المفهومات والمصطلحات؛ أساسات الثقافة والسياسة

تمهيد

على الرغم من أنَّ موضوع المفهومات والمصطلحات إشكالي ومعقَّد جدًا، لكن يمكن القول، مع بعض التبسيط، إنَّ المفهوم يتكون عادة من كلمة (أو عدة كلمات)، لكنه أوسع منها ويتجاوزها، فهو عملية عقلية وليس مجرد لفظة، ويحتوي ضمنًا على عدة خصائص؛ التجريد: فهو يشير إلى ما هو مجرد عادة، والكليَّة: لأنَّه يدلُّ على ما هو كلِّي وعام وشامل، والإشكالية: لأنَّه من طبيعة إشكالية تطرح أسئلة محرِّضة على البحث والتفكير، وهناك اختلاف في الإجابات عنها، ما يجعله لفظًا ملتبسًا بالضرورة. عرَّفه جيل دولوز بأنَّه “حصيلة إبداع انطلاقًا من سؤال إشكالي”. والمصطلح أيضًا كلمة (أو عدة كلمات) تعارف الناس على الإشارة بها إلى شيء ما أو ربطها به، لكنَّه ليس مجرَّدًا ولا عامًا ولا إشكاليًا عادة.

المفهومات غير متفق عمومًا على معانيها؛ فالحرية والجمال والعقلانية والواقع والإدراك والفردية والديمقراطية والعلمانية هي مفهومات مختلفٌ على مضامينها ودلالاتها، ويتأثر فهمها بحسب وجهات نظرنا السياسية والأيديولوجية، إضافة إلى مصالحنا الذاتية أو العامة. ومن هذا المنطلق، فإنَّ المصطلح يقوم على الاتفاق، أكان اتفاقًا صريحًا أو ضمنيًّا، لحظيًا أو تاريخيًّا، محليًا أو عالميًا، ومن دون هذا الاتفاق نكون أمامَ مفهومٍ يمكن فهمه بصور وأشكال شتى.

1- أهمية المفهومات في صناعة الوعي وبناء الخطاب والممارسة

المفهومات هي ركائز الفلسفة وأساساتها، وقد عرَّف كانط الفلسفة بوصفها تفكيرًا في المفهومات، وعملًا في صناعة المفهومات والاشتغال عليها، بإبداع مفهومات جديدة أو الاشتغال على مفهومات سابقة. وهذه المفهومات تُختبر في مجالاتٍ مختلفة مثل العلم والسياسة والدين والفن، وغيرها.

للمفهومات أهمية كبيرة في حقول المعرفة كافة، وفي جميع أشكال النشاط الإنساني. وتظهر أهميتها في السياسة على مستوى صناعة الخطاب السياسي والرؤية السياسية وصناعة الوعي العام، وعلى مستوى الأداء والممارسة السياسيين. إنّ إدراك المفهومات بوصفها أدوات المعرفة مسألة مركزية في الفكر والسياسة، لأنَّ وضوحها –بحسب عبد الله العروي– يخلّص الباحث من التساؤلات الزائفة الكثيرة على أقل تقدير، لكنني أعتقد أنَّه يساعد في ضبط الخطاب السياسي وعقلنة الممارسة السياسية أيضًا؛ فمفهوم “الشعب” مثلًا هو مفهوم سياسي لا يُختزل بوجود مجموعة من البشر في مكان وزمان معينين، وينبغي لنا عدم التعامل معه بوصفه معطىً ناجزًا يمكن إطلاقه على أي مجموعة سكانية، لأنَّه يرتبط بوجود الدولة السياسية الحديثة من جهة، وتحقيق سمة الاندماج الوطني من جهة ثانية. هذا الفهم يعفينا من إنتاج خطاب سياسي مشوش متخم بالتناقضات والتجاوزات على شاكلة الاعتقاد بأن “الشعب” هو اجتماع مجموعة من الطوائف والإثنيات بصورة متعايشة، ويعفينا من إضاعة الوقت في ممارسات سياسية مبنية على اعتقادات خاطئة.

ولذلك، يصبح من الضروري، في العمل السياسي مثلًا، تحويل المفهومات الإشكالية، مثل الوطنية والقومية والأمة والديمقراطية والشعب والمجتمع المدني وغيرها، إلى مصطلحاتٍ متفق عليها على مستوى النخب الثقافية السياسية على أقل تقدير، في زمان وبيئة سياسية معينين، ليصبح العمل السياسي ذا معنى ومضمون، ولفتح إمكان بناء حقل سياسي وطني له مفهوماته ولغته وقواعده وضوابطه الخاصة.

2- المفهومات نتاج الفكر الإنساني

إن الإيمان بوحدة الفكر الإنساني شرط رئيس من أجل مقاربة عقلانية لقضايا الثقافة ومسائل الواقع في حيزاته كافة، زمانيًا ومكانيًا؛ فالثقافات المتنوعة قد اعتمد بعضها على بعض، وتفاعلت عبر التاريخ، وجُماعها يشكل وحدة الفكر الإنساني، لأن الفلسفة والعلم من طبيعة كونية. فكل مفهوم يولد يصبح جزءًا من الفكر الإنساني بالضرورة، بصرف النظر عن مُنتِجه ومكان ولادته وتاريخها، ما يعني ضرورة التخلص من عقدة الخصوصية والانغلاق على الذات ورفض الاستفادة من الإنتاج الفكري الإنساني بكليته. لا يوجد مفهوم خاص بالغرب وحده، ولا وجود لمفهوم خاص بالشرق وحده، فجميع المفهومات إنسانية الطابع وملك البشرية كلها، ومن حق البشر جميعًا، وواجبهم أيضًا، إعادة اكتشافها في بيئاتهم المحلية والخاصة.

3- المفهومات كائنات حيّة

المفهوم كائن حي، ينمو ويتطور، وقد يندثر ويموت، وليس هناك مفهوم يبقى على حاله. وفي سياق النمو تتبدل ملامحه الأولى، تزول عنه سمات وتُضاف إليه سمات وخصائص جديدة، يتأثر بالبيئة السياسية والثقافية ويؤثر فيها، وربما يصل إلى مرحلة تصبح فيها دلالاته ومعانيه مغايرة لتلك التي كانت في وقت ولادته ونشأته. إذا أخذنا مفهوم “الدولة” مثلًا، سنجد أن دلالاته الحديثة مختلفة عن دلالاته في الماضي قبل معاهدة ويستفاليا 1648. فعندما نستخدم تعبير “دولة الأمويين” أو “الدولة العباسية” مثلًا، ينبغي لنا الانتباه إلى ضرورة عدم إسباغ سمات المفهوم ودلائله الحديثة على هذه الكيانات السياسية.

4- معاني المفهومات ومضامينها ودلالاتها

يحدث كثيرًا في سياق الحياة السياسية مثلًا أن تتفق جماعة سياسية مع جماعة أخرى على عدد من الأهداف أو على برنامج عمل تحالفي، فتصدر الجماعتان بيانًا سياسيًا مشتركًا يعبِّر عن هذا الاتفاق. لكن، بعد مدة، تقصر أو تطول، تختلف الجماعتان، وربما يكون سبب اختلافهما هو أنَّ اتفاقهما بُني على كلمات وتعابير تفهمها كل جماعة بطريقة مغايرة لفهم الأخرى. يحدث أيضًا أن يختلف فلان وفلان في أثناء حوار ما، وبعد نقاش طويل يظهر أنهما متفقان (هذا إن استمرا في النقاش ولم يتخاصما ويتعاديا كما هو سائد). مثل هذه الأمثلة تتكرر كثيرًا في سياق الحياة الثقافية السياسية، والحياة عمومًا. فالاتفاق على معاني ومضامين المفهومات المستخدمة عنصر رئيس، وشرط لازم لأي اتفاق حقيقي أو حوار ناجح، لكنه ليس كافيًا بالطبع.

5- صناعة المفهومات

يظن بعضنا أنه ابتكر شيئًا جديدًا إن غيَّر الاسم المتداول والمألوف لشيء أو مفهوم ما. هذا يحصل كثيرًا على مستوى الفكر والسياسة، حتى ليظنَّ الفاعل، أو مريدوه، أنَّه فريد زمانه. صحيح أن المفهومات الفكرية والسياسية هي كلمات في النهاية، لكنها لا تُستنفد في حدود الكلمات الدالة عليها. صناعة الكلمات شيء وصناعة المفهومات شيء آخر؛ المفهوم أعقد من الكلمة الدالة عليه وأوسع منها كثيرًا، فمفهومات مثل الديمقراطية والعلمانية والدولة والأمة والشعب والعقلانية والحداثة والسياسة وغيرها لا تُستنفد في الكلمات بذاتها، إنها سيرورة وتاريخ ورؤى وممارسة، وما الكلمات المعبرة عنها سوى شكل لغوي تكثيفي واختزالي نجده في جميع اللغات. هذا يعني أنَّ صناعة المفهوم في الفكر والسياسة عملية معقدة بينما صناعة الكلمات أسهل كثيرًا ويستطيع أن ينجزها كثيرون.

6- تقديس المفهومات وتدنيسها

وهذه من المشكلات الأساسية في ساحة الفكر والسياسة؛ إذ يذهب بعضنا إلى تقديس مفهومات معينة وعبادتها، فيما يذهب بعضنا الآخر إلى تدنيسها إلى درجة عدِّها مصدرًا للخراب والرذيلة. ينظر كثيرون مثلًا إلى مفهوم “العلمانية” بوصفه مفهومًا غربيًا شريرًا غايته تدمير مجتمعاتنا، فيما ينظر آخرون إليه بوصفه مفهومًا مقدسًا وحلقة مركزية لتقدّم المنطقة، لنكون في الحصيلة أمام حالة استقطابية معيقة حول الكلمات يغيب فيها أي حوار عميق وجدي يتناول مضامينه ودلالاته في لحظة ما أو بيئة معينة، وإمكان إعادة استكشاف المفهوم وبنائه في ضوء الواقع والحاجة والهدف.

تعامل كثيرون مثلًا مع مفهوم “الثورة” بوصفه مفهومًا مقدسًا يحمل الخير كله، في مقابل رجمهم لمفهومات أخرى مثل “الإصلاح” كونه يشير إلى ما هو أقل من “الثورة”، في حين إنَّ المهم هو الاهتمام بمضامين هذه المفهومات ودلالاتها ومعانيها، فقد يكون “الإصلاح” في لحظة ما أو بيئة سياسية اجتماعية معينة أهم من “الثورة”، وأكثر إنتاجًا وفاعلية وأمانًا. يخاف بعضهم مثلًا استخدام مفهوم “التصنيع” عندما يُستخدم للإشارة إلى صناعة وعي البشر والتأثير في رؤاهم؛ ربما لاعتبارات دينية ترفض ضمنيًا أن يكون الإنسان في موقع الصانع أو الخالق، أو لاعتبارات أيديولوجية يسارية تقليدية تتحسَّس من الكلمات التي تأتي في سياق السِّلع والتسليع، أو لاعتبارات أخرى تتعلق بالنفور من كلِّ ما يشير إلى الابتكار والخلق المرتبطين بالفرد والفردانية.

إن الرؤى التي تتعامل مع المفهومات على أنها تنتمي إلى ساحة الملائكة أو ساحة الشياطين هي رؤى لا عقلانية، ولا تصل بنا إلى نتائج مقاربة لحاجاتنا الواقعية ومتوافقة مع أهدافنا، فضلًا عن أنَّ تقديس المفهومات يمنع عمليًا نقدها، وشيطنتها تمنع الاستفادة منها.

7- ترابط المفهومات واختلاطها

هناك مفهومات في الحقل السياسي يعتمد فهمها على إدراك الترابط في ما بينها، فلا يمكن فهم أحدها بمعزل عن فهم البقية، مثل المفهومات الآتية: الدولة، المجتمع المدني، الشعب، القومية، الأمة… إلخ، وهناك مفهومات لا بدَّ من إدراك التمايزات بينها بدقة، إضافة إلى إدراك ترابطها وتشابكها، مثل: النظام السياسي، السلطة، الحكومة… إلخ، وهي المفهومات التي يجري الخلط بينها أو يُنظر إليها بوصفها شيئًا واحدًا. استنادًا إلى طبيعة فهمنا لهذه المفهومات ستختلف رؤانا السياسية وأداؤنا السياسي بصورة أكيدة.

فمفهوم “النظام السوري” مثلًا لا يُختزل في أفراد أو في جهة سياسية ما، فإلى جانب مرتكزاته السياسية والأمنية والاقتصادية الداخلية هناك أيضًا ارتباطاته وتشابكاته وتجلياته الإقليمية والدولية، ومن ثمَّ فإن إسقاطه مثلًا يتطلب التفكير في هذه المستويات كلها، وبحسب هذا الفهم ستختلف الممارسة السياسية للقوى الطامحة إلى إسقاطه من حيث الخطاب والأدوات والآليات.

8- قتل المفهومات بإعلاء صفاتها

الصفة لا تستنفد الموصوف، وهي إحدى أشكال تجلِّيه. فمن نصفه بـ “الثورية” قد يكون حاملًا لصفات أخرى أيضًا، كأن يكون “قاتلًا” في الوقت نفسه، والتاريخ يعطينا أمثلة عديدة عن “ثوريين” ارتكبوا الجرائم ووصلوا إلى المقصلة أو المحاكم. يحدث أيضًا أن ننسى المفهوم الأساس عبر تقديس صفاته والتركيز عليها، وربما تتحول هذه الصفات إلى أدوات لقتل المفهوم ذاته بدلًا من الاستزادة في فهمه. وربما، في سياق التشديد على الصفة وعبادتنا على حساب عدم فهم الموصوف ذاته، وهو الأصل، تصبح الصفات بلا معنى. نقول مثلًا “دولة إسلامية” و”دولة علمانية” و”دولة ثورية” و”دولة اشتراكية” و”دولة عربية”… إلخ، فنتجادل ونختلف ونتعسكر ويقتل بعضنا بعضًا استنادًا إلى الصفات، وننسى التفكير أولًا في الأصل، أي “الدولة”، ومن ثمَّ التفكير في الصفات التي تتوافق مع ماهيته. فمهوم “الدولة” لا يتوافق إلَّا مع الصفة العمومية، أي الصفة الوطنية، لأنها من جنسه، وكل صفة غيرها تحوِّلها إلى شيء آخر ليس هو الدولة. أما صفة العلمانية التي تُلحق بالدولة فهي صفة نافلة لأن العلمانية من طبيعة الدولة، فالدولة التي لا تكون محايدة تجاه الأديان والأيديولوجيات والأعراق، ولا تعترف بالمساواة بين مواطنيها/مواطناتها، ليست دولة. قد تتحول الصفات إلى أدوات لقتل الموصوف أيضًا؛ فمصطلحات ومفهومات على شاكلة: “الطب الثوري” و”مركز بحوث ثوري” و”إعلام ثوري” “ونادٍ رياضي ثوري” و”بقالية ثورية” و”دولة ثورية”، كفيلة بقتل الطب والبحث العلمي والإعلام والرياضة والبقالة والدولة.

9- صناعة المفهومات المضلِّلة

تساهم المفهومات في صناعة وعي النخب والرأي العام. وقد تُصنع، في سياق الحياة العامة والسياسية، مفهومات معينة، جهلًا أو قصدًا، تؤدي إلى تضليل البشر والتأثير بصورة سلبية في وعيهم ومواقفهم واتجاهاتهم وممارساتهم.

في الحالة السورية مثلًا، هناك مفهومات -في اعتقادي- يجب طيّها أو حذفها من خطابنا أو وضع بعضها بين قوسين على أقل تقدير عند الاضطرار إلى الحديث عنها؛ لأنها أضرّت، وما تزال، بوعينا وتفكيرنا وأدائنا من جهة، ولأنها تمنع، بطريقة أو أخرى، بناء خطاب وطني ديمقراطي يصلح لأن يكون مرجعية لأداء سياسي وطني وديمقراطي عام من جهة أخرى. من بين هذه المفهومات أو المصطلحات أذكر:

المعارضة السورية (مصطلح لا يحدِّد شيئًا اليوم)، الشرعية الثورية (جميع الشرعيات التي تلفَّحت بالثورة عبر التاريخ كانت مصدرًا للفوضى والاستبداد وانتهاك الحقوق)، المناطق المحرَّرة (واقعيًا غير محررة لأنها تتضمن احتلالًا أجنبيًا، ولأنها لم تبنِ نموذجًا ديمقراطيًا في الحكم والإدارة)، شرق وغرب الفرات (مصطلح تمهيدي يرغب أصحابه في أن يتحول بطريقة أو أخرى إلى شكل تقسيمي)، مناطق النظام أو مناطق المعارضة أو المنطقة الكردية أو المنطقة العلوية (مصطلحات زائفة ومضلِّلة ومدمِّرة)، المكونات السورية (مصطلح يرغب فيه بعضهم دلالة على التنوع لكنه مصطلح زائف ومضلِّل يُراد منه الحلول محلّ مصطلح “الشعب السوري” المأمول والقابل للصناعة)، جيش النظام (مصطلح زائف ومضلِّل لأنه يضع كتلة بشرية كبيرة تحت سقف النظام، يمكن الاستعاضة عنه بـ “قيادة الجيش النظامي أو الرسمي”)، الفصائل الثورية (هي جماعات مسلحة لا أكثر)… إلخ.

تساهم مثل هذه المصطلحات والتعابير في تشكيل وعي البشر، ومن ثمَّ تحديد مواقفهم وخياراتهم بصورة زائفة، ودفعهم إلى الاستقطاب حولها، والتأثير في خياراتهم على مستوى الممارسة والأدوات المستخدمة. في اعتقادي، إن تنظيف أدمغتنا من هذه المصطلحات (وأخرى غيرها) أو استخدامها بتحفظ على أقل تقدير يشكِّل شرطًا ضروريًا لبناء خطاب وأداء مغايرين.

10- المفهومات والناطقون بها

الكلمات وحدها ليست ذات دلالة لأنَّ مضمونها قد يتبع فهم المتحدث وتفكيره وأيديولوجيته ومصالحه؛ فعندما يتحدث (الجولاني) مثلًا مصنفًا البشر بين ثوري وغير ثوري، ينبغي لنا أن نفكر أولًا في فهم المتحدث ومقاييسه “الثورية”، تمامًا كما نفكِّر في (حسن نصرالله) مثلًا عندما يتحدث عن “المقاومة” مصنفًا البشر بين مقاوم وغير مقاوم، فكلُّ متحدِّث يُضفي شيئًا على المفهوم ويُعيد تشكيله وفق قناعاته وأهدافه، والأمر نفسه يحدث عندما تتحدث الدول الصغرى والكبرى، الاستبدادية والديمقراطية، عن “الإرهاب”. غالبًا ما تُستخدم مثل هذه المفهومات الحسّاسة في الميدان السياسي بقصد تصنيف البشر تصنيفًا ساذجًا وسطحيًا، وتحديد معسكر الأصدقاء والأعداء بطريقة شعبوية واختزالية.

ومن ثمَّ، يُمكن استخدام هذه المفهومات، “الثورية” و”الوطنية” و”المقاومة” و”الإرهاب” و”الإيمان والكفر” وغيرها، ستارًا لإخفاء الوجوه السوداء للناطقين بها أو حجة لقتل البشر، أو ربما تُحوَّل، في الحدِّ الأدنى، إلى أداة تستخدم في كمّ الأفواه، ومنع التفكير، والتغطية على الحقيقة، وتمرير ما هو غير عقلاني، والاعتداء على الحقوق الفردية والجماعية، وزجِّ المعارضين في السجون.

كلمة أخيرة

إن التفكير في المفهومات والمصطلحات، ولا سيَّما في الحقل السياسي، لا يصبُّ في إطار الترف الفكري كما يتخيَّل بعضنا، بل في صلب العمل السياسي، وشرط رئيس لصناعة ممارسة سياسية عقلانية، ولا سيَّما في بلدان متأخرة تفتقد إلى الثقافة والتجربة السياسيتين. فأي عمل سياسي يفتقر إلى الأساس النظري الفكري سينتهي به المآل إلى أن يكون عملًا عشوائيًا يفتقد إلى الوضوح، وسيغرق في إطار المواقف المتناقضة والتكتيكات المؤقتة التي تُضيِّع ما هو أساسي واستراتيجي. كذلك، فإنَّ العمل السياسي في بلداننا التي تفتقد إلى وجود الدولة بمعناها الحديث، ولمَّا تتكون بعد هوياتها الوطنية أو تنضج، مرغمٌ على أن يحمل على عاتقه مهمة تثقيفية وتنويرية، إلى جانب مساهمته في بناء حقل سياسي وطني ديمقراطي.

 

حازم نهار

كاتب وباحث سوري في الشؤون السياسية والثقافية، له إسهامات عديدة في الصحف والمجلات ومراكز الدراسات العربية، باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نشر عددًا من الكتب السياسية والثقافية، منها "مسارات السلطة والمعارضة في سورية" الذي صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و"سعد الله ونوس في المسرح العربي"، وله عدة ترجمات، منها: سورية: الاقتراع أم الرصاص لكاريستين ويلاند، سورية: ثورة من فوق لرايموند هينبوش، بناء سنغافورة لمايكل دي بار وإزلاتكو إسكربس، تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث لرايموند هينبوش، سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض لميريام كوك، لعبة الانتظار لبينت شيلر، أسّس وأدار مؤسَّسات بحثية وثقافية ومدنية عديدة، رئيس تحرير مجلة (رواق ميسلون) للدراسات.

مشاركة: