إن سؤال عنترة عن تطوير الشعر “هل غادر الشعراء من مترَدَّمِ” والانعتاق من رِبْقَة السنن القديمة، يمكن تطبيقه على أدب السجون مع تعديل طفيف لكنه جوهري يخص موضوع التطوير: إذ لا يخضع أدب السجون إلى سنن في الكتابة محددة وملزمة، تحصر مجال التحرك وشروط الانتماء إليه.
ونحن نجازف في القول إن تحديد الضوابط حبسٌ لهذا الأدب عن التطور وعن تحقيق أهدافه، ويمثّل سجونًا لأدب يفترض أنه يُبتَدَع لتفكيك منظومة السجن والقمع وانتهاك الحريات.
لكن ما السجن المقصود هنا؟ وكيف حاط بالأدب الذي يكشف السجن ويفضحه؟ وهل يمكن لما كان وسيلة لفضح السجن وتعريته أن يكون أسيرًا وعالقًا داخل سجن؟
هي مفارقة واضحة بلا شك، نحاول تفكيكها والوقوف على معالمها من خلال تتبع أدب السجون في تونس.
لكن قبل خوض غمار البحث لا بد من مدخل يعدّ بمنزلة مقدمة أو تمهيد.
ما يشبه التمهيد
في هذا الذي قلنا إنه أشبه بالتمهيد نطرح سؤالًا إشكاليًا يسعفنا طرحه في فهم اعتبارنا هذه المقدمة شبه تمهيد، ذلك أنها تتعلق بأمر ذاتي يجعلنا نسأل: هل يسعفنا انضباطنا الأكاديمي حتى لا ننحرف نحو الذاتي ونغلبه على الموضوعي ونحن نضع أدب السجون تحت مجهر النقد والقراءة والبحث؟
سؤال نطرحه لاعتبارات موضوعية أساسًا، بحكم أننا كنا السباقين في التأسيس لهذا الأدب على مستوى الرواية باللغة العربية في تونس، فالدارس لأدب السجون التونسي يمر حتمًا عبر بوابتين، هما بوابة النص الفرنسي للسجين السياسي اليساري جلبار النقاش، التي صدرت أوائل الثمانينيات من القرن الماضي بعنوان “كريستال” فكان النقاش المؤسس الفرنسي لهذا الجنس الأدبي.
أما بوابة النص العربي فكانت روايتنا “البرزح” التي بوأتنا موقع المؤسس العربي لأدب السجون في تونس، وهي تنقل معاناة المساجين السياسيين في تسعينيات القرن الماضي، زمن الرئيس الذي خلعته الثورة زين العابدين بن علي.
وجب أن نقرّ بأن الأمر لن يكون سهلًا ولا هينًا، ولكن سنبذل جهدنا في ذلك معتذرين عن كل تقصير نجزم منذ الآن أنه لن يكون بقصد غير علمي.
إن ما يزيد من صعوبة هذه المهمة غياب الدراسات الأكاديمية عن هذا الموضوع في تونس، على الرغم من السيولة غير المنضبطة التي شهدها التأليف في قضايا السجن. فباستثناء كتابَين تختلف درجة انتسابهما إلى البحث الأكاديمي، لا توجد غير بعض المقالات المتناثرة هنا وهناك في مواقع إعلامية مختلفة يغلب عليها تقديم الروايات الصادرة، وهي أبعد ما تكون عن البحث العلمي الأكاديمي الذي قد يُعتمد في مثل هذه البحوث.
وهذه النقطة بالتحديد تثير أمامنا إشكال معرفة الأسباب التي غيّبت الاهتمام الأكاديمي بهذا النوع من الأدب، على الرغم من السيولة التي ذكرنا في التأليف.
ولعل القارئ يلاحظ أننا استعملنا لفظ التغييب وليس الغياب، ما يعني أننا إزاء فعل قصدي وليس إزاء فعل موضوعي، ونجازف في قول إن أدب السجون في تونس لم يغادر السجن بعد، فماذا نقصد بالسجن الذي يقبع داخله هذا الأدب الذي رام التحرر من السجن؟
سجن أدب السجون
من السهل أن يدرك القارئ أننا لا نقصد بالسجن سجن السلطة بما هو معتاد من كل سلطة خاصة في العالم العربي من منع النشر والتداول، فهذا أمرٌ تجاوزه التونسيون بفعل الثورة، فما الذي نقصده بالسجن؟
نقصد بالسجن سجن المصطلح وسجن الأيديولوجيا وسجن الوفرة، أي ثلاثة أنواع من السجن حوصر داخلها أدب السجون في تونس، فلم ينعتق بعد من أغلاله، ولم يحقق غايته القصوى من انبعاثه بحسب رأينا، ولم يؤسس بعد النقلة النوعية في المدونة الأدبية التونسية مثلما هو متوقع، على الرغم من الحفر العميق الذي أحدثه ضمن مسار التأسيس هذا.
سنحاول بحث هذه الأنواع الثلاثة لنرى درجة تأثير كل واحد منها على هذا الجنس الأدبي.
سجن الأيديولوجيا
ما الذي يدفعنا إلى عدّ أدب السجون التونسي سجينًا للأيديولوجيا؟ وهل هي خاصية تونسية أم عربية عامة؟ وماذا نقصد بهذا النوع من السجن؟ هل يتعلق بمضمون النص الأدبي أم أشياء أخرى؟
في البدء نشير إلى أننا لن نبحث الأيديولوجيا في النص الأدبي، لأنه موضوع نقد وتأويل، وفي النقد والتأويل يمكن أن يكشف الناقد هذا الجانب من عدمه، وهو أمر يحتاج بحثًا مستقلًا؛ لذلك نبحث في الأيديولوجيا في نواحٍ أخرى غير المضمون الأدبي.
ونحن في هذا الاتجاه ننطلق من واقع أن الصراع الأيديولوجي في تونس بين اليسار والإسلاميين ما زال يرفض أن يكف عن التمدد والتوسع والانتشار، ولعله في نظرنا أحد أهم أسباب توقف مسار الثورة في البلد في الآونة الأخيرة.
وهذه إشارة عامة نبدأ بها حديثنا عن سجن الأيديولوجيا الذي يحاصر أدب السجون بما أن هذا الأدب في تونس شهد مرحلتين مختلفتين تاريخيًا: المرحلة الأولى مع بداية الاستقلال وظهور صراع اليسار مع نظام الحبيب بورقيبة، وما آل إليه من سجن وتعذيب ونفي؛ وهي مرحلة على الرغم من قصر مدتها كانت عاملًا مهمًا لليسار للهيمنة على المشهد الثقافي في البلد، لكنها هيمنة اقتصرت على الأعمال الدرامية والسينمائية والأغاني والإنتاج الإعلامي والفكري من دون أن يكون موضوع السجن أحد اهتماماتها المركزية، ومن دون أن تظهر روايات أو أعمال قصصية تؤسس لأدب السجون، عدا ما أشرنا إليه من رواية جلبار النقاش.
لكن هذه الهيمنة رسخت قناعةً لدى اليسار والنخبة عمومًا بأن الثقافة يسارية أو لا تكون. ولم تبرز هذه القناعة للعلن إلا بعد ظهور الإسلاميين على ساحة المنافسة مع اليسار، واحتدمت بعد ظهور أعمال أدبية روائية وقصصية وشعرية لكتاب إسلاميين.
شكل هذا منعرجًا في المشهد الأدبي التونسي، وبدلًا من أن تفتح ورشات التفكير والمؤتمرات المتخصصة في النقد الأدبي من أجل تجسير الهوة بين المنجز الأدبي التقليدي السائد، وهذا الوافد الجديد بدلًا من ذلك غاب هذا الجهد أكاديميًا، وفي البحوث العلمية المتخصصة، ودليلنا على ذلك وجود كتابين فقط منذ الثورة إلى الآن متخصصين في نقد هذه الأعمال وتتبعها.
لا توجد بحسب مبلغ علمنا أطاريح علمية متخصصة ناقشت هذا الجنس الأدبي، ولا مقالات محكّمة، ولا دراسات ذات قيمة علمية مرجعية؛ ولعل اللافت للانتباه في الموضوع أن اليسار نفسه على الرغم من هيمنته على المشهد مارس ما نسميه عملية “إخصاء” ذاتي على منجزه الأدبي، فحال دون دخول ما أنتجه كتاب يساريون إلى مجالات البحث الأكاديمي، واكتفى بالاحتفاء به في وسائل الإعلام في ما نسميه بالاحتفاء الفلوكلوري التجاري الذي عادةً ما يكون بدافعٍ من الناشر لأغراض ربحية، أو بدافع العلاقات الخاصة بين الكاتب والمحتفين، ومن البديهي أن يكون موقف اليسار أشد “راديكالية” إزاء ما أنتجه الإسلاميون.
هل يعني ذلك أن الإسلاميين أبرياء من وزر سجن أدب السجون في الأيديولوجيا؟
بلا شك لا يمكن تبرئتهم من هذا الدور بشكل كلي، ففي حده الأدنى هم مسؤولون عن التقصير في الدفع بهذا المنجز الجديد الذي تفوقوا فيه كميًا بعد الثورة نحو البعد الوطني الجامع، فعلى الرغم من أنهم لم يكونوا أصحاب القرار الثقافي في البلد فإن السانحة التي أتتهم لم تخرج من دائرة المنجز الجمعي الخاص بهم تعريفًا واحتفاءً، ونادرًا ما يلحقون به أثرًا من منجز اليسار. فعشر سنوات من الثورة والمشاركة في الحكم لم تطرح مبادرةً وطنيةً لبحث سبل التعامل مع هذا الأدب واستخلاص النتائج منه.
لقد كان الساسة الجدد الذين تحدث عن تجربتهم متن أدب السجون غافلين عن القيمة الفنية والسياسية والإستراتيجية لهذا النوع الجديد من النص، لذلك مرّ من تحت أيديولوجيتهم الفقيرة الاستثمار في هذا المنجز وظل النص حبيس هذا الفقر.
وكانت أيديولوجيا التنافي والتي لا تزال قائمةً بين الفريقين من أكبر العوائق أمام تطوير أدب السجون في تونس.
سجن المصطلح
يدور جدل كبير في تونس عن الوسم الذي يوسم به هذا النوع الجديد من الأدب، وفي الواقع هو جدل عربي وليس تونسيًا فقط، ولسنا هنا في وارد استعراض معالم هذا الجدل، لكننا نشير أولًا إلى أنه أُسس بناء على علاقة هذا الأدب بالسجن، فكان السؤال: هل نسمح لما كُتب داخل السجن فقط بالانتساب إلى هذا النوع، أم يمكن أن نصنف ضمنه كل عمل أدبي تخييلي تحدث عن السجن؟ وماذا عن دور هذا المنجز بعد نهاية السجن؟ وقد طُرِحَ هذا السؤال كثيرًا في تونس، بناء على “إفراط في التفاؤل” بعد الثورة، رأى أن السجن وقضاياه التي ناقشها هذا النص انتهت وولت.
سنبحث أثر المصطلح في انتشار هذا الأدب وفي التأثير في مستوى التفاعل معه، وفي الواقع لا نملك أرقامًا وإحصاءات على مستوى الإقبال على مثل هذا النوع من الكتب، لكن الثابت أنه لاقى إقبالًا كبيرًا من الناس، ومن فاعلين كثر؛ يشهد على ذلك مستوى المبيعات وطلبات الناشرين لإعادة الطبع. ..إلخ. ويكفي هذا الأدب شرفًا أنه أعاد نكهة القراءة للتونسي، لكن يبدو أن الإضافة التي تلحق به بوصفه أدب سجون أعاقت تأثيره المباشر، فالذين يرونه أدبًا خاصًا بالسجن حكموا بنهايته وموته، إذ يرون أنه ما لم يكن هناك سجن وتعذيب فلا معنى للكتابة في هذا المجال، وحتى الذين يرون أنه يمكن لمن قدم عملًا تخييليًا عن السجن من دون خوض التجربة أن يصنف ضمن أدب السجن. ينتهي هؤلاء من حيث لا يريدون إلى قتل هذا النوع من الأدب، فمادام السجن قد غاب عن الذاكرة الجمعية في الواقع فلا معنى لتخيله.
وما نعيبه على هذين التوجهين النظر إلى هذا الأدب نظرةً ما قبليةً ماضويةً، أي مستمدة مما وقع وانقضى، متجاهلةً أن في متن هذه النصوص مثلما هو الشأن في متون الأدب الراقي كلها، تجاوزًا للحظة انقداح النص وفيه استشراف لما يأتي.
وقد كان للكاتبة منية قارة بيبان وعي مبطن بهذه الإشكالية، وهي التي اختارت وسم كتابها برواية القمع في تونس، إذ أشارت إلى أن هذه الكتابات الروائية أثبتت “بانفلاتها من مفهوم القيد وتعدد صيغ الخطاب قدرتها على مواجهة ضروب الاستبداد والقهر والتمرد على المواضعات بصيغ مباشرة أحيانًا، ومتلفعة بحيل السرد والمكر الروائي أحيانًأ أخرى، فشفّت عن وعي قائم ومتخيل قادر على تجاوز محاكاة الواقع إلى هدمه والاحتجاج عليه، وبناء عالم تخييلي يتوق إلى البدائل ويطرح أسئلة قد تربك القارئ.”
لكن يُطرح الإشكال هنا عن مدى علاقة هذا الاستنتاج بأدب السجون، لأن الكاتبة اختارت نماذج من نصوص تناولت القمع في مظاهره المطلقة، كالقمع السياسي والاجتماعي والأسري، وقمع السلطة، وكانت رواية برج الرومي أبواب الموت هي النص الوحيد ضمن الأعمال المدروسة في الكتاب، والتي كتبت داخل السجن وتناولت قضاياه.
هل أخطانا التحليل حين وصفنا كتاب قارة بيبان بحثًا في أدب السجون؟ هذا وجه ممكن، لكن الأمر دال على هذا التخبط الاصطلاحي: السجن الذي يعانيه هذا المنجز الأدبي الجديد وربما هي محاولة من الكاتبة للقفز على هذا السجن أو التحرر منه لكن نحسب أنها قفزة غير موفقة، لأننا إزاء أدب مخصوص تختلف فيه رواية “برج الرومي” التي تتحدث عن واقع السجون التونسية في تسعينيات القرن الماضي عن رواية “آخر الرعية” لـ أبي بكر العيادي التي تناولتها الكاتبة، وهي من صنف الروايات التاريخية التي تناقش الاستبداد بأسلوب يوظف التاريخ في شكل عمل تخييلي.
أما محمد التومي صاحب كتاب “أدب السجون كتابة المحنة ومحنة الكتابة” فقد كان واضحًا في اعتماد المصطلح منذ العنوان، من دون تردد، لكنه كان يحمل هم هذا الإشكال الاصطلاحي في ثنايا قراءته للأعمال التي جعل منها مدونة بحثه، ذلك أنه كان أمام أعمال لأدباء هم كذلك قبل السجن، ولسجناء صيرهم السجن كتابًا رغم أنوفهم.
فكان لا بد له من طرح السؤال عن مستقبل أدب السجون: “هل ستساهم الثورة حتمًا -كما ساهمت في إظهار أدب السجون للناس- في اندثاره، بوصفها قامت على أهم مقوم من مقومات وجوده، وهو الظلم وخنق الحريات وتجاهل كرامة الفرد وهوية المجتمع؟”، وهو السؤال الذي يختزل سجن المصطلح بكل تعقيداته الذي يحيط بهذا الأدب، لكن يبدو أن الوقائع على الأرض أجابت الكاتب سريعًا، وكشفت عن علاقة معقدة بين الاستبداد خانق الحرية و”باعث” أدب السجون، بتوصيف التومي ونظام الاجتماع العربي.
سجن الوفرة
هذا مبحث أثارته ملاحظة الكاتب محمد التومي عن الأدباء الذين كتبوا المحنة والسجن، والسجناء الذين صيرهم السجن/ المحنة “أدباء”، وهو مبحث دقيق جدًا بوصفه يسعى لفصل ما هو أدبي عما هو كتابة لتجربة مرّ بها صاحبها يمكن أن تكون مذكرات أو تاريخًا …إلخ؛ أي أنه مبحث نقدي خالص ليس من السهل خوض غماره.
بلغت عناوين الأعمال المنجزة عن السجن قرابة الستين عنوانًا، وهو رقم مهم ومثير بحساب الكم مقارنة بالزمن، واعتبارًا لما قد يبشّر به من إمكان ولادة ستين أديبًا في بلد مثل تونس، لكن ما مدى واقعية هذا الحلم؟
مما لا شك فيه أن الأمر كما يجمع نقاد الأدب لا يتعلق بالوفرة والعدد، لذلك أطلقنا على هذا المبحث سجن الوفرة التي تمنع من الاستفادة من هذه المدونة، ذلك أن وقتًا وجهدًا سيبذلان في التصنيف فحسب. إضافةً إلى ما قد يثيره من تنازع أيديولوجي ليس من اليسير تجنبه في السياق الحالي للبلاد.
وإذا تجاوز عائق التصنيف فَرَضًا جدل الأيديولوجيا عن الأحقية في التصنيف، يمثل في حالاته كلها عائقًا أضعف من معوقات كثيرة أخرى تثيرها الوفرة المستعجلة، ذلك أننا صرنا إلى ما يشبه “التقليعة/ الموضة” في إصدار كتاب بين دفتين، بوسم يُدخله عالم أدب السجون ويضمن له اسمًا بين الأدباء وانتهى الأمر.
خاتمة
لا نعتقد أن هذه السجون المحاطة بأدب السجون التونسي على خطورتها ستقتل هذا الأدب، ذلك أننا اكتسبنا فعلا أدباء، يمتلكون موهبة صوغ نص أدبي عالي الجودة والموهبة الأدبية في نظرنا لا يقتلها انعدام الموضوع، لأنها تجسد الإنسان في لحظة تفاعله مع إكراهات الواقع وأثقال الأحلام والمستقبل، فنحن إزاء واقعية “تتيح لهذا النوع من الرواية أن يكون له دور في إعادة تاريخ البلاد الذي زيّفه الفاعلون السياسيون”
قائمة المراجع
التومي، محمد. أدب السجون كتابة المحنة ومحنة الكتابة (تونس: كلمة للنشر والتوزيع، 2020).
قارة بيبان، منية. القمع في تونس (تونس: دار نقوش عربية، 2013).