مدخــل
القضية الفلسطينية من أكثر القضايا تعقيدًا، فهي لا تزال حية على الرغم من مرور أكثر من مئة عام على بداياتها الأولى؛ لأنّ أطراف الصراع فيها لهم حضورهم في المشهد السياسي العالمي، ولأنها تحولت إلى قضية ضمير بعد زمن من إشاعة الاعتقاد في العالم الغربي أنها حلٌّ لقضية ضمير أخرى هي “المسألة اليهودية”. إضافة إلى أن لها انعكاسها على مئات الملايين حول العالم بشكل أو بآخر (لأسباب عرقية أو دينية أو إنسانية بحتة …). وكل هذا يعني أننا بصدد قضية يتعرض القول الموضوعي بشأنها لكثير من الضغوط لأسباب سياسية وأيديولوجية.
النقطة المحورية في القضية الفلسطينية تتمركز في أن أحد طرفيها يبني قوميته، ويستمد دعم ادعائه أحقيته في السيطرة على الأرض، من أساطيره
الدينية التاريخية، ومن أنّ تَحقُّقها مصلحة للقوى العظمى، وهو ما سهّل ارتكابه جريمة التطهير العرقي بحق سكان هذه الأرض عام 1948، ما أدى إلى استعصاء الحلول منذ ذلك الوقت، ووضع عوائق هائلة أمام البحث التاريخي الموضوعي، إن كان هذا في ما يتعلّق بتاريخ فلسطين القديم أو دراسة نشوء الصهيونية (القومية اليهودية) ونشوء إسرائيل بشكل موضوعي. الأمر الذي وجد بعض المحاولات لتصويبه من مؤرخين معاصرين منهم “إسرائيل شاحاك” في عدة كتب منها: “التاريخ اليهودي. الديانة اليهودية وطأة ثلاثة آلاف عام”. وأبرزهم “آلان بابيه”، ومن كتبه: “التطهير العرقي في فلسطين”. ولتؤدي حركة مراجعة الأساطير اليهودية إلى الضغط على المؤسسة الإسرائيلية نفسها دافعة بعض أفرادها إلى الاعتراف بفشلها في إيجاد آثار تؤكد وجودها التاريخي، وهو ما جعل رئيس قسم الآثار في جامعة “تل أبيب”، إسرائيل فرنكشتاين، والمؤرخ نيل إشر سلبرمان، يقرّان في كتابهما المترجم بعنوان “التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها”، بهذه الحقيقة، ويذهبان إلى الاعتقاد أن اليهود القدماء ما كانوا إلا قرى جبلية كنعانية، اعتمادًا على أنهم وجدوا بعض القرى الكنعانية خالية من عظام الخنزير! أما المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند فقد خلص إلى أن الفلاحين الفلسطينيين الموجودين في أرض فلسطين قبل النكبة، الذين طردت أغلبهم الحركة الصهيونية، هم أحفاد اليهود[1]، بينما أغلبية اليهود المعاصرين هم من قومية الخزر الأوروبية[2].
وفي هذا الشأن، يبدو بعض المثقفين، والمؤرخين، والعلماء اليهود أكثر انفتاحًا من بعض القادة الأوروبيين الذين يبدون عداء لانتقاد إسرائيل، ما يولد خشية من أن يعدوا البحث العلمي في أساطيرها المؤسسة جريمة، حيث يخلطون بين جريمة اللاسامية القميئة وانتقاد الصهيونية، ما يحدّ من قدرة البحث الموضوعي، ويزيد التشنّج بقضية تبعث على الانفعال من دون مساهمتهم “الفذة” هذه!
في المقابل، تنطلق هذه المقالة من بدهيتين، لكنني لن أتناولهما بإسهاب، على الرغم من أهمية التفكير والتفصيل فيهما، لأنني إذا فعلت فسيكون هذا على حساب المساحة المتاحة لموضوع المقالة الرئيس: البدهية الأولى؛ أنه على الرغم من أهمية التعاطف مع المظلومين والضحايا،علينا ألا ندعوهم إلى المشاركة في ظلم أناس آخرين كحلّ لظلمهم؛ وهذا ينطبق على طرفي الصراع في فلسطين. البدهية الثانية، هي أني بخلاف السائد، أعتقد أنّه من العدل أن تُحلَّ القضايا الإنسانية بناء على التحرر السياسي، وإنهاء الاستغلال، والعيش المشترك، وليس على شرعية وطهارة تاريخيّتين، واقعيتين أكانتا أم متخيَّلتين. وهو ما يتيح تركيز الجهد على إيجاد مساراتِ حلِّها بدلًا من استمرار الجدل والتزييف التاريخيين اللذين جعلا منها حصان طروادة لكل أشكال التطرّف من الجانبين. وهو ما يرفع الضغط عن الباحثين أيضًا، ويسمح لهم بمقاربات أكثر صحة لتاريخ فلسطين وتاريخ هذه القضية.
وتركّز هذه المقالة، كونها مقاربة أولى للعناصر المؤسِّسة للقضية الفلسطينية، على “المسألة اليهودية” وحلّها القومي والوظيفي، وهما مشكلتاها الأوروبيتان اللتان ما زالتا العاملين الرئيسين لاستعصائها على الحل في وقتنا الراهن.
المســــــألة اليـهودية
نتجت “المسألة اليهودية” في التاريخ الأوروبي بفعل انتهاء احتكار اليهود لوظيفة المرابي في مجتمعات القرون الوسطى الأوروبية مع انتهاء العصر الإقطاعي القائم على سيادة الاقتصاد الطبيعي، وغياب السلعة والنقد، وظهور البنوك. وهي الوظيفة التي كانت تتطلّب حين كانت ضرورية لعصر الإقطاع استمرار الطائفة اليهودية، حيث كان يجري ضمان حصول ذلك عبر عزل اليهود في تجمّعات خاصة بهم، كان يطلق على الواحد منها اسم “الغيتو”، وتقييد حركتهم، وتشديد الإجراءات الدينية التي تمنع إمكان اندماجهم مع بقية السكان، وكل ذلك كان يضيف غرابة لقسوة العمل بالربا، الأمر الذي كان يجلب لهم كراهية المجتمعات التي يؤدّون وظيفتهم هذه فيها. وفي ذلك العصر، كثيرًا ما وجّه الإقطاعيون غضب الفلاحين المعدَمين نحو اليهود لتجنّب ضرر ثورتهم من جهة، ولنهب ذهب أغنياء اليهود من جهة أخرى. ثم أتت تحوّلات الرأسمالية البطيئة، والعميقة، في المرحلة الأخيرة من هذا العصر لتؤدّي إلى إفقار قطاعات مهمة من اليهود، كما أن التغييرات التي أجرتها البرجوازية بتقدمها الحاسم، ومنها تشريعها الربا، بحيث أصبح المال هو دين الرأسمالية ذاتها، عمّمت وظيفة اليهودي المالية لتصير وظيفة من وظائف البرجوازية الرأسمالية، وبهذا لم يعد هناك حاجة إلى هذه الطائفة الوظيفية منفصلة، ولا إلى اانغلاقها في “غيتو” يتيح لأثريائها وكهنتها ضمان استمرارها عبر إعادة إنتاجها فيها. وجرى اندماج البرجوازية اليهودية بالبرجوازيات الأوروبية عبر آلية صراعية، بحكم أن بعض أثرياء اليهود تحكّموا في اقتصاد بعض الدول الأوروبية كما أشار كارل ماركس في كتابه “حول المسألة اليهودية”، ومن ذلك أن البنكيِّين اليهود تولّوا الجانب المالي من اتفاقية عام 1871 بين فرنسا وألمانيا في كلا الجانبين، فألّبت البرجوازية الشعوب على اليهود، بالأسلوب نفسه الذي اتبعه الإقطاع قبلهم، بقصد توجيه غضب الشعب الفقير بعيدًا عنهم باتجاه منافس قوي ماليًا، ولكنه ضعيف بسبب دينه المختلف بغية الاستيلاء على كل أو بعض أعماله. وارتبطت حدّة هذا الصراع بمدى اتساع ثراء أغنياء اليهود، ومدى حداثة البلد ونموه وتحرّر دولته. ولذلك جرت المجازر في تلك الفترة في شرقي أوروبا، حيث الفقر والجهل والاستبداد، ولكن موجات هجرة اليهود منها نحو الغرب ضغطت على الحرية السياسية النسبية التي حازها أقرانهم في الدين فيها، (حيث نالوا حقوق المواطنة في هولندا عام 1796، وفرنسا عام 1830، والدانمارك عام 1849، وإنكلترا عام 1858، والنمسا عام 1867، ولحقتهم إيطاليا وألمانيا وسويسرا)، ما وجده شعبويّون عنصريون فرصة للتحريض ضدهم. ومن هذه الأوضاع نشأت مشكلة في أوروبا كلها أُطلق عليها اسم “المسألة اليهودية”، فتفاعل معها كثرون طارحين حلولًا لها، منها ما هو تحرّري وضح وظيفة الربا ومسؤولية نمط الإنتاج بما يرتبط بها من قسوة، وصولاً إلى الحرية السياسية، ومنها ما هو عنصري لام اليهود على وظيفتهم التي انتهت، ونعتهم بصفات كريهة جوهرية وطالب بتهجيرهم.
وبينما نسب إلى الأديب الروسي “فيدور دوستويفسكي” في عام 1772 مدونة عنصرية في صحيفته “يوميات كاتب” بعنوان “المسألة اليهودية” لام فيها اليهود على ما قدّر أنه كره الشعب الروسي لهم (وهو ما أنكره نقاد)، قدّم المفكر الأممي كارل ماركس تفسيرًا موضوعيًا مناقضًا لتفسيره في مجلة “الحوليات الألمانية الفرنسية” بعنوان “حول المسألة اليهودية”، نشرت عام 1844؛ استشرف فيها ماركس حلًا للمسألة اليهودية في سياق التحرر السياسي لدول أوروبا الذي كان يدعو له، مستخدمًا نقد أطروحة لـ “برونو باور” (ربط فيها “باور” تحررهم بأن يكفوا عن كونهم يهودًا) ليبيّن أن تحرّر الدولة من الدين وضمانها حرية المعتقد، في سياق دمقرطتها وعلمنتها، والتعامل مع اليهود كمواطنين وليس كقومية، سيضمن تحرّرهم، وتحرر كل مواطني الدولة، عبر التحرّر سياسيًا من الدين بإقصائه من الحقل العام إلى الحقل الخاص.
وكردة فعل على العنصرية الأوروبية التي انتقلت، مثل كل أوروبا، إلى عصر القوميات، وزيد عليها ما أضافته صناعة القوميات من عنصرية، وكمكمل لها على نهجها نفسه، كانت هناك عنصريّة يهوديّة تتشكّل بدعاوى قوميّة، ومن بشائرها أعمال المؤرخ “هاينريخ غريتس” (1818-1891) الذي يصفه المؤرخ التقدمي “شلومو ساند” بأنه كاتب “أول مؤلف بذل فيه جهد بانفعال وتناغم لاختراع الشعب اليهودي” (اختراع الشعب اليهودي، ص107)، وأعمال المفكر الصهيوني “موشي هس” (1812-1875) الذي يصفه “ساند” بأنه “الثوري المنهك الذي دفعه السلوك اليومي السياسي الفلسفي المناهض لليهود في ألمانيا إلى كشف ماهيته القومية” (اختراع الشعب اليهودي، ص113) حيث لم يخفِ “هس” اشمئزازه من الألمان، وسخر من دعاة الإصلاح ومن أنصار التحرر في أرجاء ألمانيا، وليكتب أنه “ليست التوراة إذًا إنما العرق هو الذي يصيغ شكل الحياة، وحتى التوراة ليست هي في الواقع التي أوجدت الحياة العائلية البطريركية كما بدت في التناخ، مصدر الديانة الإسرائيلية، بل العكس، فالحياة البطريركية لآباء أمتنا هي أساس نشوء العقيدة الدينية المضفورة في التناخ، والتي كانت دائمًا وأبدًا عقيدة انبعاث قومي نمت وتطورت من خلال تقاليد عائلية مستمرة”[3]. أما “ليو بنسكر” (1821-1891) فكانت ردة فعله على مذبحة أوديسا في روسيا عام 1871 وموجة العداء الشعبية في جنوب روسيا الممتدة من عام 1882 إلى عام 1884 (والتي أشيع أنها بتحريض من الدولة الروسية التي اتهمت اليهود بالمسؤولية عن اغتيال القيصر إسكندر الثاني في 13 آذار/ مارس 1981) هي التحول عن الدعوة للاندماج بالشعب الروسي إلى الصهيونية، ويعدّ أن كره اليهود الذي خبره هو “رهاب مرضي لامنطقي” موروث لدى شعوب العالم، ففضل أن يطلق عليه “رهاب اليهودية” بدلًا من تسمية “معاداة السامية”، وعده مرضًا لا يمكن علاجه لأنه عاهة تنتقل من الأب إلى الابن، وأن التقدم مهما عظم لن يقتلعها.
ومع “تيودور هرتزل” (1860 إلى 1904)، عرفت الأيديولوجيا “القومية اليهودية”/الصهيونية اندفاعة كبيرة في العنصرية، ومن ذلك سعيها للاستفادة من اللاسامية، والتعاون معها، بدلًا من أن تتعارض معها. كما أوضح بشكل لا لبس فيه أن نشأتها في كنف القومية الاستعمارية الأوروبية وما رافقها من عنصرية سيحدّد التزامها مصالح وأيديولوجيا عنصرية واستعمارية معادية للتحرر الذي التزم فيه آنذاك أغلبية اليهود الاندماجيين المشاركين غالبًا في الحركات التحررية التي كانت تغلي بمطالب تحرريّة للشعوب، ومنها إتاحة المواطنة، وتحرّر الدولة من الدين، ما يتيح لليهود ومواطنيهم الاندماج بأممهم والعيش بمساواة وحرية. فقد برز “هرتزل” كعازف على آلة هامشية، ولكن نشطة، في جوقة كبيرة، ومتناغمة، كانت أوروبا ترقص على إيقاعها القومي. فالمتصارعون، والمختلفون سياسيًا، كانوا قد اتفقوا على عظمة أممهم، وقدمها، وخصوصياتها، والمجد الذي كان في ماضيها الذي يدعوها إلى العلا بعد أن بُعثت واستيقظت ونهضت … وما يشبه ذلك. فكتب “هرتزل” كتابه “الدولة اليهودية” متأثرًا بالأيديولوجيا القومية المهيمنة على عالمه الأوروبي، ومثلها كان ممتلئًا بالرغبة في الاستعمار، ويتعامل مع السكان الأصليين في فلسطين كما يتعاملون مع نظرائهم في البلدان التي يستعمرونها على أنهم مشكلة قابلة للحل، فيكاد لا يذكرهم إلا في سياق كونهم عائقًا يطرح حلًا للتعامل معه مثل قوله: “عندما يشعر السكان المحليون أنهم مهددون يجبرون الحكومة على إيقاف أي تدفق جديد لليهود، ومن ثمّ فإن الهجرة لا جدوى منها ما لم تقم على أساس من هيمنة مضمونة” (الدولة اليهودية، ص17).
ولقد ركّز “هرتزل” تسويقه لمشروعه مع النخب الحاكمة في أوروبا على ادعائه ضمانه حل المسألة اليهودية عبر تحويل اليهود إلى أمة، وإنشاء دولة لهم، فيهاجرون مجتمعاتهم الأوروبية إلى دولتهم. وبالروحية نفسها قاد تأسيس “الحركة الصهيونية” وتزعّمها عبر سبعة مؤتمرات، وشارك خلالها مشاركة حاسمة في وضع برنامجها وخلق أيديولوجيتها التي ما زالت مؤثرة حتى وقتنا الراهن.
وككلّ أيديولوجيّ يخلق فكرًا زائفًا، ركّز “هرتزل” في عمله على التعريف بالضد عاجزًا عن تعريف إيجابي حتى بلغة القومية. فخلقُ أمةٍ على مثال الأمم الأوروبية الحديثة، يتطلّب أكثر من أتباع دين من جنسيات، وعروق، مختلفة، وأساطير دينية مشابهة لكل ما أنتجته الأديان من أساطير عن نسب يعود إلى فرد أسطوري واحد. (ولقد بدى ما كتبه “هرتزل” بهذا الصدد باهتًا حتى بمقابلته بما أنتجه مؤرخون يهود، سبقوه أو عاصروه، اشتغلوا على اختراع “قومية يهودية” عبر أقلمة الأسطورة اليهودية مع لغة العلم في زمنهم) وهو النقص الذي عوّضه “هرتزل” عبر الارتكاز على ما ادعاه من كره أصيل لدى الشعوب لليهود لا براءة منه، ومن المبررات التي اجترحها لهذا الكره اشتق صفات لهذه الأمة هي النجاح والتفوق؛ وعلى هذا الكره، الذي قدمه على أنه بمنزلة الحقيقة المطلقة والشاملة والأبدية، عوّل “هرتزل” على مدّ القومية التي يبشّر بها، والتي ادعى كأمثاله من الأيديولوجيين وجودًا قديمًا لها، ومن ذلك قوله: “إن العالم يردّد صيحات صاخبة ضد اليهود، وهذه الصيحات هي التي أيقظت الفكرة [القومية اليهودية] من سباتها”. فرفض التحرر السياسي كان ينفخ الروح في الفكرة الصهيونية ضعيفة الشعبية بين اليهود في أوروبا الذين كانوا أميل للاندماج في أممهم، وكان كثيرون منهم منخرطين في الحركة التحررية الصاعدة، وهو ما كان يؤدي أيضًا إلى تقوية ادعاءات الصهاينة التي كانت تمثلهم، يقول “هرتزل” بضغطه على الاندماجيين: “أطلب من أولئك اليهود الذين حاولوا ما في وسعهم حل المشكلة اليهودية أن ينظروا إلى محاولاتهم السابقة على أنها خطأ ولا فائدة منها” (الدولة اليهودية، ص3). ونجد في كتاب “هرتزل” المذكور نموذجًا مثاليًا للسجال القومي الزائف، والمتناقض، والمساوم إلى حدود السعي للاستفادة من اللاسامية وتقديم القومية اليهودية على أنها حلّ مناسب لها. وهو يصرّح عن هذا بنموذجين: الأول حين يشير إلى أن اليهود الذين يمكن أن يوافقوه هم المعرّضون للاضطهاد فحسب، ومن ذلك قوله: “لا شك أن آرائي في هذا الصدد سوف تقابل بالترحيب في البلاد التي تتميّز بمناهضة السامية. أما في البلاد الأخرى، حيث يعيش اليهود في بحبوحة فإنهم سوف يتلقّونها برفض شديد.” (الدولة اليهودية، ص8)؛ والنموذج الثاني حينما يصرّح أن “الدولة اليهودية” ستتلقى دعمًا من اللاساميين، وهو ما سيأتي تفصيله معنا لاحقًا.
ونجد الزيف في ادعائه قبول منهج الاندماج، واتهام السياسيين بأنهم لن يقوموا بما يحتاجه الاندماج ليحصل، ومن ذلك قوله: “ومن ثم فإن رجل الدولة الذي يرغب في أن يرى اندماج اليهود في نسيج أمّته عليه أن يوفّر الاستقرار السياسي لهم لفترة من الوقت. ولكن لن يفعل هذا أحد حتى ولو كان بسمارك نفسه.” (الدولة اليهودية، ص7)، بينما يعود في الصفحة التي تليها ويخالف هذا المطلب، ويجزم لليهود الذين اندمجوا بأن اللاسامية حتى إن لم تظهر في العلن عندهم، فستعود وتظهر بشكل أكثر شراسة، ونقتطف قوله لهم: “إن إخواني في الدين الذين هم أكثر سعادة لن يصدقوني حتى يتعلموا الحقيقة من درس السخرية باليهود، وذلك أنه كلما طال كبت العداء للسامية كان انفجارها أشد شراسة.” (الدولة اليهودية، ص8). قبل أن يعود لاحقًا ليتناقض مرة أخرى في سياق محاولته لإغرائهم بلغة ليست أقل عنصرية من اللاسامية تجاههم فيقول: “إن اليهود الذين سيبقون لن يكونوا أسوأ حالًا، لأنهم سيتخلصون من منافسة الذين هاجروا، ولن يسمعوا بعد ذلك صيحة العداء للسامية “لا تشترِ من اليهودي”. (الدولة اليهودية، ص29)
وفي الواقع فإنه يكشف بعدها بشكل أوضح سجاله مع الداعين للاندماج، عبر ذكرهم والبلدان التي يعيشون فيها، فهو يذكر أن هناك اعتراضًا على قوله إن اليهود شعب، حيث يقول المعترضون إن قوله يعرقل اندماج اليهود وقد أوشك على الاكتمال، ويقول إن هذا الاعتراض سوف يقوم بصفة خاصة في فرنسا. وليس علينا قبول فكرة أنه يستشرف المستقبل، وإن كانت صياغته تدّعي ذلك، لأنه يستمر في القول “وسوف أردّ على اليهود الفرنسيين أولًا لأنهم يقدّمون أبرز مثال” (الدولة اليهودية، ص8). وفي رده يصرح عن قومية شوفينية حين يتجاوز ادعاء القومية اليهودية بمقارنتها بأمم أخرى يدّعي أنها قابلة للفناء، “أما القومية المتميزة لليهود فلا يمكن أن تفنى ولن تفنى ولا ينبغي أن تفنى”، وليكشف أن سبب ذلك في رأيه “لأن الأعداء الخارجيين يدعمونها”. وهو ما يعود إليه معوّلًا على العداء والحقد لنجاح مشروعه القومي، فيقول: “إن الازدهار يضعف يهوديتنا ويطفئ ميزاتها. إنها الضغوط وحدها التي تدفعنا إلى جذورنا، إنها الكراهية التي تحيط بنا التي تجعلنا غرباء مرة أخرى… إننا شعب واحد.. لقد جعلنا أعداؤنا نتوحّد في ضغينتنا، كما حدث مرارًا في التاريخ.” (الدولة اليهودية، ص17)
وهكذا تظهر الأفكار الرئيسة التي بنى “هرتزل” عليها مشروعه القومي الزائف، فيصف “القومية اليهودية” التي يدعو إليها بأنها متفوّقة وغير قابلة للفناء والاندماج كحال قوميات أخرى تستحق الزوال برأيه؛ ويدعي أن عداء الشعوب لليهود متأصّل لا يمكن أن يتغير، وإن كبت سينفجر بأشرس شكل لا محالة؛ ويعبّر عن رغبة هوسية بتشكيل هذه القومية على هواه، لدرجة أنه أخرج منها من يخالفه من اليهود. وهو يقول بهذا الصدد للاندماجيين الفرنسيين: “إنهم يهود فرنسيون، حسنًا! فليعلموا أن هذا أمر يخص اليهود وحدهم” (الدولة اليهودية، ص9)، قبل أن يعود ويساومهم بالقول عن هجرة اليهود إلى فلسطين وإقامتهم “الدولة اليهودية” أنها ستكون “في مصلحتهم بصفة خاصة، لأنهم لن يظلّوا قلقين في أوضاعهم المتغيّرة كما يقول “دارون”، بل سيصبحون قادرين على أن يندمجوا بسلام، لأن العداء للسامية الذي يجري حاليًا سيكون قد اختفى إلى الأبد” (الدولة اليهودية، ص9). بل يذهب أبعد من ذلك، فيدعي بأن رحيل اليهود البروليتاريا سيخفّض من اللاسامية، فالمسألة السامية عنده “توجد حيث يوجد عدد ملحوظ من اليهود، وحيث تختفي هذه المشكلة فمعناها أن اليهود قد هاجروا وحملوها معهم (الدولة اليهودية، ص6)، ولذلك يطلب من المندمجين اليهود المساهمة في رحيل اليهود الآخرين عبر إنشاء جمعيات لدعم الهجرة، ويصرّح لهم كدليل على صحة رأيه بأن “بعض هذه المؤسسات الخيرية أنشئت لا لمصلحة اليهود المضطهدين ولكن ضدهم، فقد أنشئت لترحيل هذه المخلوقات التعيسة في أسرع وقت وإلى أبعد ما يمكن” (الدولة اليهودية، ص9).
وبينما كان هرتزل قد هدّد اليهود الاندماجيين قبل أن يساومهم، بل وهدد من يتعامل مع اليهود بشكل جيد من الحكام وهو يساومهم، كقوله لـ “دوق بادن الكبير”: “إذا انتشر خبر معاملتك الحسنة لليهود فسوف ينهال على دوقية سموّكم عدد كبير منهم مما قد لا يحمد عقباه” (يوميات هرتزل، ص22-23)، نجده قد اكتفى على طول الخط بمساومة اللاساميين موضحًا لهم الفوائد التي سيجنونها في حال مساعدتهم في إقامة دولة يهودية، في حديثه عن الصعود الطبقي الذي قد يكسبه بقية المواطنين (من يسميهم “هرتزل” طوال الوقت المسيحيين) إن هاجر اليهود، والأعمال التي ستترك لهم، والبيوت التي سيشترونها بسعر مغرٍ… وصرّح لهم باشتراكه معهم في رفض الاندماج، وعدم صدقه إن قال ما خالف ذلك، بقوله: “لقد ألمحت فيما سبق إلى مسألة “ادماجنا”، ولا أريد أن يفهم من كلامي ولو للحظة واحدة أنني أرغب في نهاية كهذه. إن شخصيتنا القومية مشهورة تاريخيًا شهرة لا مراء فيها، وعلى الرغم من كل إذلال، فإنها أقوى من أن تجعل القضاء عليها أمرًا مرغوبًا فيه (الدولة اليهودية، ص16-17).
تحليل ونتائج
ظهرت “المسألة اليهودية” على أنها مشكلة في التطور الاقتصادي السياسي الأوروبي، وكان لها أن تُحلّ عبر علمنة الدولة وتخلّصها من سيطرة الدين، وردّه إلى النطاق الشخصي، ومن ثمّ تحقيق التحرر السياسي للدولة والمواطنين. لكن عوامل كثيرة كانت تعيق هذا المسار، منها التفاوت في التطور في أوروبا، وضغط المجازر المرتكَبة بحق اليهود في شرقها برعاية الحكم الاستبدادي هناك، وما نتج عنها من هجرات كبيرة لهم إلى غرب أوروبا هدّدت التقدم الصعب الحاصل بهذا الشأن وبتصاعد اللاسامية. ومنها تعارض وعي النخب الحاكمة العنصري مع هذه الضرورة، حيث كان كثير منها يجد صعوبة في تجاوز عنصريته تجاه اليهود، تحديدًا وهو يعمل على التوسع في القيام بوظيفتهم السابقة، وفي منافسة الماليين اليهود أو ربما الاستيلاء على ثرواتهم.
وفعلًا كانت المجازر والتهجير، وصولًا إلى جرائم النازية المهولة بحق اليهود، هي ما كسر شوكة الأغلبية اليهودية التي حاولت الاندماج بأممها، وأجبر قطاعًا كبيرًا منها على القبول بالصهيونية قليلة الشعبية في أوساطها لأنها الحل الوحيد المتاح بعد أن تقطّعت بهم السبل، وربما لأنها حالة كفر بأحلام التحرر السياسي، وإمكان المواطنة المتحرّرة من التمييز على أساس الدين تحت ضغط العنصرية، حيث حوّلت رغمًا عنها عن مسارها الذي كان بأغلبيته يمر عبر الحركة التحررية. وقد كان من الممكن لهجرة اليهود إلى فلسطين، وإلى عموم الشرق الأوسط، أن تكون عاملًا إيجابيًا لولا أنها أتت عبر الحركة الصهيونية الاستعمارية العنصرية، أي لو لم يكن من أجل بناء وطن ودولة يهوديين، وإنما بناء أوطان ودول لليهود كما لسكانها الأصليين تقوم على الأسس التي حلم بها أغلب هؤلاء اليهود في أوطانهم الأصلية من المواطنة الكاملة والديمقراطية والعدالة والمساواة.
وهكذا يتضح لنا أن القضية الفلسطينية ناتجة من استعمار حركة استعمارية كان مصدر قوتها العنصرية في أوروبا ضد اليهود، وشيوع الرغبة في رحيلهم، فطرحت إقامة قومية زائفة لهم يصفها “هرتزل” بصراحة استعمارية بالقول: إن هذه المحاولة لحل المشكلة اليهودية يمكن وصفها بكلمة واحدة “توليفة” (الدولة اليهودية، ص2). ونرى كيف وعدت هذه الحركة النخب الاستعمارية الأوروبية بالتهجير إلى أرض طالبت بإعطائها إياها، وقدّمت عروضًا مالية وعرضت القيام بوظيفة استراتيجية لخدمة الاستعمار الأوروبي إن حصل ذلك مثل ما تضمّن في قول هرتزل “إذا منحنا جلالة السلطان فلسطين سنأخذ على عاتقنا بالمقابل تنظيم مالية تركيا. ومن هناك سوف نشكّل جزءًا من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية. وعلينا -كدولة واقعية- أن نبقى على اتصال بكل أوروبا التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا.” (الدولة اليهودية، ص17). ولقد عكف “هرتزل” سنوات طويلة على تطبيق رغبته في “أن نمتلك الوطن اليهودي الجديد، مستخدمين كل ذريعة حديثة” (الدولة اليهودية، ص50)، وسجّل عروضه على خدمة الدول، ورشوتها، لتحقيق ذلك في مذكراته التي نشرت بعنوان “يوميات هرتزل” لتكون وثيقة لا تصدق لثقافة ومساومات استعمارية بتجاهل كامل لمعاناة الناس بل لوجود ومصير السكان الأصليين في فلسطين.
وأدّت الصهيونية بأفكارها التأسيسية الاستعمارية الاستيطانية، وإصرارها على “وطن قومي يهودي” برفض كامل لـ “وطن لليهود” يتيح أن يكون وطنًا لغيرهم أيضًا، وإصرارها على “دولة يهودية” بدلًا من “دولة لليهود” يمكنها أن تكون دولة لغيرهم أيضًا، إلى خلق مشكلة كبيرة بارتكابها لجريمة التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، ويمكن العودة إلى كتاب المؤرخ الإسرائيلي الجديد، آلان بابيه، “التطهير العرقي في فلسطين” للاطلاع على خطط وتنفيذ هذه الجريمة. وبرفضها للدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية التي طُرحت من قبل بعض المفكرين والتقدميين اليهود قبل إنشاء إسرائيل عام 1948، قد ورّطت المهاجرين اليهود في فلسطين وضحاياها الفلسطينيين بصراع مهلك ما زال العالم يشهد فصوله الدامية.
وإذ توضح لنا الوثائق هذه الحقائق، فإننا نجد أنفسنا نستعيد كل الآمال الكبيرة التي حرّكت التاريخ المعاصر، من إرادة المساواة والعدل والحرية، ومعنيين بإعادة طرح الحرية السياسية، والمواطنة المتساوية، لكل الناس، وفي كل مكان، على أنها حل للبشرية ومنها حل للقضية الفلسطينية. الأمر الذي يستوجب نقدًا شديدًا للصهيونية العنصرية، وللعنصرية المضادة التي نتجت منها، وبعثًا للروح في الحركات المطالبة بحل ديمقراطي قائم على هذه المبادئ. وهو ما يشكّل مصلحة لكل البشرية، كما كان الحل العنصري الاستعماري للمسألة اليهودية حلًا مناسبًا للاستعمار. فعلينا ألّا ننسى أن الصهيونية ما كانت لتنجح في توريط اليهود والفلسطينيين في هذا الاستنزاف الطويل لولا جرائم النازية المهولة بحق اليهود، والأطماع الإمبريالية لبريطانيا، وهو ما يحتاج إلى بحث آخر.
مراجع
- “المسألة اليهودية”، فيدور دوستويفسكي، مجلة الفكر
- “حول المسألة اليهودية”، كارل ماركس، كراسات ماركسية
- الدولة اليهودية، تيودور هرتزل، مكتبة الشروق الدولية
- يوميات تيودور هرتزل، مذكرات تيودور هرتزل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر
- اختراع الشعب اليهودي، شلومو ساند، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية
[1]– يمكن العودة على سبيل المثال إلى مقابلة المؤرخ مع مريهان خوري على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=1puTNzUipHI
[2]– اختراع الشعب اليهودي، شلومو ساند، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية. الأهلية للنشر والتوزيع، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الفلسطينية، 2011.
[3]– المرجع السابق.