسلسلة من عمليات التصويت على مقترحات عدة تقدم بها الأعضاء. وفي حين رُفضت اثنتين من هذه التعديلات، أُقرَّ تعديل محمد حبش. ومع ذلك، طُرحت مقترحات إجرائية بشأن إجراءات التصويت، مما جعل الرئيس يطلب تصويتًا بـ «القيام والقعود»، والذي وافق على تعديل حبش بأغلبية اثني عشر صوتًا. ثم افتتح الرئيس نقاشًا حول القانون بأكمله، والذي استهل مناقشات جديدة بشأن اختصاص المحاكم والقواعد الإجرائية المختلفة المتعلقة في ما إذا كان النصاب القانوني مكتملاً أم لا. وانتهى النقاش مع تشديد أحد الأعضاء على الطابع المتباطئ للمناقشات، وطرح الرئيس القانون بأكمله للتصويت، بصيغته المعدلة وفق اقتراح حبش. وما إن ووفق على مشروع القانون، أعلن رئيس المجلس أن «المشروع قد أُقرَّ و… أصبح قانونًا»، وانتقل إلى البند التالي في أجندة المجلس.
يُظهر هذا المثال أن رئيس المجلس يؤدّي الدور الرئيس في تحديد عملية النشاط التشريعي. وبالاعتماد على القوانين الداخلية، يصوغ الرئيس المناقشة. ومن خلال العديد من العمليات التي قد تبدو وكأنها مجرد خداع برلماني، يقوم الرئيس بتوجيه وحصر النقاش باتجاهات محدّدة للغاية؛ إذ إنه، وبشكل منهجي، يخصص أدوارًا للحديث، يقاطع، يناقض، يُسكت، يوجز، يتهكم، ويشرع بالتصويت. وباختصار، إنه ينسق العملية برمتها.
وفي الوقت نفسه، تشكل القوانين الداخلية والأحكام الإجرائية للمجلس أداة فعالة في أيدي الأعضاء، ووسيلة تزودهم بمجال للمناورة والطعن. وكما يقول جون إلستر[4]، إن مثل هذه الإجراءات هي ملتجأ أو مورد يقدمه النظام السياسي نفسه. وبتعبيرٍ أدق، إنها تجعل من الممكن استخدام الوسائل الإجرائية لتعطيل النظام أو، على الأقل، لجعل الحُكّام «يدفعون ثمن» الدور الهامشي الذي حصروا البرلمان ضمنه. وفي تصنيف ألبرت هيرشمان لدراسة الرموز والأنماط، تسمح هذه الإجراءات للأعضاء بممارسة التعبير؛ أي التعبير عن الانتقادات من داخل النظام نفسه. وفي حالتنا، لم يأخذ هذا التعبير شكل الطعن الصريح بل شكَّل بدلاً من ذلك إستراتيجية مستفزة، فقد استُخدمت القواعد الإجرائية، التي قدَّمها النظام، وليس بإمكانه التملّص منها، حتى التأثير الأقصى.
رابعًا:
إن دراسة الطريقة التي تُمرر القوانين بها هي إحدى الوسائل لإدراك كيفية عمل المؤسسات السياسية. ففي سورية المعاصرة، هناك عملية تداولية داخل مجلس الشعب. وهذه العملية تثبت عدم موثوقيتها إلى حدٍّ بعيدٍ، إذ إنها تنطوي على تعاون النوَّاب الذي يتصرفون على أساس دوافع شخصية. وفي النظام الاستبدادي، تُكثر المؤسسات النيابية التمثيلية من وسائل ما دون اتخاذ القرار، التي من خلالها يستطيع الأعضاء الشروع بمبادرات تتطابق مع ما يعتقدونه ملائمًا للجماعية، وبالتوافق مع مصالحهم الشخصية. ويرسم النوّاب خرائط عملية تضع حدودًا بين ما هو مسموح به وما هو محظور ضمن الإطار المؤسسي. وتترك هذه الخرائط هامشًا عريضًا من عدم اليقين مفتوحًا، بل أكثر من ذلك، لأن الشرعية الشعبية للنظام يجب أن تُكرَّر (على الأقل رسميًا) داخل المجلس.
وغنيٌّ عن القول، إن مجلس الشعب السوري يقدم بعض السمات الفريدة. فانتخاب النوَّاب ليس نتيجة عملية اقتراع حرة وشفافة. ومع ذلك، فإن المجلس يعمل بالتوافق مع، وبدوره ينتج، مجموعة من النصوص القانونية التي تقيِّد وتتقيَّد على حد سواء بالبيئة المؤسساتية التي فيها تجري السياسة. وثمة دائرة، إما أخلاقية أو غير أخلاقية، إذ يطوق النشاط التشريعي بقواعد وإجراءات خلقوها هم أنفسهم. وبعيدًا من كونها مجرد قيود على عمل الأعضاء، فإن هذه القواعد والإجراءات تقدم أيضًا الموارد التي يمكن للأعضاء استخدامها، وهم يستخدمونها بالفعل لإثبات ذواتهم، وللتعبير عن تفضيلاتهم، وللتعبير عن الاختلاف بالرأي أو ببساطة لمخاطبة الجمهور الأوسع. ومختصر القول، إنه على الرغم من الطبيعة الاستبدادية للنظام البعثي، غير أن النظام القانوني هو واحد من الأمكنة حيث تعمل الديناميات السياسية المعقدة، والتي تتجاوز السلطة الاستبدادية للحاكم، وتعكس علاقات التبعية والاستقلالية المعقدة بين مجلس الشعب، حزب البعث ورئيس الجمهورية.
[1] مجموعة القوانين الاقتصادية، دمشق 2003.
[2] Alan Watson, The Making of the Civil Law (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1981), p. 115:
إن البنية الأساسية للقانون المدني هي بنية التقاليد المؤسساتية؛ حتى أنه يمكن وصفها بأنها غير طبيعية. وبالتالي، وبخلاف القانون المدني، فإن القوانين الطبيعية تؤكد على أهمية الدولة بالنسبة للمجتمع البشري وتشدِّد على العلاقة القانونية بين الفرد والدولة. أما الأمور الأخرى المغفلة من القانون لا يمكن تفسيرها بأي مفهوم لقانون عقلي. والأمر الأكثر لفتًا للنظر بين هذه الأمور المغفلة هو القانون التجاري والذي أصبح موضوع قانونه الخاص. القانون التجاري الذي دخل حيز التنفيذ في الأول من كانون الثاني/يناير عام 1808. وبأي طريقة فهم سوية، فإن القانون التجاري هو جزء من القانون الخاص، والقانون بين المواطنين. أما إدماج القانون التجاري في القانون المدني فكان أمرًا سهلًا جدًا، نظرًا إلى وجود ما كان في الواقع مجموعة مبادئ القانون التجاري في مرسوم كولبير للقانون التجاري. وعلاوةً على ذلك، فإن عدائية الثوار للطبقة التجارية أوجبت منطقيًا زوال أي قانون تجاري منفصل وإدماج القواعد الملائمة لجميع معاملات وفئات الناس في القانون المدني. وتفسير إغفال القانون التجاري من القانون هو ببساطة أن القانون التجاري لم يكن يُفكَّر به على أنه «قانون مدني»، وتفسير ذلك أن القانون التجاري قد صاغ تقاليده القانونية المتميزة الخاصة، ولم يكن له جذور في القانون الروماني يمكن إلحاقه بها، وقبل كل شيء إنه ليس موجودًا في مجموعة مبادئ جستنيان، وبالتالي ليس موجودًا في مجموعة مبادئ القانون الفرنسي. وينطبق التفسير نفسه على الإغفال ذاته في القانون المدني النمساوي والقانون المدني الألماني.
[3] وتتلخص الحالتان في هذا القسم في محمد فهر شقفة، قضايا وأبحاث قانونية، دمشق 1997.
[4] Jon Elster, «L’Usage stratégique de l›argumentation,» Négociations, vol. 1, no. 2 (2005), p. 60.