Search

الإضراب السوريّ العام التحديات والخيارات والآفاق

أولًا: مقدمة

بدأت محافظة السويداء أساسًا، ثم محافظة درعا، إضرابًا عامًا، بسبب تفاقم الأزمة المعيشية، ووصولها إلى حدٍّ غير مسبوق. وبحكم أنَّ النظام السوريّ غير قادر على الاستجابة للمطالب المعاشية والخدمية والسياسية، وبما أنَّ المحتجين على قناعة تامة بعجزه كليًّا عن تلبية مطالبهم، فقد جعلوا أهداف إضرابهم سياسيّة عمومًا؛ لأنَّ نظامًا لا يحلُّ المشكلات الاقتصادية لا يستحق أن يبقى في سدّة الحكم. 

يطرح هذا الإضراب بالضرورة مجموعة من الأسئلة المهمة والبديهية، مثل: هل سيتسع الإضراب ليشمل باقي المحافظات السورية؟ وما مدى استمراره ونجاحه في تحقيق مطالبه؟ وكيف سيتعامل النظام معه؟ وكيف سينظر إليه المجتمع الدولي والدول العربية؟ وما المطلوب من السياسيين السوريين؟ وكيف يخطو الحراك الشعبي خطوات متقدمة نحو الأمام؟ وغيرها من الأسئلة التي ينبغي أن تكون على مائدة نقاش الناشطين في الحقل السياسي، ولا سيَّما أولئك المندرجون في الحراك اليوم.

 

ثانيًا: الوضع قبل الإضراب العام والحراك الشعبي

يمكن تلخيص ما حصل قبل الإضراب العام -وقد زاد بعضه من حدّة الغضب، وأعطى بعضه الآخر بارقة أمل- كما يلي:

  • اتَّبع النظام سياسات تقنين ممنهجة منذ اثني عشر عامًا حتى الآن. وقد طالت الماء والغذاء والدواء والمحروقات والخدمات: كهرباء، هاتف، خليوي، وإنترنت. وهذه السياسات جعلت من النظام المتحكِّم الأوحد في حياة السوريين ومصيرهم في مناطق سيطرته.
  • الأثر السلبي والاستفزازي، لمقابلة رئيس النظام على محطة سكاي نيوز. إذ تبين أنه لا نية لحل سياسي ولا تفاوض مع العرب، مؤكدًا على صواب خياره العسكري-الأمني في ما لو عاد الزمن إلى الوراء. وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدلِّل على أن السكوت عن الوضع المتردي طوال اثني عشر عامًا، قد جعل النظام يتخلى عن مسؤوليته باستهتار، وصار يتمادى في الفساد والمخدرات وبيع الأملاك العامة واحتقار الشعب ورفع الأسعار بجنون، وغيرها.
  • استعر الغضب في يومي الثلاثاء والأربعاء 15 و16 آب/ أغسطس 2023، إذ رُفِع الدعم عن المحروقات لتزداد بنسبة 300 في المئة تقريبًا، ثم تبعتها زيادة الرواتب بنسبة 100 في المئة، وهي تبدو عالية ظاهريًا، ولكنها بخسة فعليًا لأنَّها لا تتناسب مع الغلاء الحاصل إطلاقًا، ولا مع انهيار الليرة السورية أمام الدولار التي وصلت تدنٍّ غير مسبوق، بمقدار 15500ل.س للدولار الواحد. وهذا أثار موجة غضب عارمة تمثلت بإضراب السائقين بدايةً يومي الأربعاء والخميس؛ لعدم تحديد تسعيرة النقل، ومن ثم انقطاع المواصلات في بعض مناطق سيطرة النظام، لتنتقل الحالة بعد ذلك إلى جميع فئات المجتمع، إذ أعلنت “حركة 10 آب” الإضراب العام يوم الخميس في بيان لها يشمل الموظفين والتجار والجيش. كما حثّ الناشط “كنان وقّاف” جميع السوريين على المشاركة في العصيان المدني. وتتالت الإعلانات والبيانات في السويداء لتعلن بداية الإضراب العام من بلدات “القريا وشقا والمتونة” يوم الخميس أيضًا. ثم تبلورت هذه الدعوات أخيرًا في بيان “القريا” الذي أعلن بدء الإضراب العام وقطع الطرقات يوم الأحد 20 آب/ أغسطس 2023، احتجاجًا مباشرًا على رفع الدعم عن الوقود وزيادة الرواتب غير المتوافقة مع تفاقم انهيار الوضع المعيشي. ولكن حالما بدأ الإضراب انتقل إلى المطالبة بالتغيير السياسي؛ إسقاط النظام وتطبيق القرار الدولي 2254 والإفراج عن المعتقلين.
  • استحسان ارتفاع نبرة بعض الناشطين السوريين “العلويين” (أمثال ماجد دواي، وأحمد إسماعيل، وكنان وقّاف، وأيمن فارس). وبروز “حركة الضباط العلويين الأحرار”، وانضمامها إلى “حركة التحرر الوطني” بقيادة العميد مناف طلاس، على الرغم من نقص المعلومات حول طبيعة هذه التشكيلات، ومدى قدرتها وجديتها. يُضاف إلى ذلك الإعلان عن “حركة 10 آب” الشبابية، وانضمام “حركة الشغل المدني” إلى الحراك. وقد تبين أنَّه حراك مهم نسبيًا في مناطق النظام، وليس مجرد ظاهرة “تنفيسية” لغضب الناس كما أشاع بعض المتابعين للتطورات؛ وذلك لأنه نال من رأس النظام مباشرة، وهذا غير معتاد في سياسة “التنفيس” التي اتبعها النظام منذ حيازته السلطة.
  • خلقت الاستعدادات العسكرية الأميركية في قاعدة التنف، وزيادة عددها وعتادها، أثرًا مشجِّعًا عند قطاع واسع من السوريين، ما خلق سيناريوهات محتملة أو متوقعة، متعددة ومتضاربة، ومراهنات عديدة، بعضها وارد وممكن، وأكثرها واهمٌ ومبالغٌ فيه: ردع إيران وميليشياتها على الحدود السورية العراقية، وإغلاق معبر البوكمال في وجه الإيرانيين، والسيطرة على 10 كم على طول غرب الفرات، وربط الجنوب السوري بالشمال الشرقي، منع الطيران الروسي من التدخل، وغيرها. 

 

وبالفعل، فإن هذا كلّه، وغيره، قد ساهم في شحذ الإرادة المدنيّة وتقويتها، لتنفجر في وجه النظام وداعميه، ولتؤكد لليائسين إمكان العمل في أكثر اللحظات قتامة. لا شكَّ أنَّ “إرادة الغضب” هذه يمكن لها أن تعوِّض نسبيًّا عن الخلل الواقع في موازين القوى (إرادة القوة) ضمن مناطق سيطرة النظام.

 

ثالثًا: ما الذي يحصل الآن؟

انفجرت منذ نحو أسبوع “إرادة الغضب”، وأعلنت الإضراب العام من السويداء، فجاوبت درعا على الفور، ومن ثم حماه بعد أيام. ومن ثم تتالت التظاهرات في حلب وإدلب واللاذقية [تظاهرة ليلية] والرقة والحسكة ودير الزور. وإذا كانت حلب وحمص ودرعا وحماه وريف دمشق والقنيطرة، مناطق مستنزفة ومنكوبة، فإن أي تجاوب معنوي ورمزي منها ستكون له آثار كبيرة في استمرار الإضراب وشدّته. وقد شهدنا تعاظمًا له يومي الخميس والجمعة 24-25 آب/أغسطس 2023. ومع أنَّه من المستبعد حاليًا اشتراك اللاذقية وطرطوس ودمشق بصورة ملحوظة، ليس لأنَّهم غير غاضبين من سياسات النظام، بل لأن قدرة قوى الأمن والمرتبطين بها في هذه المناطق فائقة. 

اتّسع الإضراب ليشمل أغلبية المناطق بغض النظر عن زخمه. ولكن هل سيستمر؟ هناك عوامل عديدة تدفع باتجاه استمراره؛ وجود تأييد عام له على المستوى السوري، نفض اليد من وعود النظام الكاذبة بتحسين الحياة المعيشية، مواقف عربية ودولية مشجعة، الارتباكات التي يعيشها داعمو النظام (روسيا وإيران) لأسباب تخصّهم، ولا سيَّما ما يتعلق بالملف النووي الإيراني والحرب الروسية ضد أوكرانيا وتبعاتها على الوضع الاقتصادي الروسي، وربما يكون لإدراك أغلبية السوريين الثمن الكبير للتراجع دورُه في مدِّ الإضراب بطاقة الاستمرارية؛ فأغلبية أهالي السويداء أصبحوا مطلوبين للأجهزة الأمنية بدرجات متفاوتة، بمن فيهم مشايخ العقل، وربما يُحاكم كثير منهم بمحكمة الإرهاب أو قد يتعرَّض بعضهم للتصفية الجسدية فرادى كما حصل مع درعا والغوطة مثلًا.

 

رابعًا: التحديات؛ كيف سيتعامل النظام مع الإضراب العام والحراك الشعبي؟

مضى أكثر من أسبوع على الاحتجاجات والنظام السوري لا يستجيب. وحتى الآن هناك غياب شبه كامل للشبيحة وقوى الأمن وحفظ النظام عن الساحات والشوارع التي تغص بالمتظاهرين. والتحليل الأرجح أنَّه لا إمكان لاستخدامهم داخل محافظة السويداء بصورة ظاهرة أو مباشرة في الأيام المقبلة. ولا مجال أيضًا لإقامة مسيرات موالية وساحات موازية بسبب طبيعة العلاقات العائلية والعقيدية عند مواطني السويداء. وهناك إحساس عام بأن ما يحدث من احتجاج يمثل الشرائح الأكبر في المجتمع. ولذلك سيتعاطى موالو النظام والمستفيدون منه بغض النظر عن الإضراب مع بعض الانتقادات التي يمكن تلافيها وغير ضرورية. وفوق هذا لا يستطيع النظام اتهام مواطني السويداء بالإرهاب كما فعل مع مواطني كثير من المناطق السورية.

وحتى الآن، لا وجود لردٍّ من النظام على السويداء، مع أنه أطلق النار على تظاهرة في حلب، وقصف تظاهرة في مدينة نوى بالمدفعية. وربما ستكون أول ردوده إقامة مسيرات موالية موازية في دمشق لاستحالة إقامتها في السويداء، وطرح بعض المكاسب الجزئية كما قدَّمها محافظ السويداء إلى شيخ العقل، حكمت الهجري، الذي لاقى خطابه وموقفه استحسانًا على المستوى السوري. كذلك، يُستبعد أن يلجأ النظام إلى سياسة التفجيرات والقصف في التعاطي مع السويداء لحساسية وضع “الموحدين الدروز” بوصفهم أقلية، في حين يقدِّم النظام نفسه حاميًا للأقليات. ومن المستبعد أيضًا أن تساعده روسيا في قصف السويداء للسبب نفسه. لا يستطيع النظام الانسحاب من السويداء وتركها لتدير نفسها بنفسها، لأنه سيستغني حينذاك عن الجنوب السوري، وسيفقد ما تبقى من شرعية هزيلة له، وربما لأن مثل هذه الخطوة قد تكون خطوة أولى في طريق رحيله.

مع ذلك، فإنَّ الإضراب العام في السويداء، تحت وطأة الغياب التام للبدائل المتعلقة بالطحين والكهرباء والمحروقات التي تأتي من عند النظام عن طريق دمشق، مهدَّدٌ بصعوبة الاستمرار من جراء الضغط الذي يمكن أن يمارسه النظام بقطع مقومات الحياة عن الأهالي. ولذلك، فإن قطع الطرقات الذي نفَّذه بعض المضربين، ولا سيَّما طريق دمشق–السويداء، لم يكن سلوكًا حكيمًا يتحسَّب للعواقب. ولا سيّما أنَّ الناس في حاجة ماسة إلى الكهرباء والطحين والمحروقات والمدارس والمشافي والدواء.. إلخ، لكن يُلاحظ أنَّ المتظاهرين استمعوا لهذا النقد، وتراجعوا عن قطع الطرقات. وربما سيضغط النظام على المحتجين بزيادة تقنين الكهرباء والطحين والمحروقات، لكنه لا يستطيع قطع هذه المواد والخدمات نهائيًا خوفًا من مزيدٍ من انتقادات المجتمع الدولي له من جهة، ولأنَّ هذا السلوك سيشكِّل قطيعة نهائية مع السويداء من جهة ثانية، وقد يقود إلى تفكير عربي بحلول ملائمة عن طريق الأردن من جهة ثالثة.

وعلى الرغم من الهتافات الجامعة بين السوريين والمطالب العامة، المنطلقة من السويداء ذات الأغلبية الدرزية، إلّا أن بعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تُشكِّك في وطنية الحراك بسبب رفع راية “الخمس حدود” وعدم التزامه بالمطالب المعاشية والخدمية فحسب. وقد تنطع بعض الناشطين ومنهم مشايخ العقل لتبرير رفع راية الخمس حدود. وبعد رفع راية الخمس حدود في الأتارب ومارع ورفع علم الثورة في القريا والسويداء ستضمحل هذه الانتقادات بالتدريج. ومع أن الكثير من سهام النقد الموجهة للحراك في السويداء صحيحة غير أن الحراك صار يقبل النقد ويستجيب لملاحظات السوريين. وصار الإضراب العام يستثني العاملين في مجال الكهرباء والماء والهاتف والصحة.

 

خامسًا: المواقف الدولية والعربية

الموقف الدولي

كان هناك تثمين للمطالبة الشعبية في التظاهرات بتطبيق القرار 2254 في مجلس الأمن. فقد علَّقت ممثلة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد، خلال كلمتها في جلسة مجلس الأمن على التطورات الأخيرة في سورية، في 23 آب/ أغسطس 2023 قائلة: “في الأيام الأخيرة، شهدنا احتجاجات سلمية في مدن مثل درعا والسويداء، حيث دعا السوريون إلى تغييرات سياسية، وطالب جميع الأطراف باحترام القرار (2254)، هذه هي المناطق التي بدأت فيها الثورة، ومن الواضح أن المطالب السلمية لم يُستجب لها”. وشاركت في الجلسة الناشطة الحقوقية، لبنى قنواتي، وهي إحدى الناجيات من هجمات قوات النظام الكيماوية، وتمنَّت لو أنها تستطيع العودة إلى سورية: “للوقوف إلى جانب الرجال والنساء الشجعان الذين يحتجون في السويداء”.

 

الموقف العربي

بعد فشل التطبيع العربي مع النظام، فإن أغلب الظن أن العرب سينحازون إلى الإضراب العام، ويستدل على هذا من اهتمام وسائل إعلامهم الأساسية بالإضراب، وربما يتقدَّمون بخطوة نحو الأمام على طريق دعمه، لكن هذا رهن بمدى تقدُّم الحراك الشعبي وتطوره من جهة، وبالمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الولايات المتحدة في تأييد هذا الحراك من جهة ثانية. 

 

سادسًا: خيارات واهمة ومضلِّلة؛ عقم فكرة الإدارة الذاتية في السويداء

أكَّدت أغلبية المتظاهرين وحدة سورية والشعب السوري علنًا من دون أي لبس. كما أكدوا خصوصيتهم وخصوصية سواهم وتفضيلهم نظامَ حكمٍ غير مركزي بدلًا من النظام المركزي الذي أذاقهم مختلف أنواع الاستبداد والتحقير. ولكن ثمة دعوات ضيقة غير معلنة عند بعض السوريين وغيرهم، ولا سيَّما في خارج سورية، لإقامة إدارة ذاتية خاصة بالسويداء، عبر تشييد معبر إنساني إلى الأردن، والمطالبة بوضعية خاصة في دستور سورية المستقبلي، وقد أتت مثلًا على لسان الشيخ موفق طريف من فلسطين المحتلة في أثناء لقائه مع ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي ومبعوث الرئيس بوتين الخاص إلى الشرق الأوسط، في شباط/ فبراير من العام الماضي. وهذا غير وارد لعدة أسباب:

أولها، إن فتح المعبر مع الأردن يحتاج إلى موافقة الأردن، وهو سيرفض على الأرجح لأنَّ النظام هو من سيدير المعبر ويتحكَّم فيه، فضلًا عن المخاوف من تمرير الكبتاغون والسلاح والإرهابيين عبره.

ثانيها، لا توجد قوة في السويداء لديها الاستعداد أو القدرة لتتحالف مع القوات الأميركية كما فعلت “قوات سورية الديمقراطية” التي استُخدمت في الاستراتيجية الأميركية لقتال “داعش”. أو كما تفعل بعض “العشائر” التي وجدت لها الولايات المتحدة مكانًا في استراتيجيتها من خلال محاربتها لإيران وميليشياتها، لأنَّ “قسد” لا تحارب إيران.

ثالثها، لا ننسى أنَّ الإدارة الذاتية، في مرحلتها الأولى على الأقل، قد تلقت الدعم، فكرةً وتطبيقًا، من النظام السوري، بهدف محاربة السوريين الكرد الثائرين على نظامه في حينها.

رابعها، يُضاف إلى ذلك -وهذا هو الأهم- الرفض الشعبي في السويداء لفكرة الإدارة الذاتية، والذي تمظهر بطرد معسكر من قرية خازمة في الشهر الثاني من العام 2021. وكانت قد تشاركت فيه “قوات سورية الديمقراطية” مع “حزب اللواء السوري” الذي أُنشئ وقتها بقيادة “مالك أبو خير”. والجدير ذكره أيضًا هو الارتياح الشعبي لمقتل “سامر الحكيم” في قرية خازمة أيضًا، وهو قائد “قوة مكافحة الإرهاب” في الحزب، فضلًا عن اعتقال باقي فريقه المكون من 15 شخصًا في الشهر السادس من العام الماضي.

 

سابعًا: تمكين الإضراب والحراك الشعبي

استنادًا إلى ما سبق، يحتاج هذا الحراك الشعبي المهم، إلى إسناد ودعم، كي لا يكون فرصة ثمينة ضائعة، لكن بطريقة تخدمه وتخدم القضية السورية بوصفها قضية وطنية ديمقراطية، وليس على طريقة المعارضات السورية التي أفقدت ثورة الحرية والكرامة معانيها وأهدافها السامية، من خلال سهولة انقيادها واستتباعها، وأحيانًا سذاجة تحليلاتها ومقارباتها، ضاربةً عرض الحائط بفكرتي الحرية والكرامة.

 

أ- هل لهذا الحراك آفاق استراتيجية؟

إذا غابت الاستراتيجيات لا قيمة للتكتيكات. كي يكون هذا الحراك مثمرًا على المدى المتوسط والبعيد، ينبغي له قراءة اللوحة السياسية، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، بصورة هادئة وعاقلة، لأنَّ فهمها جيدًا يتيح إمكان التعاطي مع نقاط القوة ونقاط الضعف، عند جميع الأطراف، بمن فيهم النظام السوري والحراك الشعبي ذاته.

نقاط الضعف العامة على المستوى السوري:

1- الوجود الأجنبي هو إحدى نقاط ضعف الوضع السوري عمومًا؛ فالوجود المتعدد لقوات روسية وإيرانية وتركية وأميركية على الأرض السورية، والنزاع الظاهر أو الصامت في ما بينها، واختلاف مواقفها إزاء مستقبل سورية، وارتباط مستقبل سورية بملفات إقليمية ودولية معقدة وشائكة، من شأن هذا كله أن يجعل الحراك الشعبي بلا مستقبل أو يقوده إلى التلاشي والاضمحلال تدريجًا في حال عدم وضع استراتيجية عقلانية لاستمراره. 

2- المعارضات السورية، ولا سيَّما التي تسمى “رسمية” هي إحدى نقاط ضعف الوضع السوري، من خلال استحكام الأيديولوجيا بها، والتحاقها بسياسات إقليمية، إضافة إلى وجود فصائل عقائدية دينية متناحرة وتابعة ولا يعتد بها للمساهمة في المستقبل المأمول من السوريين. فضلًا عن غياب حقل سياسي وطني ديمقراطي يشتمل على مبادئ عامة توافقية، يشكِّل مرتكزًا أو ناظمًا عاقلًا وعارفًا وموثوقًا لأي حراك شعبي. 

3- توجد في جعبة النظام السوري خيارات وسيناريوهات كثيرة لإنهاء الحراك الشعبي أو الالتفاف عليه أو تمييعه أو تخريبه، بعضها متوقَّع (مثل تخويف الحراك الشعبي بداعش والتنظيمات المتطرفة الأخرى، اختراع التناحر بين السوريين على أساس ديني أو طائفي أو عشائري أو عائلي أو حتى شخصي، اغتيال بعض الناشطين، محاصرة حاضنة الحراك ومنع متطلبات الحياة الأساسية من الوصول إليها، تشويه سمعة الحراك باتهامه بالعمالة للخارج… وغيرها)، وبعضها الآخر سيكون جديدًا يتوافق مع طبيعة المنطقة والمحتجين.

 

ب- توصيات لتمكين الحراك على المستوى العملي واليومي

1- مخاطبة مجلس الأمن والدول العربية للضغط على النظام للبدء بتطبيق قرار مجلس الأمن 2054، من خلال هيئة توافقية مسؤولة من الحراك نفسه.

2- التفكير في فتح طرقات بديلة. فبما أنَّ الطريق الوحيد الممكن الآن في السويداء هو طريق السويداء – دمشق، فإنَّه يجب العمل على بدائل ممكنة. وهناك ثلاثة طرق يمكن الحصول من خلالها على المساعدات الإنسانية في حال ضغط النظام على المتظاهرين بالكهرباء والمحروقات والطحين، لكن هناك صعوبات بدرجات متفاوتة تحول دون فتحها. هذه الطرق هي:

الأول: السويداء – درعا – الأردن، عبر معبر نصيب. وهذا يحتاج إلى مصالحة فعلية بين السويداء ودرعا، كما يحتاج إلى موافقة الأردن بدعمٍ عربيٍّ.

الثاني: السويداء – الأردن، بشكل مباشر من نقاط عدة لطول الحدود البرية وتداخلها. وهذا يحتاج إلى موافقة الأردن.

الثالث: السويداء – التنف – الشمال الشرقي من سورية – أو العراق. وهذا يحتاج إلى تنسيق مع العراق وإلى تنسيق مع قاعدة التنف وثوار البادية على طول الحدود الشرقية. ويمتاز هذا الطريق بأنه خارج على سيطرة النظام ويصل جنوب سورية بشمالها الشرقي.

 

ج- توصيات على المستوى السياسي والتنظيمي

1- إبعاد الحراك الشعبي من إمكان استثماره من جانب قوى أو شخصيات أخفقت في بناء التمثيل السياسي المطلوب طوال ثلاثة عشر عامًا أو قبلت أن تكون بيدقًا بيد سياسات إقليمية أو دولية.

2- إنتاج هيئة سياسية توافقية مركزية للحراك الشعبي على مستوى كل محافظة، وعلى المستوى السوري العام، وهذا يستلزم التواصل بين السويداء والساحل السوري ودرعا وبقية المحافظات السورية. يُناط بهذه الهيئة إدارة الحراك الشعبي سياسيًا وإعلاميًا، وإنتاج برنامج عمل وطني ديمقراطي عام على المستوى السوري، وإنتاج مدونة سلوك سياسية تشرف عليها هيئة رقابية لها سلطة عزل أي أفراد أو جهات لا تلتزم المدونة، واشتقاق خطة عمل تفصيلية ممكنة للحراك الشعبي على المستوى القريب والمتوسط، تتضمن المواعيد والشعارات المقبولة وتوفير وسائل الاستمرار، خطة ترتكز على العمل الصبور والتراكمي وكسب المعارك الصغيرة، وغيرها.

3- اعتماد خطاب سياسي يتصف بالآتي: خطاب وطني ديمقراطي في كل قول ونفس، واستبعاد أي تعبيرات كراهية؛ خطاب عاقل يتوجه إلى المجتمع الدولي وفق قواعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بسورية؛ خطاب تحضر فيه السياسة والتعابير السياسية والمدنية، بعيدًا من الغرق في مستنقع ممارسة الشتائم أو الإعلاء من العقائد أو الأيديولوجيات على حساب الوطنية السورية.

 

ثامنًا: كلمة أخيرة؛ ماذا فعل الحراك الشعبي؟

لقد أبرز وحدةَ التعدُّد والتنوُّع والاختلاف السوري، فقد ظهر بوضوح أنَّ المتظاهرين عمومًا يقبلون بعضهم بعضًا على الرغم من اختلافاتهم. كما أبرز وحدة المُعاش في الحاضر والمساواة تحت الاستبداد في غياب الحقوق والخدمات، واستشراء الغلاء، فهناك معاناة عند جميع السوريين، على الرغم من اختلاف سلوك النظام مع المناطق و”المكونات” السورية استنادًا إلى حساباته ومصالحه في كلِّ لحظة سياسية. أبرز الحراك أيضًا الحجم الكبير لطاقة الغضب الكامنة في أنفس السوريين، مثلما أكَّد وحدة مصيرهم، فإما أن يكونوا معًا في الحاضر والمستقبل أو إنَّهم سيخسرون جميعًا. 

لا شيء يجمع السوريين ويعيدهم إلى الواجهة مثل العمل السلمي المدني. وحده يُعيد حماستَهم إليهم، ويتقدَّم بهم خطوةً في الطريق الصحيح؛ بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وأساسها الإنسان/المواطن الحرُّ الكريم.

شوكت كمال غرزالدين

كاتب وباحث سوري، يحمل إجازة من كلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة دمشق عام 2002، شهادة دبلوم فلسفة من جامعة دمشق عام 2003، ماجستير في الفلسفة اختصاص إبيستمولوجيا عن أطروحة “الفرضية في الفيزياء الكمومية” عام 2012 جامعة دمشق.

مشاركة: