رؤية عملية في مستقبل القضية الفلسطينية

ماذا بعد الطوفان؟ ما الذي سيليه؟ ما الثوابت التي وطّدها الطوفان ومتّنها؟ وما الحواجز التي أعاقت مسير المقاومة، فاقتلعها الطوفان مجتثّا دعائمها الواهية أصلًا؟ وهل سيكون الطوفان هو آخر فصول المقاومة المسلحة ضد مساعي الصهاينة في تهجير الشعب واحتلال الأرض وتهويدها وبناء المستوطنات والتشريد النكبوي المستمر للشعب الفلسطيني؟ هل بالمقاومة وحدها تستمر القضية الفلسطينية؟ كيف نعيد صوغ وعي وتعريف بهذه القضية مشذبين من الأصنام المعرفية التي تعوق التفكير فيها بطريقة علمية وموضوعية؟ كيف نفرّق بين هذه الأصنام التي يتمسّك بها كل فصيل فلسطيني على حدة ليصنع أيديولوجيته الخاصة، وبين الثوابت المركزية أو الأصول التي هي بمنزلة عناصر متجذّرة ومميزة لطبيعة هذه القضية، والتي يساعد تحديدها وتعيينها في جلاء ووضوح الهوية الفلسطينية الوطنية، التي ليس بالضرورة أن تتعارض أو تتزاحم مع الهويات الفرعية دينية كانت أم غيرها؟ وهل الانقسام بين الفلسطينيين صار بنيويًا، بمعنى هل افتراقهم لما يزل عند حدود التمايزات الخاصة بكل فصيل من حيث الأيديولوجية والرؤية السياسية؟ أم أنه صار جذريًا فطال المسائل الجوهرية ولا سيّما المقاومة ومواجهة العدو وتحرير الأرض واستعادتها؟

هل انفلق الفلسطينيون إلى فريقين؛ أحدهما مع التسوية والمفاوضات والآخر مع المقاومة؟ وهل هذا الانشقاق هو على مستوى النخب السياسية أم أنه ينسحب على الشعب الفلسطيني بأكمله أينما حطّ به الشتات؟ هل يقتنع الخصوم السياسيون المتوزّعون بين فتح وحماس بضرورة خفض وتيرة هذا النزاع الذي يتصدّر المشهد الفلسطيني، وإتاحة الفرصة لباقي مكوّنات الشعب بالإدلاء بدلوها في ما يختص بقضية جميع الفلسطينيين، علّهم يتوصلون إلى نقاط مشتركة، أو يعيدون ترتيب الأولويات للانطلاق بمشروع وطني فلسطيني محدّث، يحافظ أقلّه على الملامح والمشتركات المعنوية والرمزية والوطنية للهوية الفلسطينية حفظًا لها من التمزّق والضبابية والضياع؟

هل تقوم القضية الفلسطينية وتستوي ومن ثم تستمر وتصمد أمام جميع محاولات محوها من جانب الصهاينة والغرب الاستعماري من دون حاضنة عربية تؤمّن لها خلفية شعبية واسعة؟ كيف يستعيد العرب قضيتهم المركزية التي يشكّل الالتئام حولها واحدًا من أهم دعائم نهوض وعيهم، ومن ثم ما يستتبعه هذا الوعي من قيامة حضارية ذات هوية عربية محدّدة الملامح، ولعلّ أكثر هذه السمات بروزًا هي استعادة فلسطين وتحريرها؟ متى يعي العرب أنّ فهمهم ووعيهم بأبعاد أهمية تحرير فلسطين يرتبط تمفصلًا وتلازمًا مع تحقيق تحرر الفرد العربي والعقل العربي والمجتمع العربي من جثوم أنظمة الاستبداد الممانعة والمطّبعة، والتي يشكّل استمرارها دعامة وضمانة لاستمرار احتلال فلسطين، وصمام أمان للدولة الصهيونية الفاشية اليمينية المتطرّفة ذات العقيدة المهووسة بالقتل والإبادة وكره الآخر؟ متى يعي العرب والمسلمون أن التشدّد بالدين يصير نصيرًا للصهيونية، لأنه يفرخ صهيونيات مماثلة بعضها يغذي بعضًا حتى حين تقتتل حتى الإفناء، لأنها كلها أوجه متعددة لعقل واحد؟

هل نبالغ في هذه التساؤلات؟ هل نشطح في الوعي اللاموضوعي حين يقودنا التحليل إلى ربط تحرير فلسطين بتحررنا الفكري والاجتماعي؟ هل نحلم وتمتطينا الرغبات حين ننزع للاعتقاد أن فلسطين هي الثابت الأكثر وضوحًا وجلاء الذي يمكن الارتكاز عليه لجمع العرب حول موقف مشترك لا يشكّل محط خلاف وافتراق وتشتت؟ وبعد استملاك وعينا حول مركزية القضية الفلسطينية، نطرح السؤال: ما العمل؟ ماذا يجب أن نفعل؟

إنّ الانتقال من المعرفة إلى ترجمتها عمليًا بالفعل؛ السياسي والمقاوم والمناضل يتطلّب ترتيبًا على ثلاثة مستويات هي بمنزلة دوائر، يشكّل المشروع الفلسطيني الوطني نواته أو الدائرة النواتية، ومن ثم المستوى الآخر أو الدائرة المحيطة والداعمة للأولى والمكتنفة لها وهي العروبة (ولم نختر مصطلح القومية العربية لكثرة تعقيداته، ولأنه هو الآخر مشروع بحاجة إلى البناء كرؤية ومنطلقات وتوافقات وأهداف ليصير مفهومًا واضحًا مكتمل المعالم يمكن الانطلاق منه والبناء عليه)، والدائرة الأكبر هي الدعم العالمي الحقوقي والشعبي للقضية الفلسطينية.

والعلاقة بين هذه الدوائر الثلاث ليست ذات طبيعة تفاضلية بحيث تغلب الواحدة الأخرى وتحتويها مسيطرة عليها، بل العلاقة بين هذه الحلقات تكاملية جدلية، تغذّي الواحدة منها الأخرى وترفدها بعناصر القوة بحسب المكاسب التي تحرزها كل دائرة على حدة، أو الضمور والتراجع في حال انتكست أو تخاذلت أو تعثرت في خطوها نحو تحقيق أهدافها. فالفلسطينيون مسؤولون بداية عن تشييد مشروعهم الوطني ذي الهوية الفلسطينية التي تشكّل بوتقة تنصهر فيها وعندها الهويات الفرعية الأخرى كافة سياسية أكانت أم دينية. ما يلزمهم إعادة ترتيب الأولويات والتوافق حولها.

ماذا يريدون؟ الدولة الفلسطينية في حدود 1967 أم كامل التراب محررًا مستعادًا؟ هل يريدون المقاومة العسكرية أم الحلول السياسية؟ وما سقوف هذه الأخيرة وما هي صياغتها؟ وهل يمكن التوفيق بين الاثنين؟ وما هو الميثاق الذي يحتكمون إليه في ظل هذه الدولة؟ هل هي دولة وطنية لجميع فلسطينيي الداخل (بوضعياته كافة) والخارج في دول الشتات؟ أم أنها دويلات الفصائل المتناحرة؟ كيف يواظب الفلسطينيون من خلال هذه الدولة على اجتراح قنوات سياسية تمتد إلى الخارج المحلي والعالمي كي تنتزع من العالم اعترافًا بأحقية مطالب الفلسطينيين بالمقاومة والعودة والتحرر؟ وما هو الدور الذي يجب أن يؤديه فلسطينيو الخارج في تصويب الصورة عن القضية الفلسطينية، وكيف يعملون على نقل السردية الفلسطينية الحقيقية ليفضحوا أضاليل الصهاينة ومن ورائهم؟

أما على المستوى العربي، فعلى العرب أن يعوا أن نيل تحرير فلسطين لا يُحقق بالتمني والحماسة الانفعالية. بل يجب استبدال ثقافة التباكي والتفجع بثقافة العمل كل من موقعه وبحسب تأثيره، فردًا أو مؤسسات أو جماعات مهما كان إطارها. كما أن القضية الفلسطينية لا تخص الفلسطينيين وحدهم، وليس بالإمكان أن نفصل ما يجري في منطقتنا المتخمة بأزمات سياسية واقتصادية معقدة وحروب واقتتالات عن وجود الكيان الصهيوني وتأثيره في الدول العربية بخاصة تلك المتاخمة له. أضف إلى أن دوام رزوح الأنظمة العربية المستبدّة كالنوائب والأقدار التي لا مفر منها مرتبط ارتباطًا وثيق الصلة باستمرار وجود الكيان الغاصب، وإن كانت ممانعة تستثمر واستثمرت في القضية الفلسطينية ليزيد استبدادها بشعوبها (لا يمكننا أن نطالب بتحرر الفرد اجتماعيًا، لأن مطلب تحرير فلسطين أولوية تلغي أي اهتمامات أخرى!)، (لا يمكننا أن نرفع أصواتنا رافضين نهج اهتراء مؤسسات الدولة وتأكلها بفعل تفشي دود الفساد فيها، لأن لا صوت يعلو فوق صوت بندقية التحرير!)، (ليس بالإمكان ممارسة حياة سياسية صحيحة من خلال وجود معارضة ديمقراطية تراقب أداء النظام وتعترض عليه، لأن أي معارضة تخوّن وتأمر وتُصهين!).

وبالتأكيد فإنه يجب الفصل بين الموقف العربي الرسمي للأنظمة المعادي بطبيعته وتكوينه وعقيدته لأي حركة تحرر ولفكرة الحرية برمّتها، لأن من يتخذ من الاستبداد والإذلال نهجًا ويطبّع نفوس الشعب عليه لا يستطيع أن يقبل الحرية ومشتقاتها، فهي تشكّل خطرًا على وجوده. قلنا لا بدّ من التمييز بين الأنظمة والشعوب العربية المبتلية بشرور السلطان الجائر أكان نظامًا أم حاكمًا بأمره، وهي وإن كانت لا تملك حيال فلسطين إلا التضامن عبر فعاليات وتظاهرات وغيرها من أشكال التعبير المدنية، إلا أنها يجب أن تعمل على رفض التطبيع الرسمي مع “إسرائيل” المباشر منه والمعلن أو ذلك المتخفي والمندس عبر ممارّ كثيرة، كامتطاء مجالات الفن والرياضة والتربية وتقبل الآخر وحوار الأديان وغيرها من مفهومات ومصطلحات مريبة. ولا يجب التهاون بموقف المقاطعة الشاملة أو الجزئية لكل ما هو منتج صهيوني، أكان ماديًا داعمًا للكيان اقتصاديًا، أم معنويًا يعزز من السردية الصهيونية ويروّج لها. على أمل أن ينجلي ليل الطغيان عن الشعوب العربية، لتضع قدمها في طريق تحرير بلادها من جور الطغاة، فتستكمله بتحرير فلسطين واستعادتها، وصولًا إلى التأسيس لاستقلالية حضارية عربية منعتقة من تبعية الغرب والالتحاق به. ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا الغرب المتفرّد بحداثته والمتفاخر، قد هوى في امتحان قيمها (الكوكبية أو الكونية) حيث وضعها طوفان الأقصى على محك الاختبار فتضاءلت إلى الاستنسابية والازدواجية والانتقاء.

والحلقة الأوسع هي التضامن العالمي الإنساني الأممي مع القضية الفلسطينية. لا شك أن طوفان الأقصى أعاد فلسطين إلى واجهة العالم، فخرجت الشعوب تجوب الشوارع متضامنة مع الحق الفلسطيني عمومًا. وما ساعد في ازدياد منسوب هذه المؤازرة هو التطرّف الصهيوني والجسامة اللامعقولة المتفننة في ابتداع أشكال الإماتات المنفرة للحس الإنساني العام والمثبتة بالمجازر والقصف والتجويع والتنكيل والسجن والإبادة الجماعية، أن “إسرائيل” هي دولة فصل عنصري. لكن الدعم الغربي الشعبي بخاصة، يستند إلى معرفة منقوصة ومحرّفة عن تاريخ القضية الفلسطينية وظروف نشأتها والأحداث التاريخية التي شكّلت تكوينها ورسمت خط مسارها، لا بل هو معرض لتلقي السردية الإسرائيلية فيما تبقى حكاية الفلسطينيين منذ النكبة إلى اليوم مطموسة وغير محكية ومن ثم مجهولة لدى الآخر الغربي. كما أن وعي العالم بحقيقة ما يحدث في طوفان الأقصى مشرّع للتعمية الإعلامية الموجّهة القاصدة إلى بتر 7 تشرين الأول/ أكتوبر عما قبله وإظهاره كاعتداء استتلى ضرورة “الدفاع عن النفس”، وترافق هذه الذرائع التي تمطيها آلة القتل الإسرائيلية، كون المرتكب لهذا “الاعتداء” فصيل إسلامي متشدد تحوّل في الإعلام الغربي إلى أكبر مصدّر للإرهاب وممارس له وحاضّ عليه في العالم.

من هنا، وبعد سفور جرائم العدو والتنديد بها من شعوب العالم، يجب العمل على تحويل هذا الحدث إلى نقطة انطلاق واستكمالها إلى ما بعد طوفان الأقصى لإطلاق حملات منظمة ومدروسة وممنهجة وموجهة، تهدف إلى جلاء جميع الجوانب المتعلقة بقضية فلسطين منذ النكبة والتشريد والقتل واغتصاب الأرض والسجون الإسرائيلية والاحتلال غير المباشر للضفة وفرض الحصار الكبير على القطاع وأهله… إن مراكمة مثل هذه النشاطات والمبادرات سوف يؤدي إلى تعديل نظرة الرأي العام الغربي تجاه قضية فلسطين، ليردع على الأقل محاولات عزلها أو تغييبها أو عدّها قضية صراع سياسي في حين هي مسألة صراع وجودي.

ربّما ليس بالأمر السهل أن ننتقل إلى بلورة مشروع من أجل فلسطين متساوق ومتناغم في دوائره الثلاث، التي يجب أن يتجند لها الفلسطينيون والعرب والمسلمون وكل من يؤمن بأحقية هذه القضية. ولكن علينا أن نبدأ كل من موقعه وبحسب إمكاناته. لا يجب أن يمر طوفان الأقصى كحدث يطويه النسيان أو يصير كغيره من محطات في تاريخ القضية الفلسطينية، تنصرم ولا يبقى منها إلا ما ترسّخه في نفوسنا، وهو تذويت الهزيمة والعجز وعدم القدرة على المواجهة والخضوع.

أبكانا طوفان الأقصى وآلمتنا فواجع ومواجع فلسطينيي غزة ونحن لا نملك حيالهم إلا حزنًا يعتصر قلوبنا. ولكن حتى لا يصير التباكي هباء لا طائل منه، على كلّ واحد منا أن ينخرط في فعل ما، من أجل نفسه أولًا حتى لا نعرّض حسّنا الإنساني والأخلاقي لاعتياد ما هو فوق عادي من تنكيل اشتدت شناعته وجاوز الحدّ في نحر القيم الإنسانية، وثانيًا، إن مواجهة ما يتذوقه الفلسطيني اليوم من تفظيع وتقتيل لن نكون بمنأى منه ما دام العدو الصهيوني مستزرع في منطقتنا. فالفلسطيني اليوم ونحن غدًا، لأن المخطط الصهيوني الذي غار في كهوف التاريخ ليختلق ذرائعه وزيوفه وافتراءاته لن يتوانى عن أن يحمّل مخططاته المستقبلية قصيرة المدى كانت أم بعيدة، أطماعًا في التوسع ومزيدًا من احتلال الأراضي العربية، ما دامت طبيعته احتلالية استملاكية استيطانية، وهذا يتطلّب منا توسيع معرفتنا بكل ما يتعلّق بالعدو الصهيوني، لأن أحد أهم أشكال مواجهته لا تقتصر على السلاح فقط، بل على الإلمام بذهنيته وعقيدته والهدف من وجوده بيننا، كوجود ذي غايات استعمارية مدعومة من دول الغرب الذي ما فتئ يرانا بمنظوره المتعالي؛ ملاحق، ومستعمرات، وتوابع وأذيال وأطراف هامشية، لا حاجة له بها إلا ليرمي فيها قذارة وحشيته وبربريته وهمجيته التي نزع قناعها في بلاده، وعاث بها فسادًا في بلادنا.

زهراء سهيل الطشم

باحثة لبنانية، حائزة على شهادة الدكتوراه في الفلسفة المتخصّصة بالفكر الغربي الحديث والمعاصر من المعهد العالي للدكتوراه – الجامعة اللبنانية، دبلوم متخصِّص بالعلوم الاجتماعية من الجامعة اللبنانية- معهد العلوم الاجتماعية، حائزة على شهادة تخصّص بالتربية من الجامعة اللبنانية- كلية التربية، أستاذة مادة الفلسفة العربية والفلسفة الغربية في التعليم الثانوي الرسمي، نشرت العديد من المقالات والبحوث في دوريات ومجلات ومواقع لبنانية وعربية.

مشاركة: