يبقى الكابوس الذي راود شمس في الصفحات الأولى من الرواية مجرّد استباق لا تَحقق له، إلى أن تبدأ الشخوص الجديدة بالولوج إلى مسرح الأحداث لتحكي تباعا حكايات النجاة من الموت غرقا في رحلة وصولها إلى ألمانيا.
رواية “شمس أطلّت على ديارنا الغريبة” للكاتبة والصحفية السورية يارا وهبي صدرت حديثًا عن مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة
“أجساد لغرقى يطفون على سطح البحر، عيونهم مغلقة، أجفانهم أذابها الملح، أفواههم مفتوحة على أقصاها، وصدى صراخهم يطاردها كالشبح، أنقذونا أنقذونا أنقذونا”.
كلمات تسرد من خلالها شمس تفاصيل كابوس راودها وهي في سريرها في المدينة الألمانية الجديدة و”المجهولة” زالفلد، قبل أن تخرج وزوجها الألماني “العزيز” لاستقبال حافلة اللاجئين السوريين الواصلين حديثا إلى ألمانيا. لتضع تلك البداية لرواية “وشمس أطلّت على ديارنا الغريبة” القارئ أمام مشهد من مشاهد مأساة السوريين الذي قطعوا البر والبحر بحثا عن ملجأ آمن يصون حرياتهم وكرامتهم الإنسانية.
وتمتد رواية “وشمس أطلّت على ديارنا الغريبة” للكاتبة والصحفية السورية يارا وهبي والصادرة حديثا عن مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر إلى 360 صفحة من القطع المتوسط، تسلّط من خلالها الكاتبة الضوء على قضايا السوريين الناجين من “رحلة الموت” عبر البحر إلى دول اللجوء الأوروبية، لتكاشف عبر 3 فصول وعشرات الشخصيات التعقيدات التي تنطوي عليها مسائل كاللجوء والاندماج والتلاقح الثقافي بلغة بيضاء سلسة تتوخى مختلف مستويات القراءة.
الاندماج والثورة
منذ البداية يعقد الراوي اتفاقا ضمنيا مع القارئ بأن هذه الرواية ستكون عبارة عن مجموعة من قصص أبطالها سوريون وصلوا إلى ألمانيا حديثا، ويتوطَّد ذلك الاتفاق عندما تحصل شمس (شخصية الرواية المحورية) على عمل في مركز للاندماج لتعليم اللغة الألمانية للاجئين لتكون بذلك على صلة وثيقة بالقادمين الجدد من السوريين.
وقبل أن تحصل على ذلك العمل تلتقي شمس بأبي جابر وهو لاجئ سوري قدم إلى ألمانيا من تركيا على أمل أن يلمّ شمل زوجته وأطفاله في أقرب فرصة، وتجمعهما على طاولة واحدة في أحد المخيمات رائحة القهوة السورية التي جاء بها أبو جابر من رجل سوري في تركيا.
أبو جابر رجل بسيط وأمّي، ولكنه عاطفي للغاية وقادر على إيجاد المعنى حتى في أبسط الأشياء، وهو ما جعل توماس الألماني المسلم الذي درس الشريعة في ألمانيا يتقرّب منه، وتنشأ بينهما علاقة صداقة، ومن خلال هذه العلاقة تتجلى لنا مخاوف أبي جابر من الحياة الجديدة في ألمانيا وشعوره الدائم بالخسارة والمهانة مما عايشه في سوريا؛ “رجل سوري تظاهر ليسقط النظام فأصبح لاجئا وشحاذا”، كما يقول أبو جابر واصفا مسيرته من التظاهر إلى اللجوء.
ولأنه ابن محافظة اللاذقية السورية الساحلية وصياد قبل كل شيء، لم يقتنع أبو جابر بأنه لا يمكن اصطياد سمكة من نهر الراين الخال من الأسماك، فمضى أياما يحاول اصطياد سمكة حتى نال ما أراد آخر المطاف فكانت “ثورة”.
وثورة هو الاسم الذي أطلقه على تلك السمكة الذهبية التي اصطادها من الراين وأسرع ليضعها في حوض وسط غرفة معيشته، ومع الوقت أصبحت ثورة صديقته التي يسرّ لها بكل ما لا يمكن البوح به للآخرين.
تعبر قصة أبي جابر عن خليط المشاعر المتضاربة التي يشعر بها الناجون من حرب مأساوية كالتي شهدتها سوريا؛ حيث الحزن والقهر والشعور الدائم بالهوان والغربة إلى جانب الشعور بالأمان والاستقرار، مشاعر تتحوّل معها الإنجازات البسيطة (صيد سمكة) إلى ثورة وانتصار عظيم، والمثبطات العارضة إلى مشكلة كبرى قد تدفع اللاجئ للتفكير جديا بالرحيل.
مشاعر وتجارب أرادت وهبي أن تبين أنه لا يمكن اختزالها بالمفهوم الضيق للاندماج الذي يرى البعض بأنه يتم حين “يتعلم اللاجئ لغة البلد المضيف ويحصل على عمل فيها”، ولكن يجب أن ننظر إليه من زاوية اختلافه باختلاف الأشخاص ومستوى وعيهم وهدفهم من اللجوء وغيرها من العوامل.
وعن ذلك تقول وهبي للجزيرة نت “حاولت أن أكتب ما يدفع القارئ للتفكير بالاندماج دون أن ألقنه، لأني نفسي لا أجد تعريفا واضحا وشاملا وكاملا لهذا المصطلح، لذا فأنا لم أفعل أكثر من أني رويت الحكايات وتركت للقارئ كتابة التعاريف”.
وجدان مشترك
وبالعودة لأبي جابر الذي ينتظر بفارغ الصبر وصول زوجته وبناته من تركيا بعد أن نجح في لمّ شملهم، نجده يواجه مشكلة من نوع آخر، فكيف يمكنه أن يصل من زالفلد إلى برلين حيث العائلة الوافدة من دون أن يضلّ الطريق؟
سؤال كان لتوماس (صديق أبو جابر الألماني) أن يتجاهل صداه لولا تذكر معنى أن يكون المرء خائفا من المجهول؛ فاستعاد ذاكرة الحرب العالمية الثانية والخوف الذي كان ينتابه من جيش وشرطة ألمانيا الشرقية والحزن الذي كان يعتريه لوجود جدار عال يفصل بين الشعب الواحد، كما تذكر الحقد على الدكتاتورية والاستبداد التي كانت سببا في كل ذلك.
في تلك اللحظات وبينما يلوّح أبو جابر بيديه لتوماس من نافذة القطار مودعا إياه، هرع توماس بسرعة البرق، ركب القطار، واتجه إلى أبي جابر وحمله على كتفه وسط ذهول الناس، ثم ضحك وقال له “لا تخف، سأوصلك إلى برلين”.
بهذه الطريقة عالج كل من أبي جابر وتوماس خوفهم من النظم الاستبدادية وحقدهم عليها، وجزعهم من تقسيم الشعب الواحد إلى شعوب، وبهذه الطريقة أدرك توماس الألماني عمق التقاطعات بين تجربة شعبه وتجربة الشعب السوري؛ الحرب، التقسيم، الموت، التهجير.
وليست هذه المقاربة بين المأساتين السورية والألمانية سوى واحدة من كثير المقاربات التي ساقتها رواية “شمس أطلّت من ديارنا الغريبة” على ألسنة شخوصها لتدلّل على عمق الارتباط الوجداني بين الشعوب التي خبرت الحروب ومآسيها.
وعن الغرض من هذه المقاربات تقول وهبي للجزيرة نت “الغرض هو التركيز أولا وأخيرا على التجربة الإنسانية، فألوان البشر وأصولهم ودياناتهم تختلف إنما تجاربهم وفي محطات كثيرة تتشابه إلى حد الدهشة، إلى حد الضحك والبكاء أيضا، لقد سمعت كثيرا خلال تجربتي في ألمانيا جمل من قبيل (هم مثلنا)، سمعتها من كلا الطرفين السوري والألماني”.
وتضيف “كم تبدو هذه الجملة بديهية، ولكنها في كل مرة تقال تبدو كأنها استنتاج حديث، لذا فنحن بحاجة إلى آلاف الروايات بجميع اللغات التي تعيد حكاية آدم وحواء، والتي تفضي للقول هم مثلنا ونحن مثلهم”.
البحر والطفولة
يبقى الكابوس الذي راود شمس في الصفحات الأولى من الرواية مجرّد استباق لا تَحقق له، إلى أن تبدأ الشخوص الجديدة بالولوج إلى مسرح الأحداث لتحكي تباعا حكايات النجاة من الموت غرقا في رحلة وصولها إلى ألمانيا.
ومع قراءتنا لتلك الحكايات يبدأ البحر بالتحوّل من ذلك الشيء الجميل الذي يتغنى به الشعراء ويتفنن في تكوينه الرسامون إلى شيء آخر مرعب وسميك وحالك السواد؛ “ما من سوري ركب القارب باتجاه ألمانيا إلا أصابه الندم على ما فعل، ندم لا يشبه الندم على خطأ عادي يمكن نسيانه أو التكفير عنه، إنه يشبه من أمسك بعنق أحدهم وأزهق روحه، وفي اللحظات الأخيرة ندم، وحاول التقاط لروح الصاعدة إلى الجسد فعجز، إنه ندم قاتل”، كما تقول شخصية مروان.
وليس البحر وحده من يتحوّل من رمز للحسن والعطاء إلى آخر للرعب والألم في روايتنا، ولكن الطفولة أيضا حين يكون على الأطفال أن يتولّوا مسؤوليات لا قابل لهم بها، تتحول براءة طفولتهم إلى هموم تجعل من حياتهم جحيما مستمرا.
وهو ما تجسّده شخصيتا رامي -الطفل ذو العشرة أعوام- وشقيقته الصغيرة اللذين وصلا إلى ألمانيا وحدهما مجتازين كل الأخطار على الطريق، فـ”في العراء وهم يفترشون الأرض الباردة بكت، عندما قطعوا الغابات وحلّ الألم في قدميها بكت، ومن الجوع بكت، ومن شوقها إلى أمها بكت. حماها أخوها من الأشخاص السيئين طوال الطريق، خبّأها بين عظامه فبكت، قدم لها معطفه السميك لتدفأ، ثم واجه البرد بجلده فقسى جلده كثيرا”. مقطع نصّي تختزل فيه الراوية تراجيديا الطفولة السورية على طرقات التهريب.
ولم يكن مصير رامي أقل خشونة من الطريق الذي قطعه، فبعد أن استقر وشقيقته في غرفة صغير في زالفلد ظلّت تطارده أشباح لم يعرف أحد ماهيتها، تهمس له بأن يتبعها وإلا عاقبته، إلى أن وجدوه ذات صباح منتحرا بحبل في غرفته.
وعن ذلك المصير الذي واجه رامي تحكي يارا وهبي للجزيرة نت “الانتحار هو نهاية مأساة، مأساة رامي النفسية، فالبحر لم يبتلع رامي وقذائف الحرب لم تطله، لكن ما جمعه من تجربة خاصة خلال فراره مع أخته الصغيرة أزهق روحه. فربما لا تقتلك الحرب برصاصة، ولكنها قد تقتلك بهلوسة، بحنين، بألم يمتد ليمسك بعنقك”.
وتتابع يارا “أردت بقصة رامي التركيز أيضا على قضية الأطفال الذين أتوا من دون أهلهم إلى ألمانيا لأن هذه القضية آلمتني كثيرا”.
دمشق قلب العالم
تستأثر قصة شمس بحصة الأسد من السرد في روايتنا، فهي الشخصية المحورية وزوجة “العزيز” الرجل الألماني الذي تبيّن لاحقا أنه الراوي الذي قصّ علينا حكايات السوريين على طول العمل.
ولدت شمس لأب معارض وأم عاشقة لزوجها، وعندما اعتقل الأب على أيدي رجال الأمن قررت الأم الانتحار، فعاشت شمس إلى جوار جدتها الأرمنية في دار عربي في دمشق، وفي ذلك الدار ظلت الجدة تتلو على مسامع شمس “سوريا قلب العالم وقلب سوريا دمشق” حتى جعلت لدمشق في قلب الفتاة ركنا عصيا على الإشغال.
ومع اندلاع الثورة السورية خرجت شمس إلى جوار أصدقائها لساحات التظاهر مطالبة بإسقاط النظام، ومع تكرار المظاهرات أصبحت شمس مطلوبة للأمن، هو ما دفع “العزيز” للمجيء إلى دمشق وعقد قرانه عليها في ليلة وضحاها والعودة معها إلى زالفلد في ألمانيا.
ظلت شمس متعلقة بدمشق حتى بعد أن أنجبت من “العزيز” ابنة، وبقيت تشعر بنفسها كغريبة عن ألمانيا “إذا رميت بهويتي السورية واستبدلتها بالألمانية، ليست هويتي الورقية بل النفسية واللغوية والحضارية، وتصنعت هوية جنسية ليست لي، وتباهيت أنني أشبهك، فماذا سيبقى مني؟ وبماذا سأخبر ابنتي؟ أنا السوري الذي مزقت الحرب أرضه، أنا السوري الذي ابتلع البحر ابنه، أنا السوري الذي بجانب منزلي مسجد وكنيسة، وأنا السوري الذي جدتي أرمنية وجدي مسلم وأبي معتقل مات بتهمة معارض، أنا السوري بكل ما فيّ فلن أخجل”.
بهذه الكلمات وصلت شمس في نهاية العمل إلى قناعة راسخة بأنها سورية وبأن هجرتها لا يمكن أن تؤثر على هويتها وذاكرتها وحنينها إلى عشقها الأزلي؛ دمشق.
المصدر: الجزيرة نت، 10 آذار/ مارس 2022