الإضراب كشكل من أشكال العنف في فكر فالتر بنيامين

مقدمة

كان لإضراب عام 1919 في ألمانيا، والذي أنهى الإمبراطورية الألمانية، تأثيره في الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين، والذي سعى في مقالته الشهيرة “نقد العنف” لشرح طبيعة العنف بعد أن عاين أحداثًا عنفية شهدها بنفسه في ألمانيا مطلع القرن العشرين مثل عنف الحرب والإضراب الذي قام به العمال النقابيون، والذي عدّه بنيامين شكلًا من أشكال العنف. ويرى بنيامين أن الدول تشعر بالتهديد من الإضرابات العمالية لأنها ترى أن النقابات العمالية تنافسها في حق ممارسة العنف. ولتوضيح وجهة نظره، يميز بنيامين بين عدة أنواع من العنف، اعتمادًا على علاقتها بالقانون من جهة وبالعدالة من جهة أخرى. وهو يرى أن العنف وسيلة لتحقيق غاية وليس غاية في حد ذاته. لذا، لا يجوز الحديث عن أي عنف قانوني مبدئي إذا كان غاية في حد ذاته. على أي حال، يخرج بنيامين عن التمييز التقليدي بين العنف المشروع وغير المشروع في تصنيفه.

وما يثير الاهتمام في فكر بنيامين هو العلاقة بين العنف والإضراب، ومتى تكون الإضرابات عنيفة ومتى تكون وسائل غير عنفية. وفي هذه المقالة سأوضح العلاقة بين الإضراب والعنف من وجهة نظر فالتر بنيامين في مقالته الشهيرة التي كتبها في عام 1921 بعنوان “نقد العنف”.

أولًا: معايير بنيامين لتصنيف العنف

إن العنوان الذي أطلقه فالتر بنيامين على مقالته “نقد العنف” لم يكن للإشارة إلى مسألة شرعية العنف أو محاكمته. بل إن ما قصده من وراء مصطلح “نقد العنف” هو فهم طبيعته والتحقيق في جوهره، كما فعل كانط في كتابه “نقد العقل المحض” والذي قصد من عنوانه فهم طبيعة التفكير، وليس محاكمته. ومن هذا المنطلق يستبعد بنيامين من بحثه مسألة تصنيف العنف إلى عنف مشروع وعنف غير مشروع. وهذا ما يجعل رؤية بنيامين للعنف غير مسبوقة، حيث يقدم أمثلة جديدة للعنف، بما في ذلك الإضراب. إلا أن بعض الفلاسفة، وعلى رأسهم جاك دريدا، يعترضون على تصنيف الإضراب بأنه عنف. فبالنسبة إلى دريدا إن الإضراب هو شكل من أشكال السكون والكف عن الحركة، وبذلك فهو يتعارض مع طبيعة العنف الذي يجب أن يتخذ شكلًا من أشكال الفعل. ومن أجل تفسير الطبيعة العنفية للإضراب وكيف يمكن أن يندرج الإضراب تحت عدة أشكال من العنف، يجب علينا أولًا أن نفهم طبيعة العنف في فكر بنيامين من خلال توضيح الأسس التي يعتمد عليها في تصنيفه للعنف.

إن العنف، بالنسبة إلى بنيامين، وسيلة وليس غاية. ولذلك فهو لا يبني تمييزه على العنف كفعل في حد ذاته. بل إنه يميز بين أشكال العنف بحسب الوظائف المنوطة به. أما الغايات التي يرتبط بها العنف ويسعى لتحقيقها، فهي ثانوية بالنسبة إلى تصنيف بنيامين. فالعنف فعل وظيفي وتحديد علاقة العنف بالوظيفة المنوطة به هو مسألة جوهرية، وليس علاقة العنف بالنتائج التي يحققها في النهاية. ومن هنا لا بد من تحديد علاقة العنف بالقانون من جهة، وعلاقته بالعدالة من جهة أخرى. للعنف علاقة مباشرة بالقانون، وليس بالعدالة التي مجالها الأخلاق. والعلاقة بين القانون والعدالة ليست علاقة غايات ووسائل. فالقانون هو نتيجة لاتفاقات تاريخية معينة وليس وسيلة لتحقيق العدالة.

ووفقًا لأستاذ الدراسات الأدبية الألمانية المقارنة والدراسات اليهودية بيتر فينفيس الذي قدم آخر ترجمة لمقالة بنيامين من الألمانية إلى الإنكليزية في عام 2021، فإن بنيامين يتبع بنية أطروحة كانط 1797-1798 بشأن الأخلاق والقانون “ميتافيزيقا الأخلاق”، والتي يناقشها في قسمين مختلفين: القانون والفضيلة. إن الفضيلة، التي تماثل العدالة في فكر بنيامين، لا تساهم بأي شيء في القانون. كما أن القانون لا يعني أي شيء للفضيلة. الفرق بين كانط وبنيامين في هذه المسألة هو أنه، بالنسبة إلى كانط، لا توجد علاقة بين القانون والفضيلة. أما عند بنيامين، فهناك علاقة سلبية بين القانون والعدالة، فحيث يوجد القانون لا توجد عدالة، وحيثما توجد عدالة لا يوجد قانون.

ثانيًا: أنواع العنف

يميز بنيامين بين ثلاثة أنواع من العنف: العنف الأسطوري، العنف الإلهي، والعنف القانوني. العنف الأسطوري هو العنف الذي يؤسس قانون جديد ويحافظ عليه، حيث يسعى العنف الأسطوري لوضع حدود للجماعات والحفاظ عليها. ولأن الحدود في الأسطورة غير مكتوبة، فإن انتهاكها يُعدّ خطيئة وليس جريمة، ومرتكب الخطيئة يحتاج إلى التكفير عنها وليس العقاب من أجلها. ولأن العنف الأسطوري يحمل في طياته الذنب والتكفير معًا، فهو عنف دموي. فالدموية ترمز إلى الحياة، والعنف الأسطوري لا يسعى في النهاية لتدمير الحياة نهائيًا.

أما العنف الإلهي فهو العنف الذي يسعى لتدمير كل ما هو قائم، وذلك لأنه عنف طاهر ونقي ويسعى للتطهير من الخطيئة وآثارها وليس مجرد التكفير عنها. ولذلك فهو عنف قاتل وفوضوي. والعنف الإلهي لا يسعى لتأسيس قانون جديد، بل لتدمير ما هو سائد. والعنف الإلهي يشبه في مضمونه أحد أنواع الإضرابات وهو الإضراب البروليتاري، وهذا ما سنتناوله عند الحديث عن تصنيف الإضرابات. وما يهمنا الآن هو العنف القانوني، الذي يندرج تحته الإضراب عمومًا كوسيلة عنفية.

العنف القانوني هو عنف إنساني يجب فهمه في سياق علاقته بالقانون. يبحث بنيامين بدايةً في التمييز السائد بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي. وإن أصحاب نظرية القانون الطبيعي لا يرون مشكلة في ممارسة العنف لتحقيق غايات طبيعية، باستثناء الحالات التي يمارس فيها العنف لتحقيق غايات غير عادلة. ومن ثم فإن القانون الطبيعي يميز بين العنف على أساس الغاية، كما يضع حدًا بين الغايات العادلة وغير العادلة، وهذا ما يؤدي إلى التمييز التقليدي بين العنف المشروع وغير المشروع. أما أصحاب نظرية القانون الوضعي فيرون أن العنف وسيلة اتُّفِق على ممارسته ضمن ظروف تاريخية معينة، بغض النظر عما إذا كانت الأهداف التي يستهدفها العنف عادلة أم لا. ومن ثم، فإن القانون الطبيعي يقيم العنف على أساس الغايات، بينما القانون الوضعي يقيم العنف على أساس الوسائل. وبما أن بنيامين مهتم بالعنف كوسيلة وليس كغاية، فإنه يستبعد مبدئيًا نظرية الحق الطبيعي كأساس للتصنيف.

تشكل نظرية القانون الوضعي محور اهتمام بنيامين، لأنها تهتم بأشكال العنف على نحو مستقل عن الأهداف أو الغايات النهائية التي تسعى لتحقيقها، من ناحية، ولأنها تميز العنف المعترف به تاريخيًا عن العنف غير المعترف به تاريخيًا. إن تحديد الأصل التاريخي لأي شكل من أشكال العنف يتطلب تقديم الأدلة التي بررت مشروعية هذا العنف أو ذاك، وتحديد الشروط التي اتُّفِق بموجبها على إقراره. ولأن الاعتراف بقوة أي قانون يجب أن يتم من خلال الخضوع للأهداف التي تسعى لها تلك القوة وعدم الاعتراض عليها، فإن هذا يعني أن المبدأ المعتمد للتمييز بين أنواع العنف يجب أن يرتكز على توافر الاعتراف التاريخي أو عدمه للأهداف نفسها التي تستهدفها تلك الأنواع من العنف، إضافة إلى تاريخ التوافق حول استخدام العنف كوسيلة. وهكذا نرى أن بنيامين على الرغم من إنكاره لنظرية القانون الطبيعي، إلا أنه لم يستبعدها تمامًا، حيث جمعها مع نظرية القانون الوضعي عندما أسس تصنيفًا ثانويًا في مجال الغايات ميّـز فيه بين الغايات الطبيعية التي لا تحظى بذلك الاعتراف التاريخي والغايات الشرعية التي اتُّفِق على ممارستها تاريخيًا. والأهداف الشرعية هي في الأساس أهداف طبيعية قيدتها السلطة القانونية بعد أن أصبحت أهدافًا مشروعة بالإجماع ضمن ظروف تاريخية معينة، ومن ثم أسندت مهمة استخدام العنف كوسيلة إلى السلطة القانونية وحدها لتحقيق هذه الأهداف الشرعية. ويميز بنيامين بين نوعين من العنف في ما يتعلق بالقانون:

1- العنف المؤسس للقانون: يقع على الغايات الطبيعية، والقانون هنا يعني التشريع الذي ينشئ وضعًا قانونيًا جديدًا، وذلك من خلال قوننة الغايات الطبيعية بالعنف وتحويلها إلى غايات قانونية. مثال على ذلك هو عنف الحرب، فعندما تسعى دولة ما لاستخدام العنف كوسيلة للاستيلاء على أراضي دولة أخرى وضمها إلى أراضيها، فإنها تخلق وضعًا قانونيًا جديدًا يقوم على غاية طبيعية تتعارض مع وضع قانوني اتُّفِق عليه سابقًا.

2- العنف المحافظ على القانون: يهدف إلى الحفاظ على التشريعات التي جرى التوصل فيها إلى اتفاق تاريخي، لذا فإن مجال العنف المحافظ على القانون هو الغايات الشرعية. فإذا كانت الدولة، في المثال السابق، تستخدم العنف كوسيلة للدفاع عن أراضيها، فإن العنف هنا يكون من أجل الحفاظ على الوضع القانوني الذي اتُّفِق عليه سابقًا، ونطاقه هو الغايات الشرعية.

ثالثًا: العلاقة بين الإضراب والعنف

يقدم بنيامين تفسيرين مختلفين للإضراب بوصفه وسيلة عنفية في سياق علاقته بالقانون. التفسير الأول: إن القانون يترك المجال، في حالات استثنائية جدًا، للأفراد والمنظمات لممارسة درجة معينة من العنف كوسيلة، كما هو الحال مع حق الدفاع عن النفس أو الإضراب. ومن ثم فإن الهيئات النقابية التي تنظم العمال تشكل الكيان القانوني الوحيد الذي ينافس الدولة في استخدام العنف كوسيلة من خلال حق الإضراب. لكن تصور الدولة لحق العمال في الإضراب يتناقض مع تصور العمال أنفسهم لهذا الحق. إذ تسمح الدولة للعمال بالإضراب كوسيلة للحد من العنف الذي قد يمارسه صاحب العمل مباشرةً ضد العمال، ومن ثم فهو يشبه إلى حد ما حق الأفراد في استخدام العنف كوسيلة للدفاع عن النفس، أي أن الإضراب في تصور الدولة هو شكل من أشكال ردة الفعل. إلا أن تصور العمال لحق الإضراب على أنه وسيلة لإجبار صاحب العمل على قبول اتفاقيات جديدة. ولذلك فإن الإضراب هنا يأخذ شكل المقايضة ومن ثم يتضمن على نحو مباشر عنصر العنف، أي أن الإضراب في تصور العمال هو حق المبادرة إلى الفعل وليس مجرد ردة الفعل.

وهذا الصراع بين تصور الدولة وتصور العمال يصبح أكثر وضوحًا عندما تتعارض مصالح الطرفين. حينها يأخذ الإضراب منحىً ثوريًا، ويصبح موجهًا ضد الدولة نفسها وليس ضد صاحب العمل، ويستهدف القطاعات كافة، فيتشبث العمال بإيمانهم بأن التوقف عن العمل في مختلف المجالات هو حق. أما الدولة فستعدّ ذلك تعديًا ومخالفة لما اتُّفِق عليه بشأن ممارسة هذا الحق. وقد تعدّ الدولة أن الإضراب العام الذي يشمل الشركات والمؤسسات كافة يتجاوز نطاق المشروعية، بحجة أن مبررات الإضراب، كما حددها المشرع، لا تشمل جميع هذه المؤسسات بالطريقة نفسها. وهذا يعني أنه عندما تسمح الدولة بالإضراب في البداية، فإنها تعترف ضمنيًا بالعنف وتعطي العمال حق اللجوء إليه. وبما أن الإضراب، بالنسبة إلى العمال، يهدف إلى خلق علاقات جديدة، فهذا يعني أننا أمام عنف مؤسس لقانون وليس عنف محافظ على قانون سابق. ولذلك فإن الأهداف التي يستهدفها الإضراب هي غايات طبيعية وليست غايات شرعية، وهذا ما تعرفه الدولة وتغض الطرف عنه. ولكن عندما يتعلق الأمر بوضع حرج مثل الإضراب الثوري العام، فإنها تعبر عن رفضها القاطع لتلك الأهداف. وستستخدم الدولة قدراتها القانونية ليس فقط في مواجهة عنف مؤسس لقانون جديد بل أيضًا من أجل الحفاظ على نفسها وحقها ككيان قانوني وحيد يحتكر ممارسة العنف العام.

التفسير الثاني للعلاقة بين الإضراب والقانون: إن نظام الحقوق والقوانين يجيز ممارسة حق الإضراب بهدف الحد من الأعمال الأكثر عنفًا التي تخشى الدولة ممارستها، كما كان الحال حينما كان العمال يلجؤون مباشرةً إلى تدمير وحرق المصانع. ومن ثم، من أجل تحقيق بعض التوافق السلمي بين مصالح الناس من دون حدوث صدامات عنيفة تكون لها آثار سلبية كبيرة. ولذلك فإن الإضراب يشكل أقل الوسائل عنفًا لتحقيق أهداف العمال وأصحاب العمل معًا وفقًا لرؤية الدولة، وذلك بعد تقنين الغايات الطبيعية وتحويلها إلى غايات قانونية من خلال تحديد الحالات التي يجوز فيها الإضراب وشكله. وهذا هو الحال بالنسبة إلى الإضراب الموجه ضد صاحب العمل، أما إذا كان الإضراب موجهًا ضد الدولة نفسها فهو، بحسب بنيامين، إضراب يدخل مجال الصراع الطبقي، وليس عنفًا، بل وسيلة محضة تشبه العنف الإلهي في نقائها وآثارها المدمرة لكل ما هو سائد.

رابعًا: أنواع الإضراب

يعتمد بنيامين في تصنيفه للإضراب وعلاقته بالعنف على تصنيف جورج سوريل الذي يميز بين نوعين من الإضراب: الإضراب السياسي العام، والإضراب البروليتاري العام. ويضيف بنيامين نوعًا ثالثًا، وهو الإضراب القطاعي.

1- الإضراب السياسي العام: وهو الإضراب الذي لا يسعى لإحداث تغييرات جذرية، بل يسعى لتعزيز جهاز الدولة وإقامة سلطة مركزية قوية منضبطة. ولذلك فإن هذا الإضراب لا يفقد الدولة شيئًا من سلطتها ولا يمنع توارث الامتيازات بين السياسيين المتعاقبين في السلطة، الامر الذي يؤدي في النهاية إلى استمرار استغلال العمال واستعبادهم. أي أن هذا الإضراب ينتهي باستبدال النخب الحاكمة. يمثل الإضراب السياسي نوعًا من العنف، إذ يؤدي إلى تغيير خارجي في ظروف العمل. وهو شكل من أشكال تداول السلطة داخل الطبقة الاجتماعية ذاتها بطريقة غير سلمية. ومن الأمثلة على هذا الإضراب الثورة الألمانية عام 1919، وهو يشبه إلى حد ما الانقلابات العسكرية التي شهدتها سورية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

2- الإضراب البروليتاري العام: هو إضراب ثوري لا يسعى للتغيير، بل للتدمير وتحقيق هدف واحد وهو القضاء على عنف الدولة والتخلص من جميع النتائج الأيديولوجية الناتجة من كل سياسة اجتماعية ممكنة. ويعدّ أنصار هذا الإضراب أن الإصلاحات، مهما كان شكلها، ذات طابع برجوازي ووظيفتها بالدرجة الأولى هي الحفاظ على امتيازات الطبقة المهيمنة. والإضراب البروليتاري العام، بالنسبة إلى بنيامين، ليس وسيلة عنفية، بل هو وسيلة خالصة لأنه لا يهدف إلى استئناف العمل بعد انتزاع بعض المكاسب وتغيير أحوال العمل، بل يهدف بالأساس إلى تغيير طبيعة العمل نفسه وتحريره من القيود التي تفرضها الدولة. ولذلك فإنه يتخذ طابعًا فوضويًا يسعى للتدمير، وهذا ما يجعله قريبًا من العنف الإلهي.

3- الإضراب القطاعي: هو إضراب يستخدم العنف كوسيلة، لكنه لا يمثل إلا نوعًا من الابتزاز. وإضافة إلى ذلك، فهو يعطي الدولة ذريعة لمواجهة الإضراب البروليتاري، وذلك حينما تخلط الدولة عمدًا بين الإضراب البروليتاري والإضرابات القطاعية من خلال النظر فقط إلى عواقب الإضراب العام. مثل هذا الإضراب القطاعي هو إضراب الأطباء الذي شمل عديدًا من المدن الألمانية عام 1919. ويصف بنيامين هذا الإضراب بأنه غير أخلاقي لأن نتائجه كانت مشابهة لنتائج الحصار.

خامسًا: إشكاليات التصنيف عند بنيامين

لا يبدو أن تصنيف بنيامين بين العنف المؤسس للقانون والعنف المحافظ على القانون له حدود واضحة. ويتشابك الأمر بين نوعي العنف، عندما يستخدم العنف في البداية كوسيلة لتحقيق غايات شرعية، لكنه ينتهي بتحقيق غايات طبيعية. ومع أن بنيامين استبعد النظر في الآثار الناجمة عن استخدام العنف كوسيلة، إلا أنه لم يستبعد الغايات أو النتائج تمامًا من تصنيفه، حتى ولو أنكر نظرية القانون الطبيعي في مقدمة مقالته. فعلى سبيل المثال نرى أن بنيامين يميز بين الإضراب القطاعي والإضراب البروليتاري اعتمادًا على النتائج التي تنجم عن كلٍّ منهما.

ويظهر هذا التداخل بين العنف المؤسس للقانون والعنف المحافظ على القانون في مسألة قانون الخدمة العسكرية الإلزامية، الذي يمنح الدولة الحق في استخدام العنف ضد الأفراد وإجبارهم على أداء الخدمة الإلزامية. والعنف الذي تستخدمه الدولة في هذه الحالة هو العنف الذي يحفظ حقوق الدولة من أجل تحقيق أهدافها المشروعة. وأساس هذه الأهداف المشروعة هو أن تحشد الدولة جيوشها من أجل الحفاظ على أراضيها، وهو حق إيجابي للدولة مُتّفَق عليه تاريخيًا. لكن الأمر يختلف إذا قررت الدولة تعبئة جيوشها لأغراض طبيعية، كاقتطاع أراضي دولة أخرى، لتأسيس وضع قانوني جديد. وهذه المسألة تشبه ما فعلته روسيا قبل غزوها لأوكرانيا مطلع عام 2022. فعندما جندت روسيا مواطنيها المطلوبين للخدمة العسكرية قبل عام 2022، استخدمت العنف لإجبار المكلفين بالخدمة العسكرية كوسيلة للحفاظ على قانون متفق عليه تاريخيًا. فالدولة هنا استخدمت العنف لهدف شرعي وهو حق الدولة في الدفاع عن أراضيها وحماية حدودها. لكن عندما قررت السلطات في روسيا استخدام العنف العسكري من أجل التوسع على حساب الأراضي الأوكرانية، فإننا هنا أمام العنف الذي يستخدم كوسيلة لتحقيق أهداف طبيعية وإقامة قانون جديد وحدود جديدة. المشكلة هنا أننا أمام عنف بدأ لأهداف شرعية عندما أجبرت الدولة الأفراد على أداء الخدمة الإلزامية، لكنه انتهى مع سعي الدولة لتحقيق أهداف طبيعية وخلق أوضاع قانونية جديدة.

ويبدو أن التمييز هنا لا يزال واضحًا إذا نظرنا إلى النتائج التي يهدف العنف إلى تحقيقها في مراحله المختلفة. لكن الأمر يصبح أكثر إشكالية عندما يُخلَط بين العنف كغاية والعنف كوسيلة في الفعل نفسه. وهذه مشكلة يعترف بها بنيامين نفسه عندما يشير إلى العنف البوليسي الذي تمارسه المؤسسة الأمنية البوليسية كأحد مؤسسات الدولة الحديثة نتيجة غياب الفصل التام بين العنف المؤسس للقانون والعنف المحافظ على القانون. إذ يمكن أن تمارس المؤسسة الأمنية العنف لتحقيق أهداف شرعية، لكنها في الوقت نفسه يمكنها توسيع نطاق الأهداف التي تسعى لتحقيقها فيصبح العنف وسيلة لتحقيق أهدافها الطبيعية، مثل ارتكاب الانتهاكات التعسفية، ضد الأشخاص الأكثر وعيًا والذين تعجز الدولة عن مواجهتهم بالقوانين النافذة.

ولأن العنف القانوني مطلوب منه أن يكشف عن نفسه بحسب طبيعته، ويجب أن يتخذ كوسيلة لتحقيق أهدافه المحددة سلفًا وعدم تجاوز هذه الأهداف، فهذا يعني أن عنف المؤسسة الأمنية ينتهك هذين الشرطين. فهي لا تسعى لتأسيس قوانين جديدة، بل تسعى لتنفيذ أوضاع جديدة ورفعها إلى مرتبة القانون الشرعي، ومن ثم الحفاظ على هذه الحالات التي لا ترقى إلى مرتبة القانون والتي لم يصدر بشأنها أي قانون. ولتوضيح ذلك أكثر يمكن أن نشير إلى العنف البوليسي الذي تمارسه المؤسسة البوليسية في الأنظمة الدكتاتورية. إذ يهدف هذا النوع من العنف إلى قمع المواطنين، لكنه ليس قانونًا ولا يمكن رفعه إلى مرتبة القانون، ومع تكرار استخدام هذا النوع من العنف، يخلق الشعور لدى عامة الناس بأن هناك إجماعًا تاريخيًا على استخدامه. إن عنف المؤسسة البوليسية مهم جدًا للدولة في مواجهة الإضراب البروليتاري العام عندما تخلط الدولة بين الإضراب البروليتاري والإضراب القطاعي.

أما الإشكالية الأهم لتصنيف الإضراب على أنه عنف فهي مسألة تصنيف الإضراب العام بوصفه وسيلة محضة، إذ ينتقد الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في أطروحته “التفكيك وإمكانية العدالة” تصنيف بنيامين الإضراب الثوري العام على أنه عنف مدمر للقانون. فمن حيث المبدأ، الإضراب يعني وقف النشاط، أي التوقف عن القيام بشيء ما. وهنا لا نستطيع أن نتحدث عن العنف، لأن العنف فعل. كما أن الدولة لا تتنازل عن حقها في احتكار ممارسة العنف وتتقاسمه مع العمال، لأنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا حيال الإضراب بوصفه عدم فعل. ومن ناحية أخرى فإن رؤية بنيامين لاستمرار الإضراب وتحوله إلى حالة ثورية عامة تخلق قانونًا جديدًا متناقضًا لأن هذه الرؤية تساوي بين القانون والعنف. الإضراب حق قانوني، لكنه في الوقت نفسه يهدد بتدمير القانون الذي يمنحه هذا الحق. نحن هنا إذًا أمام عنف يُمارس في إطار القانون، هدفه هدم القانون الذي ينتمي إليه من أجل خلق قانون جديد، وهذا ما سيقودنا إلى دائرة لا نهاية لها من العنف والقانون.

كاتب سوري، درس الحقوق في جامعة دمشق، بكالوريوس "دراسات شرق أوسطية" من جامعة أمستردام، طالب ماجستير "دراسات يهودية" في جامعة أمستردام. عمل محررًا في مجلة زمزم بين عامي 2018-2020 (مجلة أكاديمية باللغة الهولندية تصدر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أمستردام). منذ عام 2020 يعمل مستشار تواصل في مركز أمن المعلومات وحماية الخصوصية في هولندا. في عام 2021 صدرت له رواية بعنوان "رصاصة أخيرة" عن دار نون للنشر في تركيا.

مشاركة: