وماذا عن المساواة في الرغبة الجنسية؟

قد يبدو الحديث في قضية المساواة أمرًا قديمًا ومفروغًا منه حيث تعود جذوره إلى الموجة النسوية الأولى التي ركزت على الحصول على المساواة القانونية، ثم جاءت الموجة النسوية الثانية بعدها واهتمت بدورها بالمساواة الاجتماعية. ولعل السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه هنا ليس حول المساواة في حدّ ذاتها بل حول معيارية المساواة، أي “ما المعايير المُتّبعة لتحقيق المساواة؟”، وقبل الخوض في محاولة الإجابة على هذا السؤال، ينبغي التمييز بين المساواة في الفضاء العام والمساواة في الفضاء الخاص. ففي حين نسعى جاهدين لتحقيق المساواة الكاملة وغير المشروطة بين أفراد المجتمع في الفضاء العام، نقف حائرين في الفضاء الخاص ونطرح السؤال، هل يمكننا تحقيق المساواة في فضاءاتنا الخاصة؟ في فضاءاتنا الحميمية؟ في مشاعرنا ورغباتنا الجنسية؟

اعتادت معظم الحركات النسوية مواجهة الذكورية السائدة باتخاذ الذكر معيارًا لما تريد تحقيقه. فبسبب الاضطهاد الممنهج الواقع على جسد المرأة وسجن المرأة داخل مفهوم الجسد والشكل عبر التاريخ، وقعت المرأة في ثورتها على الذكورية مرارًا في مطبات ذكورية وجوهرية عدّة. انشغلت الحركات والنظريات النسوية في إعادة تعريف الجسد من جديد وتحريره وتنقيته من الصفات والسمات القمعية الذكورية التي ًالحِقت به. ومن خلال ذلك، أعادت النسوية إلى المرأة جنسانيتها، وسلطت الضوء على متعها ورغباتها الجنسية الخاصة بها. لكن تبدو صورة الجسد هذه غير كاملة وتخفي حقيقة مهمة جدًا وهي أن هناك اختلافًا ما في الرغبة الجنسية بين الجنسين، ما يُسمّى باللغة الإنكليزية Sexual desire discrepancy (SDD). وبدلًا من تسليط الضوء على هذا الاختلاف ومحاولة استيعابه بوصفه اختلافًا جسديًا ليس إلا، وبدلًا من أن تتمسك النسويات بهذا الاختلاف بوصفه سمة جسدية خاصة بهنّ ليس عليهنّ تبريرها أو تغييرها أو مجاراة الذكر فيها، همّشت النسوية الجوهرية هذا الاختلاف خوفًا من توظيف هذا الاختلاف لقمع الجسد من جديد. لكن النتيجة كانت كارثية وقد قُمع الجسد من جديد بطرائق أخرى من خلال القراءة الطبية الذكورية لرغبة المرأة الجنسية واعتماد النسوية الجوهرية على القراءة هذه. فقد راح الطب يسمّي هذا الاختلاف انخفاضًا في الرغبة الجنسية لدى المرأة ويبحث عن حلول لهذه “المشكلة الصحية”. وعليه، أخضعت المرأة رغبتها الجنسية لمعيار الرجل، فأصبحت تقيس رغبتها برغبته، وحين شعرت بعدم قدرتها على مجاراته في رغبته التي يُزعَم بأنها أكثر كثافة من رغبتها، تحولت المرأة إلى الحلول الأكثر بشاعة والأكثر تهديدًا لصحتها النفسية والجسدية. يُروَّج اليوم للفياغرا النسائية، علاجات التِستوستيرون، العمليات التجميلية للأعضاء التناسلية، إضافة إلى عقاقير متنوعة وبعض أنواع وسائل منع الحمل الجراحية وغير الجراحية الخطرة. وذلك بمعزل عن آلام الجماع أو الشعور بالعار والخوف والنقص والمضاعفات النفسية الأخرى التي تعيشها النساء في بلداننا بصورة خاصة. أجمعت الأبحاث الطبية والعلمية على أن هناك اختلافًا ما، لكنها لم تتمكن من تحديد ماهية هذا الاختلاف تمامًا أو تحديد أسبابه. ومن خلال النظر في ما أجمعت عليه الأبحاث، نجد أنه ليس هناك أي دليل على وجود “مشكلة” لدى المرأة. وعليه، ربما تكمن المشكلة في مكان آخر تمامًا لا علاقة له بالرغبة الجنسية أو بما يُسمى بـ “الطبيعة البيولوجية” إطلاقًا. وكي نتجنب إصدار أحكام قيمية ثنائية، فإن هذا الاختلاف في النهاية من الطرفين أو بينهما، وليس اختلافًا من طرف المرأة فحسب، وبالتالي يجب أن تكون الحلول النفسية أو الطبية أو الفيزيولوجية شاملة للطرفين معًا، وذلك في حال كان هناك حل ما لهذا الاختلاف، فليس ضروريًا أن يكون هناك حل أو أن يكون هناك مساواة، فثمة اختلافات يجب أن نفهمها ونحترمها ونتعايش معها ببساطة.

وللعودة إلى سؤال المقال الأساسي، بعد أن مررنا سريعًا على الجانب الشكلي والعلمي منه، لا بدّ من التطرق إلى التحليل النفسي الذي ساهم مساهمة عظمى في تحرير المرأة من القمع الممارس على جسدها على الرغم من اتهامه بمعاداة المرأة والتمركز حول القضيب. يقول فرويد، “يجب أن ننظر في احتمال وجود شيء ما في طبيعة الدافع الجنسي نفسه يقاوم الوصول إلى الرضا الكامل”. ثم جاء جاك لاكان من بعده ليقول بصورة صادمة، “لا توجد علاقة جنسية”. وقد أساء الآخرون فهم هذا التصريح الغريب واعتقدوا أن لاكان ينفي بذلك وجود العملية الجنسية. لكن غرض لاكان الحقيقي من هذا التصريح ليس نفي فعل الجنس، بل نفي وجود “علاقة” جنسية متناغمة ومُرضية تمامًا بين الطرفين. وقد شرحت الفيلسوفة السلوفينية ألِنكا زوبانشيش قول لاكان هذا من خلال إشارتها إلى “لامنطقية” معينة كامنة في العلاقات الجنسية ووجود تباين أو فجوة بنيوية متأصلة وملازمة تفصل بين الجنسين. إذًا، ما يحاول التحليل النفسي قوله في هذا الشأن هو أن الاختلاف لا يكمن في الرغبة الجنسية للمرأة أو الرغبة الجنسية للرجل، أكانت رغبتهما كثيفة أم شحيحة، بل يكمن في الدافع الجنسي نفسه الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقافة بمفهومها العام والذي أصبح اليوم يشمل الطبيعة أيضًا.

تسعى النظريات النسوية الجوهرية والطب و”علم” النفس ذو النزعة التفاؤلية الاختزالية اليوم إلى حلّ هذا الاختلاف وتحقيق المساواة الشكلية بين الجنسين من خلال استفزاز رغبات المرأة الجنسية واللجوء إلى الأساليب الطبية والعقاقير والعمليات التي تجعل المرأة تبدو مضاهية للذكر من الناحية الجنسية. لكن الحلّ لا يكمن في تعديل المرأة جنسيًا بما لا يتفق مع ما ينطقه جسدها من رغبات واضحة ومباشرة، لأن المشكلة ستبقى قائمة حتى بعد إجراء هذه التعديلات المجحفة، بل يكمن الحل من جهة أولى في التصدي للسرديات الكبرى المتعلقة بالجنس التي تتهم المرأة بالنقص والضعف الجنسي ومحاولة بناء سرديات جنسية بديلة قريبة من الواقع، ومن جهة أخرى في إشراك الرجل في تحمل مسؤولية هذا الاختلاف.

مهندسة وكاتبة ومترجمة. ماجستير في الفلسفة. حائزة على المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة لعام 2016 التي ينظمها المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط في برشلونة، إسبانيا. لها عدة ترجمات منشورة منها: مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية لجوديث بتلر، سُبُل النّعيم: الميثولوجيا والتحوّل الشخصي لجوزيف كامبل، الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع لجوديث بتلر؛ وعدة أبحاث منشورة منها: الترجمة تفكيكيًا: الخطاب النسوي نموذجًا، جوديث بتلر: أدائيات الذات.

مشاركة: