السنوات العشر

لا يمكن أن ينفصل الإنسان عما حوله مهما حاول، وليس له إلا أن يشعر بالأشياء والحوادث التي يكون في قلبها. وكما يفعل الكتّاب عادةً فأنا أرصد هذه الحوادث، أتأملها بروية، أبحث عن أسباب حدوثها بالشكل التي حدثت عليه. وعلى الرغم من أنني كمهاجر في هولندا كنت جزءًا من كثير من الحوادث ومادة لصراع إعلامي طويل بين يمين ويسار، بين محافظ وتقدمي، بين متدين وعلماني، إلا أنني لم أكتب لأي مرة عن هذا الصراع الذي يشكّل المهاجر مادته الأساسية. وإن كنت قد كتبت شيئًا تحت التأثير العاطفي من جميع أنواع الخطابات السائدة، فقد كان ما كتبته ذاتيًا وليس موضوعيًا حينها، فلم يكن موجهًا للمجتمع ولا للدولة التي تمثله. وتمثلت تلك الكتابات عن الحوادث السياسية والاجتماعية بالقصائد الرمزية التي اختفيت وراءها. ولم يكن ذلك تخاذلًا أو هربًا من المسؤولية، إنما رغبة في النأي بالنفس عن جدالات ماراثونية بين اليمين واليسار من جهة وبين السياسي والاجتماعي من جهة أخرى. فلطالما عدّ اليمين أن المهاجر هو المشكلة، وبذلك فهو دأب على تجريد المهاجر من عناصره الإنسانية، من لحمه ودمه، من مشاعره وعواطفه، من ماضيه وذكرياته، من مخاوفه وألمه، من أحلامه وطموحاته. فلا ينظر اليمين إلى المهاجر إلا أنه مادة يمكن استخدامها للوصول إلى كرسي السياسة. وقد كان الدخول مع اليمين المتطرف في جدل، بالنسبة إليّ، مضيعةً للوقت وإرهاقًا للمشاعر.

أما بالنسبة إلى اليسار الهولندي الذي يتخذ من الإنسانية قيمة أساسية لرؤيته، وهذا شيء جيد، إلا أنه يتعثر حينما يجعل من المهاجر موضوعًا لهذه القيمة. فيصبح هذا الموضوع (المهاجر) مادة الصراع بيد اليسار من أجل الدفاع عن قيمته التي يؤمن بها. ومن ثمّ لم يعد يُنظر إلى المهاجر على أنه إنسان، إنما كأداة تمثل القيمة التي يطمح إليها اليسار ويدافع عنها. وبصورة تدريجيّة يتحول المهاجر نفسه إلى قيمة بالنسبة إلى اليسار، فيصبح المهاجر الملاك الحارس للمثالية اليسارية. وهنا أيضًا يُجرَّد المهاجر من عناصره الإنسانية، فلم يعد يُنظر إليه على أنه مجرد إنسان، كائن اجتماعي، يخطئ ويصيب، يغضب ويهدأ، يحزن ويفرح، يتألم ويتعافى.

ثم تشتعل حرب الأرقام شيئًا فشيئًا بين اليمين الذي يرى في المهاجر مشكلة، واليسار الذي يراه قيمة. كلٌّ منهما يحمل رقمًا ليثبت به مزاعمه. فيتمسك اليمين بعدد المهاجرين الذي دخلوا البلاد مؤخرًا كسبب للزيادة السكانية وتفاقم أزمة السكن وغيرها من المشكلات الداخلية. وعلى الطرف الآخر يمسك اليسار بعدد الشواغر الوظيفية التي يجب أن يملأها مهاجرون. يعود اليمين بعدد العاطلين من العمل من المهاجرين، فيرد اليسار بعدد المهاجرين الذين يملؤون وظائف في سوق العمل. يرد اليمين بعدد العاطلين من المواطنين الذين أخذ المهاجرون أماكنهم، فيرد اليسار بعدد الوظائف الشاغرة، وهكذا… وما بين اليمين واليسار هناك حكومة ائتلافية تظهر الوسطية، إلا أن وسطيتها هذه سلبية لا إيجابية. فالحكومة تغازل اليمين تارةً واليسار تارةً أخرى، متمسكة بأرقام كل منهم. فتمسك الحكومة بأرقام اليمين لتعلق إخفاقها، في أهداف ووعود لم تستطع تحقيقها، على المهاجرين. وبالمقابل تمسك الحكومة بأرقام اليسار كإنجازات لها، ليس للمهاجرين أنفسهم ولا للمبادرات الاجتماعية والمؤسسات غير الحكومية التي دعمت هؤلاء المهاجرين. وفي نهاية الأمر يتفق الجميع، ولو ضمنيًا، على أن المهاجر رقم. وهذا هو السبب الأول لامتناعي من التعليق على الجدل الدائر حولي إلا رمزيًا وفي أحيان قليلة.

أما السبب الثاني فهو الرغبة في الهدوء والصمت بعد خسارات كبيرة ألمت بي كما ألمت بجميع السوريين، وغير السوريين ممن أُجبروا على مغادرة بلادهم لأسباب أمنية. خسارات كبيرة ليس أقلها خسارة الوطن، ولا أقصد بالوطن هنا الجغرافيا، إنما ما تحمله مفردة وطن وراءها بالعمق من الذكريات والأحاسيس التي ما زالت حيّة تجاه تلك الذاكرة. وحينما كُنت اُسأل عن الحياة في سورية، كنت أجيب باختصار شديد وبتلك الإجابات الجاهزة التي ترضي فضول من يسأل. وذلك لأن الإجابات الصادقة عن وطن خسره المرء تحتاج إلى كمٍّ هائلٍ من الدموع وتستنزف المشاعر. فلربما ليس من السهل على أحد أن يتخيل بأنك ما زلت تحمل في ذاكرتك يومًا من الطفولة حينما كنت تتشاقى في المطبخ على والدتك التي كانت منهمكة في الطبخ لعزيمة عائلية في رمضان. لقد كانت حينها تعد كثيرًا من الطعام، ولكل طبخة وصفتها وبهاراتها الخاصة. كيف يصدق أحدهم بأنك بعد خمسة وعشرين عامًا ما زلت تحتفظ بجميع تلك الروائح، وتميّز بين رائحة وأخرى. وتخبئهم جيدًا في ذاكرتك، وتخشى عليهم من الضياع، لأن هذه الروائح شيء من الوطن. قد ترغب في مشاركة ذلك مع صديق من عوالم أخرى حينما يسألك عن الوطن، أو ربما مع زميل عمل، لكنك تقول في نفسك: “هل لدي متسع من الوقت! وهل لديه متسع من الصبر!”. ذات يوم كنت أتمشى مع صديق في أمستردام، فأخبرته عن مدى تشابه أحجار ساحة الدام مع أحجار سوق الحميدية بالقرب من الجامع الأموي، وحينما أطلت الشرح تعجب صديقي من مدى تعلقي بالحجارة، فأسدى لي نصيحة بمراجعة طبيب نفسي.

المرة الوحيدة التي أسهبت فيها الشرح بارتياح عن الوطن حينما سألني صديق آخر من هولندا عن دمشق التي زارها عدّة مرات بحكم عمله كمستشرق متخصص ببلاد الشام. لقد كان يفهمني تمامًا لأن الحديث كان متبادلًا فكلٌّ منا له ذاكرة في التكية السليمانية، إذ كان يزورها باستمرار في السنة نفسها التي كنت فيها طالبًا في جامعة دمشق فتقودني خطاي بلا وعي إلى هناك. قلت له: “ربما التقينا هناك مصادفة من دون أن ندري”. ابتسم وأجاب: “لقد التقطت كثيرًا من الصور هناك حينها، سأبحث في تلك الصور مجددًا، ربما أجدك في إحداها، ستكون مصادفة عجيبة إن كنت قد التقطت لك صورةً في ذلك الزمان”. فقلت: “إن الأرصفة التي مشينا عليها هناك قد حفظت خطانا، وأحجار ذاك المكان علقت في ذاكرتنا، وأصبحنا جزءًا من ذاكرتها، فليس مهمًا إن كان لنا صورٌ هناك. تظل الحجارة أكثر وفاءً من الكاميرات”.

السبب الثالث الذي كان يمنعني من الدخول في الجدل السياسي أو الاجتماعي طوال السنوات العشر الماضية فيتمثل بمسألة اجتماعية تمسنا بشدّة هنا في هولندا وإن كانت تتأثر بعوامل خارجية. وإن استخدامي لمفردة تمسنا، وليس تمس هولندا هو جوهر هذا السبب. فأنا أنتمي إلى هذا البلد بقدر انتمائي إلى سورية بلدي الذي ولدت فيه. حتى وإن كان البعض ممن وُلد في هولندا لا يوافقونني على ذلك. فأنا لا أعني هنا الانتماء العرقي، والذي لا يزال يراه كثيرون المحدد الرئيس لمفهوم الانتماء لبلد ما ينتسب المرء له بالولادة. وهذا النوع من الانتماء والذي أسميه انتماء المصادفة أرفضه بشدّة، أما ما أعنيه هنا هو الانتماء الذاتي. والانتماء الذاتي للمرء لبلد يتحدد بما يبنيه من ذاكرة في جغرافيا هذا البلد. فأنا أُجبرت على مغادرة سورية البلد، التي وُلدت فيها، حينما كان عمري ستة وعشرين عامًا، أي أنني أحمل ستة وعشرين عامًا من الذكريات. وهذه الذكريات ليست للأبنية، الشوارع، المنازل… إنما ذكريات بشرية. والأماكن التي أشتاقها هي الحامل الطبيعي لهذه الذكريات البشرية. فأنا حينما أشتاق لبيتي في سورية، إنما أحنّ للعائلة، وليس للبيت نفسه كمبنى.

منذ عدة أيام، سألني صديق إن كنت سأعود إلى سورية، إذا ما رحل الدكتاتور وانتهت الحرب تمامًا هناك. إنها ليست مسألة من السهل أن يتخذ المرء فيها قرارًا. لكنني أجبت بسرعة لأنني كنت قد استغرقت وما زلت أستغرق التفكير فيها. أنا تركت سورية في العام الأول من الثورة، لم يكن هناك حرب بعد. كنت أول المغادرين فتركت خلفي كل شيء كما كان عليه، وما زالت أحمل في ذاكرتي ذلك الوضع نفسه. رحل والدي قبل أن أسافر بفترة قصيرة، ورحلت والدتي وأنا في بلد آخر، بعد ذلك بسنوات رحلت أختي الكبيرة بعد رحيل ابنها المقرب مني وأنا في المنفى. أما أصدقائي، فمنهم من سُجن واختفى بعدها، ومنهم من توفي، ومنهم من هاجر لبلاد مختلفة. ماذا لو عدت ولم أجد هؤلاء كلهم الذين أحتفظ بصورهم ومواقف جميلة جمعتني بكل واحد منهم. حينها ستصطدم الذاكرة بالواقع الذي سيدمرها تمامًا وسأخسرها إلى الأبد. حتى وإن قبلت الواقع الجديد فهو لن يقبلني بسهولة، فخلال سنوات الغياب الطويلة عن الحي الذي عشتُ فيه، وُلد جيل جديد، أصبح لي أقارب وصار لبيتي هناك جيران جدد لم يلتقوا بي، وربما لا يعرفونني أبدًا، فأنا لا أشكل أي شيء في ذاكرتهم ولا في حاضرهم. أي أن هناك ذاكرة جديدة للمكان أنا لست جزءًا منها.

وبالمقابل لقد أصبح لي ذاكرة في هولندا عمرها عشر سنوات، أرتبط بها بشدة. بدأت هذه الذاكرة تتشكل منذ الأيام الأولى في هولندا مع زوجتي، حبيبتي ورفيقة دربي. مشينا معًا في الأماكن كلها التي كنّا نظن بأنها تشبه أماكن أحببناها في دمشق، لقد كنا نخلق ذاكرة جديدة لنا في هذه الأماكن من دون أن نعي ذلك. وعززّ مكانة هذه الذاكرة طفلانا اللذان وُلِدا هنا. نراهما يكبران أمام أعيننا كل يوم. لقد أصبح كل يومٍ يمر يحمل ذكرى جديدة معه. ولا يجب أن أنسى هنا ذاكرة أطفالي أنفسهم. فكل منهم أصبح يحمل ذاكرة خاصة به. أما خارج المنزل فهناك كثيرٌ من الحوادث في السنوات العشر التي تفيض بذكريات مختلفة، الأصدقاء الجدد، مقاعد الدراسة ثانيةً وثالثة، زملاء العمل… نعم إنني أنتمي إلى هولندا بذاكرتي هذه، وحتى لو قُدر لي أن أهاجر مرة أخرى فسأحمل هذا الانتماء معي أينما ذهبت. ولذلك فلا يهم، بالنسبة إليّ، إن كان هناك من يرفض انتمائي لهذا البلد لاعتبارات عرقية، دينية، اجتماعية أو سياسية ما دام الانتماء الذاتي للمهاجر إلى البلد المضيف لا يحتاج إلى موافقة أحد، ولا يتحدد في إطار قانوني كالحصول على أوراق رسمية كالإقامة أو الجنسية. ولا يتحدد هذا الانتماء والذي أسمّيه الذاتي بالمستوى اللغوي الذي يتمكن منه المهاجر ولا بمدى اتفاقه مع ما نسميه الثقافة السائدة لدى الأغلبية من سكان البلد.

السبب الرابع هو أن تكون أقلويًا. لا أعلم إن كان لحسن حظي أم من سوء حظي أن أعيش التجربتين في حياتي. ففي سورية وُلدت مصادفة لأسرة تنتمي للأغلبية العربية السنّية. وأنا أعني هنا كلمة مصادفة، لأنني، كما أسلفت سابقًا، لا أؤمن بالانتماء للجماعة لمجرد الاعتبارات العرقية أو الدينية، وإن كنت مفتونًا بالثقافة العربية والإسلامية لكن لاعتبارات ذاتية. في سورية لم أكن لأتفهم مشاعر أبناء الأقليات، لكوني ابن الأغلبية التي يظن المرء أن ثقافتها وحدها هي الشيء البديهي والمنطقي في المجتمع. ومن ثمّ تصبح هذه الثقافة السائدة للأغلبية، من دون وجه حق، البوصلة أو القانون الاجتماعي الضمني الذي يجب أن يلتزمه الجميع. وهذا ما يجعل أبناء الأقليات أمام خيارين: إما أن يتكيفوا مع ثقافة سائدة مهيمنة قد تبتلع ثقافاتهم الخاصة أحيانًا، أو أن ينكفئوا ضمن مجموعاتهم الصغيرة وهذا ما يجعلهم عرضة للشك دومًا. على سبيل المثال، كانت وما زالت اللهجة الشامية هي اللهجة المهيمنة اجتماعيًا في سورية، وتنافسها في ذلك اللهجة الحلبية. وحينما يخرج ابن الأقلية من دائرته الاجتماعية، قريته أو مدينته كان يشعر بأنه يجب عليه أن يكيّف لسانه مع اللهجة المهيمنة للأغلبية في البلد، ويمتد ذلك إلى الدراما والتعليم.

وإن تلك المسائل لم أكن لأشعر بها لو لم أتحول في هولندا إلى ابن أقلية. إن الانتقال من كوني ابن أغلبية إلى كوني ابن أقلية، تجربة مهمة في حياتي فقد منحتني الفرصة لفهم مشاعر الآخرين بعمق تجاه الحوادث الكبرى مثل الرغبة في عدم الاصطدام بالثقافة المهيمنة للأغلبية على المجتمع، تحول العلاقات الدينية والعرقية من نطاقها الروحي الاجتماعي إلى نطاق آخر يعبر عن رغبة لاواعية في بناء تحالفات اجتماعية لخلق موازين قوى يأمن المرء على نفسه من خلالها تغيير مزاج الأغلبية، والمخاوف من الانتقال السياسي أكان ذلك سلميًا أم عبر الثورات والحروب. وقد كان من المثير للاهتمام ملاحظة أن الحكومة في هولندا كانت إحدى الدول التي تطالب باستمرار المعارضة السورية بتطمين الأقليات قبل أي انتقال سياسي، وهو مطلب حق، إلا أنني أدركت لاحقًا، وذلك حينما تحولت لابن أقلية في هولندا بأنه ليس للحكومة هنا تصور واضح عن مخاوف الأقليات في هولندا نفسها، وليس لديها إجراءات تجاه هذه المخاوف، وإن كان هناك مبادرات اجتماعية كثيرة لكن ليست حكومية.

السبب الخامس هو هيمنة الصور النمطية السلبية عن المهاجرين على الثقافة الاجتماعية السائدة. وهذه مسألة مهمة جدًا. فالمهاجر ابن أقلية اجتماعية، لكن هذه الأقلية ليست أقلية محلية، إنما أقلية غريبة مُطالبة بالاندماج في المجتمع المحكوم بالثقافة الاجتماعية السائدة. وهذه الثقافة تحمل كثيرًا من الصور النمطية السلبية عن الآخر والذي هو المهاجر في كثير من الأحيان. وإن هذه الصور النمطية لم تتشكل في يوم وليلة، إنما هي موجودة في الذاكرة المجتمعية منذ قرون طويلة، وكان كل جيل يضيف شيئًا جديدًا على أفكار أسلافه ليؤكدها، لدرجة أنه قد أصبح من الصعب جدًا التخلي عنها، ويساهم في ترسيخ هذه الصور النمطية، تكرارها في الإعلام والدراما، واستحضارها من الذاكرة مع كل حدث جديد من الحاضر. يشعر المهاجر بنفسه على أنه حقيقة، والأمر كذلك فعلًا، فبغير ذلك لن يكون موجودًا، ويشعر بأنّ هذه الصور النمطية عنه وهم. بينما يشعر ابن الثقافة الاجتماعية المهيمنة العكس، فبالنسبة إليه هذه الصور النمطية هي الحقيقة، ويصر على ذلك ليس لأنه يؤمن بها، إنما لأنه يؤمن بذاكرته الجمعية، والتخلي عن هذه الصور النمطية التي تميّزه عن الآخر المختلف يعني فقدان جزء من الذاكرة الجمعية وتضررها. وإن الصور النمطية ثنائية الجانب، فالمهاجر أيضًا يحمل صورًا نمطية عن الآخر. لكن الفرق هنا يكمن في القدرة على فرضها والحفاظ عليها، وقدرة الطرف الآخر على دحضها.

وعند الحديث عن تراشق الصور النمطية بين الطرفين فلا بدّ من التفريق بين ميزاني القوى، على سبيل المثال حينما يستخدم اليمين المتطرف صورة نمطية عن المهاجر، فهو لديه المقدرة اللغوية للحديث المطول وعرض جميع حججه في سبيل ذلك، بينما المهاجر يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ لتعلم اللغة حتى يفهم ما يُقال عنه، وأيًّا كان مستوى لغته فلن يكون لديه المقدرة اللغوية لمواجهة من يتحدث بلغته الأم. ثانيًا: إن اليمين المتطرف يستند إلى قوة كامنة وهي الذاكرة الجمعية للثقافة السائدة لدى الأغلبية، وكل ما عليه فعله هو أن يذكـّر أو يؤكد ما جرى تداوله وترسيخه سابقًا. أما المهاجر فإنه يسعى لدحض صورة نمطية راسخة اجتماعيًا، أي أنه يصطدم بالثقافة السائدة المطالب بالاندماج فيها. ومن ثمّ سيُنظر إليه على أنه من جهة ضد الثقافة السائدة، ومن جهة أخرى رافض للاندماج وهي فرصة لن يفوتها اليمين المتطرف للبناء عليها لاحقًا. ثالثًا تأسيس الصور النمطية، وهذا جوهر الاستشراق الذي قال به المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، ويعني الانتقال بالصور النمطية من الحالة الاجتماعية إلى الحالة المؤسساتية. وذلك حينما تتبناها المؤسسات الإعلامية، الدرامية، الأكاديمية، الأدبية وأخيرًا السياسية. ولكل مؤسسة من هذه المؤسسات أجندتها وجمهورها الذي يثق بها ويتلقى المعلومات منها على أنها حقائق لا تقبل الجدل. وفي هذه المرحلة يكون قد أُعيد طرح الصور النمطية في المجتمع على أنها حقائق. في جميع الأحوال ليس لدى المهاجرين إلا قدرة فردية محدودة داخل هذه المؤسسات. والجدير بالملاحظة هو أنه مع التكرار لهذه الصور النمطية الذي يهدف لتأكيدها، والتركيز على نشاطٍ بشريٍّ وحوادث بعينها وجنسية أو دين فاعليها فقد يصبح المهاجر نفسه مؤمنًا بهذه الصور النمطية السلبية على أنها خاصة به من دون غيره من البشر.

أخيرًا، إن هذه الأسباب الخمسة كانت أسبابي الرئيسة لعدم الدخول في ساحة الضجيج العام في هولندا طوال السنوات العشر لي في هذا البلد. ولربما يفهمني القارئ الآن ويعذرني حينما أقول إن الرغبة في الهدوء الخاص كان سببًا في عدم رغبتي في الخوض في الجدل الاجتماعي والسياسي. إلا أن الهدوء لا يمكن أن يتحقق للمرء إن كان العالم من حوله يعج بالضجيج. والكاتب إذا ما أراد السكون لنفسه فعليه أن يواجه الضجيج وأن يحاول ترتيب الفوضى من حوله، وهذا أمر لا مهرب منه.

 

حسن الخطيب

كاتب سوري، درس الحقوق في جامعة دمشق، بكالوريوس "دراسات شرق أوسطية" من جامعة أمستردام، طالب ماجستير "دراسات يهودية" في جامعة أمستردام. عمل محررًا في مجلة زمزم بين عامي 2018-2020 (مجلة أكاديمية باللغة الهولندية تصدر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أمستردام). منذ عام 2020 يعمل مستشار تواصل في مركز أمن المعلومات وحماية الخصوصية في هولندا. في عام 2021 صدرت له رواية بعنوان "رصاصة أخيرة" عن دار نون للنشر في تركيا.

مشاركة: