درست السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية في مدرسة يوسف العظمة الكائنة في ساحة الأشمر في حي الميدان بدمشق. وطُبعت في ذاكرتي تلك الصورة الشهيرة ليوسف العظمة حاملًا سيفه، كانت موجودة على حائط المدرسة لحظة دخولنا من بابها. ولاحقًا عندما انتقلت إلى مدرسة أخرى في حي جوبر الدمشقي، أذكر أنني وضعت تلك الصورة على كتبي ودفاتري كلها عندما كنت أغلِّفها بالورق والنايلون، ربما يكون هذا فعلًا تعويضيًا بحكم تعلقي بمدرستي القديمة، ومحبتي لها ولأساتذتي فيها. بالطبع، لم أكن أعرف سوى معلومات بسيطة عن يوسف العظمة وميسلون في ذلك الوقت.
في أواخر دراستي الجامعية، قرأت كل ما كتبه المسرحي السوري سعد الله ونوس، ومن ثمّ ألَّفت عنه كتابًا يغطي مسرحه منذ بداياته إلى أن توفي في الخامس عشر من أيار/ مايو عام 1995، وتوقفت كثيرًا عند مسألة مهمة ولافتة؛ استمر سعدالله ونوس يكتب على الرغم من معرفته بإصابته بالسرطان واقتراب أجله، بل إنه كتب أفضل أعماله وأكثرها شفافية وإنسانية خلال سنوات انتظاره الموت.
سؤال الجدوى هذا، جدوى الثقافة وجدوى العمل العام، في ظل الخراب من حولنا، توقف عنده أيضًا المفكر والسياسي السوري ياسين الحافظ، عندما قال في كتابه (الهزيمة والأيديولوجية المهزومة): “الثوري/ السياسي الحق لا يتساءل كثيرًا هل سيثمر نضاله أم لا. إنه يعرف أن عمله سيمكث في الأرض، إنه يبذر كل يوم ولكل ريح، والأرض لا بدّ معطاء. الثوري/ السياسي الحق يناضل فحسب، يخدم فحسب: هذا هو قدره ومعنى حياته. ما دام التقدم سيرورة تاريخية وعملية تراكم، لذا لا يفتش عن حصيلة قريبة ومباشرة، رغم حرصه عليها واهتمامه بها. يكفيه أنه عمل ويعمل في الطريق الصحيح. لا يخاف الغد. يتوخى النجاح، ولكنه لا يخشى الفشل، لأن ليس ثمة فشل مطلق على المدى البعيد. سيحزنه الفشل، إذا حدث، فقط لأنه مؤشر على أنه لم يستطع أن يخدم بكيفية مناسبة وفعالة… إلخ”.
نعم، ستكون هناك دائمًا مشكلات وهزّات، ولحظات دقيقة وخطرة في الحياة، وخراب وفشل وموت، لكن حسب المرء، بحسب تعبير ياسين الحافظ، أنه يسير في اتجاه قويم. نعلم أن الواقع قاسٍ، وأن العمل الثقافي لا يثمر فورًا، وربما لن يكون له تأثير إلا في المدى البعيد، لكنه -مع ذلك- ضروري وحيوي، وتحتاج إليه سورية والمنطقة العربية، الآن وغدًا، وفي كل وقت. ونعلم، ونتوقّع، أيضًا، أنَّ عقباتٍ ومشكلاتٍ عدة ستقف عائقًا في الطريق، وأن حلّها لن يكون إلا بالمثابرة والاجتهاد والصبر والإيمان بالبشر والمستقبل، ما دمنا أقرب إلى السير طريق صحيحة.
نعم، يمكن أن يستمرّ البشر في العطاء، على الرغم من الموت الذي يحوط بهم من كل جانب، ويمكنهم أن يدفَعوا الموت عن أنفسهم، ويمكن للعين أن تقاوم المخرز. هذا ليس كلامًا إنشائيًا بل حقيقة لها تجسيدات كثيرة في التاريخ، فقد فعلها المتظاهرون السوريون في 2011 و2012، عندما كانوا يصرّون على التظاهر على الرغم من توقّعهم الموت في أي لحظة، تمامًا كما فعل يوسف العظمة الذي أبت نفسه إلا أن يقاوم، على الرغم من معرفته بالاحتمال الكبير لاستشهاده.
ما أحوجنا اليوم إلى روح ميسلون؛ روح العظمة وونوس والمتظاهرين الأوائل، وحسبنا أن نحاول، ونحاول، ونحاول، ويكفينا شرف المحاولة، سواء أثمر عملنا في حياتنا أو أثمر في زمن لا نكون فيه. هكذا أخبرنا أيضًا الشاعر عمر أبو ريشة عندما توقف عند معاني ميسلون؛ شرفُ الوثبة أن ترضي العُلى غُلِبَ الواثبُ أم لم يُغْلَبِ.