Search

ثورة الموتى في «قمصان زكريا» للسوري منذر بدر حلوم

إذا كانت ثورات الأحياء التي انطلقت، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، في أكثر من مكان التي يُطلقها » ثورة الموتى « من العالم العربي، قد باءت بالفشل، لاعتبارات عديدة لا مجال لذكرها، فإن ميسلون للثقافة « الصادرة عن » قمصان زكريا « الروائي السوري منذر بدر حلوم في روايته الأخيرة لم يجانبها النجاح، في رسالة روائية واضحة تقول إن الموتى يمكن أن ينجحوا، » والترجمة والنشر حيث يفشل الأحياء، وهي رسالة سريالية بامتياز.

واقعية وسريالية

بين موت سلافة إثر التحقيق معها من قبل مكتب الأمن في الجامعة في بداية الرواية، وسقوط صورة الديكتاتور من القمر، وقيام الموتى بنزع الرتب عن أكتاف كبار ضبّاطه في النادي العسكري في نهايتها، تجري مياه كثيرة تحت جسر الرواية. وإذا كانت الواقعة الأولى واقعية في ظلّ نظام أمني يحصي على الناس حركاتهم والسَّكَنات، والواقعة الأخيرة سريالية لا يمكن أن تحدث في عالم الواقع، فإنّ الواقعتين كلتيهما تحيلان إلى عالم مرجعي تزول فيه الحدود بين الواقع والسحر، الحقيقة والخيال، العقل والجنون، الأحياء والموتى، الإنس والجن، العاديات والخوارق. وهو ما ينطبق على الوقائع الروائية الأخرى المتعاقبة بين البداية والنهاية. وكأن الرواية تقول إنه لا مجال لحياة طبيعية يحكمها العقل وتسود فيها الحقيقة في ظل الأنظمة الأمنية القمعية التي تُحيل البلاد إلى جحيم للرعب، وتجعل العباد مجرّد أرقام في حساب الحاكم المستبد، يُسبّحون بحمده، ويتغنّون بمجده، ولا يجرؤون على معارضة أحكامه حتى بينهم وبين أنفسهم.

سلكان روائيان

الواقعية والسحرية، تتعاقبان وتتداخلان. وينتظم الأحداث سلكان اثنان؛ » قمصان زكريا « تتجاور في أحدهما واقعي تتمحور شخصياته حول المعالج النفسي الدكتور زيدون، والآخر سحري غرائبي تتمحور شخصياته حول الباحث الاجتماعي زكريا المؤمن بالتقمّص الذي يتذكّر ذكريات من قمصانه السابقة ويضرب الأدلّة على صحّتها. على أن زيدون وزكريا صديقان، يجمع بينهما التعاطف مع الفقراء، ورفض الظلم ومعارضة النظام الأمني والتصدّي لأدواته بالإمكانات المتاحة، ومن ضمنها الموت.
وتحفّ بهما مجموعة كبيرة من الشخصيات المتعالقة معهما أو مع أحدهما، بطريقة أو بأخرى، على أنّ القاسم المشترك بين معظمها، هو أنّها من ضحايا النظام الحاكم، ومن معارضيه، ومن المتصدّين له بعد مفارقة الحياة. وعليه، فإن الأسئلة التي يطرحها حلوم، في روايته، تتناول الاستبداد، الفقر، الفساد، التقمّص، الحياة، الموت وغيرها.

وقائع واقعية

ورجاله بحقّ من » عوف « في السلك الواقعي، نقع على مجموعة كبيرة من الوقائع التي يصطنعها أحسن إليه، أو تفوّق عليه، أو اشتبه بمعارضته إياه، أو تفوّه بكلمة ساخرة منه، أو أقدم على سلوك مخالف له، أو حلم بالخبز والحرية. وهي وقائع يتوخّون في اصطناعها أساليب قذرة، تتقنها أدوات الأنظمة الشمولية المستبدّة للإيقاع بضحاياها، من قبيل: دسّ المخدّرات، تلفيق التّهم، افتعال الفضائح، الابتزاز، تشويه السمعة، إشاعة الأخبار الكاذبة، استخدام المخبرين، ما يؤدي إلى إخفاء الضحية أو قتلها أو تحطيمها أو إقصائها أو ابتعادها عن الأضواء. في السلك السحري الذي يتمحور حول شخصية زكريا، العابر للقمصان والمتنقل بين الموت والحياة، نقع على مجموعة من الوقائع الغرائبية التي تحيل على عالم مرجعي تختلط فيه الحقيقة بالخرافة، والواقع بالخيال، والحياة بالموت، والإنس بالجن. ويتكرّس في ظل أنظمة الاستبداد القمعية. وفي هذا السياق، نقع في هذا السلك على الوقائع الآتية: موت سلافة الطالبة الجامعية بعد التحقيق معها من قبل جهاز الأمن في الجامعة، إقصاء الدكتور زيدون عن الجامعة، لتفتيح أعين طلابه على الحرية، إجبار الطالبة رويدة على التجسّس على أستاذها والانخراط في علاقة حميمة مع مُجبرها، حرمان الطالبة بشرى من حقّها في مناقشة رسالتها الجامعية، إقصاء الدكتور اليافي عن الجامعة للاشتباه بخلفية شخصياًّ تباعاً، اعتقال » عوف « سؤال طرحه على الطالبة، إخفاء عائلة الحاج حسين ذات الفضل على أستاذ الموسيقى عبود ونزع أظافر قدميه، نقل مهندس السد علاّم إلى مصلحة التبغ والتنباك لإبدائه ملاحظات على عملية البناء، انهيار السد وتسبّبه في غرق حي الجورة وموت العشرات، مقتل التلميذ الضابط يونس في ظروف غامضة، موت المجند نور الدين بسادية ضابط أرعن، اختفاء المئات وموتهم في حروب عوف ومعتقلاته، وغيرها. هذه الوقائع تندرج في المتن الروائي من خلال الاسترجاع والاستقدام والتزامن والتداعي والسرد والحوار وسواها من تقنيات السرد الروائي. على أنّنا نجد بين الضحايا من يتصدّى للقمع بما ملكت يمينه، ويقاوم الأدوات القامعة، بطريقة إيجابية أو سلبية. وفي هذا السياق، يقوم أسامة الشاب الرافض ممارسات أبيه المخبر عزام بحق قصر الأب وبستانه ويتدبّر أمر خروجه من البلاد خلسة، وتقوم رويدة ببتر عضو رجل الأمن العرنوس الذي أجبرها على التجسّس وممارسة الجنس معه، ويقوم سمير بكسر أنف الضابط الذي أهان أخاه وتحطيم أسنانه، وتقوم بشرى وغزوان بمغادرة البلاد تحت جنح الظلام. غير أن هذه المحاولات تبقى في الإطار الفردي ولا ترقى إلى محاولة تحرير البلاد من الديكتاتور المستبد وزبانيته، وهو ما يتحقق في السلك السحري، ولو بطريقة غرائبية.

وقائع غرائبية

في السلك السحري الذي يتمحور حول شخصية زكريا، العابر للقمصان والمتنقل بين الموت والحياة، نقع على مجموعة من الوقائع الغرائبية التي تحيل على عالم مرجعي تختلط فيه الحقيقة بالخرافة، والواقع بالخيال، والحياة بالموت، والإنس بالجن. ويتكرّس في ظل أنظمة الاستبداد القمعية. ومن هذه الوقائع، على سبيل المثال، مشاركة الجن في الأحداث، عودة الموتى إلى الحياة بالتقمّص في أجساد جديدة، أو بالتجرّد أرواحاً ترى ولا تُرى، وتؤثر في الأحياء، دون أن تتأثر بهم، وهذا ما يجعل الموتى أقوى من الأحياء، لا يخشون من عوف وأدواته القمعية، ولا يتورّعون عن التعبير عن آرائهم بحرية، ولا يتورّعون عن معاقبة الظالمين والانتقام منهم، ولذلك، ينجحون حيث يفشل الأحياء في السلك الواقعي، ويتمكنون في نهاية الرواية من نزع الرتب العالية عن أكتاف الضباط، ومن إسقاط عوف من القمر والتحرّر منه. وهنا، تبرز أهمية التقمّص باعتباره آلية دفاع ضد الظلم، فزكريا الذي ينظم ثورة الموتى بالتعاون مع موتى آخرين يتمكن من تحقيق ما عجز عنه زيدون وسواه من الأحياء، وهو الشاهد على الأحداث والمؤثر فيها، على مدى ثلاثة قمصان، لاسيّما في قميص إسماعيل الذي يشهد على انهيار السد وضحاياه، وقميص زكريا الذي يشهد على سقوط القمع وأدواته. هذه الوقائع الغرائبية تندرج في المتن الروائي في تقنيات السرد المختلفة، وتنتظمها علاقات طبيعية يتم فيها الانتقال من واقعة إلى أخرى بسلاسة ويسر.

انتصار الحياة

من خلال السلكين، الواقعي والسحري، والعلاقات القائمة بينهما، والشخوص الكثيرة المنخرطة في أحداثهما، يقول حلوم انتصار الضحية على الجلاد، والمظلوم على الظالم. ويؤمن بسقوط أنظمة الاستبداد ورموزها، ولو في العالم ما بعد الواقعي. وبذلك، يتحوّل الخيال إلى سلاح في مواجهة الواقع عن منظور روائي إيجابي يعتقد بزوال الظلم وعودة المياه » قمصان زكريا « ووقائعه القاسية، وتصدر إلى مجاريها مهما طال الزمن. وبهذا المعنى، يُشكّل الروائي الأدبي تعويضاً عن الواقعي المادي، ويشهر حلوم سؤال التقمّص في مواجهة الموت، فالكلمة الأخيرة، في نهاية المطاف، للحياة، ويقطف الأحياء ثمار ثورة الموتى التي يطلقها الكاتب.

. المصدر: القدس العربي، 27 أيلول/ سبتمبر 2023

الرابط: ثورة الموتى في «قمصان زكريا» للسوري منذر بدر حلوم(alquds.co.uk)

سلمان زين الدين

شاعر، وكاتب، وروائي، وناقد لبناني، صدرت له العديد من المؤلفات في الشعر والنثر والنقد الأدبي، ولا سيّما في مجال النقد الروائي، كما نشرت له العديد من المقالات بالصحف اللبنانية والعربية. كتب العديد من المؤلفات التي تنوعت بين النصوص الشعرية، والرواية الطويلة، ومنها: القناديل والريح (شعر) في عام 2009، ضمائر منفصلة: مجموعة شعرية صدرت عام 2015 عن دار نلسن في السويد وبيروت، أحوال الماء (شعر) في عام 2018، في مهب الرواية (دراسة نقدية): صدرت عام 2020 عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر بالدوحة. حصل على عدد من الجوائز الأدبية، ومنها: جائزة سعيد فياض للابداع الشعري، جائزة سعيد عقل للشعر.

مشاركة: