Search

عن الكتابة.. والكتابة البحثيّة

(1)

الكتابة والحقيقة والسلطة

يشعر كلُّ كاتبٍ بلذةٍ طبيعيّةٍ ومتوقّعةٍ عندما يرى اسمه مكتوبًا على مقالةٍ أو بحثٍ أو كتابٍ من تأليفه، ما يخلق لديه شيئًا من الرضى عن الذات وإثبات الوجود وتقليص مساحة الانكسار في عقله وروحه. لكنَّ الكتابة أيضًا قد تجلب إلى صاحبها، في بعض الأحيان، شيئًا من الضيق أو التوتر أو المشكلات؛ لأن نصّه سيصبح، بعد النشر، عرضةً للتحليل والنقد والمراجعة بطرائق متنوعة ودرجات مختلفة، بعضها عادل ومنطقي فيما بعضها الآخر قد يكون متجنِّيًا أو لاذعًا أو مثيرًا للدهشة والاستغراب.   

على العموم، يشعر الكاتب عندما يمارس الكتابة أنَّه يؤدّي التزامًا تجاه قضيّةٍ أو شيءٍ ما من جهة أولى، وأنَّه موجودٌ ومؤثِّرٌ ومتابَعٌ من جهةٍ أخرى، وهذا كلّه يولِّد، من دون شك، شعورًا بأهمية الذات، لكنه قد يخلق أيضًا، في بعض الأحيان، شيئًا من الوهم عن ذاته ونصوصه، فيعتقد أنَّ نصوصه استثنائيّة؛ لم يُكتب قبلها، أو لن يُكتب بعدها، وربما يظهر على الكاتب، مع الزمن، بعض الظواهر النفسيّة المزعجة مثل الاستعراض في حياته أو في نصوصه، والتعالي، والحساسيّة الشديدة تجاه النقد، وغيرها.

على الرغم من أنَّ دوافع فعل الكتابة عديدة، معنويّة وماديّة، خاصَّة وعامَّة، إلَّا أنَّ دافعها الرئيس، أو هذا هو المأمول، هو الاهتمام بما يتجاوز الذات، أي انشغال الكاتب بالعالَم؛ واقعه ومساراته ومصائره وأحوال بشره في المحطات المختلفة، فالبشر يحتاجون إلى أن يدركوا ذواتهم، ويفهموا واقعهم، ويعرفوا إلى أين هم ذاهبون وكيف يمكنهم أن يحسِّنوا حياتهم. ولذلك يمكن القول، إن جاز التعبير، إن الكتابة المطلوبة أو المأمولة هي التي يكون دافعها قول الحقيقة ونشرها وإنْ لم تبلغها أو أضلَّت الطريق إليها، خاصةً مع معرفتنا أنَّ للحقيقة وجوهًا وزوايا متنوِّعة ولا نهائيَّة. 

إن الانشغال بالعالَم والبحث عن الحقيقة يدفعان الكاتب، عمومًا، إلى السعي لأن يكون منغرسًا في قضايا الواقع والبشر، ومساهمًا في طرح الحلول في المحطّات المختلفة، ويدفعانه أيضًا إلى بناء موقفٍ عامٍّ من الإنسان والحياة والكون، أي إلى خلق جملةٍ من القيم والمبادئ الأخلاقيّة الخاصَّة به، تؤطِّر مقارباته المختلفة، وتتجلَّى في أهدافه التي يعبِّر عنها في نصوصه بطرائق متنوعة؛ إشاعة الجمال ومحاربة القبح وإعطاء الحياة معنىً أفضل وقيمةً أعلى، ومساعدة الآخرين في فهم الحياة، والتخفيف من معاناتهم، وجعلهم أكثر قدرةً على احتمال قساوتها.

تحتاج أنواع الكتابة كلّها، بدرجاتٍ مختلفةٍ، إلى الحرية؛ ففي أجواء القمع تنمو رقابةٌ داخليّةٌ في عقل الكاتب وروحه، تفرض نفسها على قلمه، وتحدِّد له المسموحات والممنوعات. وقد يتأقلم الكاتب معها بطرائق ومستويات متنوِّعة، وقد يتمرَّد ضدّها. ويأتي هذا القمع من مصادر مختلفة، أبرزها السلطة الاستبدادية والسلطة الدينية وسلطة المجتمع. لا تستطيع الكتابة أن تتنفَّس جيدًا من دون حريّة، لكن هذا لا يعني أنَّ الكتابة تتوقَّف في مثل هذه الأجواء، إنما يمكن أن تتغيَّر اهتماماتها وأولويّاتها، كما لا يعني أنَّ الكتابة كلَّها في ظلِّ الهيمنة السلطويّة، من أيِّ نوعٍ، ستكون رديئةً بالضرورة؛ فهناك إبداعاتٌ كثيرةٌ في الكتابة وُلدت في رحم أوضاعٍ سلطويّةٍ شديدة القسوة.

بعض الكتابة يأتي في سياق النقد. لا تتقدَّم معرفة البشر بالواقع، وبأنفسهم، وبالآخر، من دون النقد؛ فالكتابة النقديّة تفتح الباب لإعادة النظر في آرائنا وتصوراتنا، وتحاول اكتشاف جدارتها وأحقيّتها مجدَّدًا، وتعمل على تقليص المساحة التي تحتلّها الأوهام في الثقافة والحياة. لكنَّ هذا النوع من النقد له أدواته وشروطه ومعاييره العلميّة والأخلاقيّة التي تتوافق مع هموم الكتابة ومهماتها المتمثلة بالانشغال بالعالَم والاهتمام بالبشر والسعي للحقيقة.

 

(2)

مهارات الكتابة

لا شكَّ في أنَّ للموهبة دورًا في الكتابة، لكنَّها غير كافية لإنتاج نصوصٍ ثمينةٍ مكينةٍ رصينةٍ، وإيصال الأفكار بوضوحٍ وسلاسةٍ إلى القرّاء، إذ لا بدّ من إتقان مهارات الكتابة، وهذا غير ممكنٍ بالطبع من دون التدريب والممارسة المستمرَّين. تتضمَّن عمليّة إتقان الكتابة مهاراتٍ أساسيةً متنوِّعةً مثل إتقان اللغة والقدرة على التعبير عن الأفكار والصياغة والتحرير، ومهاراتٍ أخرى تتعلَّق بتنظيم المحتوى، فضلًا عن المهارات المطلوبة في مجال الكتابة المتخصِّصة، مثل إنتاج البحوث والدراسات، التي تحتاج إلى معرفةٍ عميقةٍ من الكاتب بالموضوع الذي يتناوله.

هناك نوعان متطرِّفان من الكتَّاب من حيث طريقة تعاملهم مع نصوصهم قبل النشر؛ النوع الأول يكتب ما يخطر في ذهنه ويُرسله إلى النشر مباشرةً، فلا يُراجع ولا يُنقِّح ما كتبه، فيما النوع الثاني يسعى، عمومًا، لأن تكون نصوصه المنشورة أقرب إلى الكمال، فيُفرط في تدقيقها وتعديلها وتحريرها ومراجعتها. النوع الأول يُنتج كمًّا كبيرًا من النصوص لكنَّ معظمها يكون بلا قيمةٍ أو أثرٍ، فيما النوع الثاني يصل في كثيرٍ من الأحيان إلى حالةٍ من الشّلل؛ فلا ينشر إلَّا عددًا محدودًا من النصوص. وبين هذين النوعين من الكتاب هناك أنواعٌ عديدةٌ تتفاوت من حيث طريقة تدقيق النصوص قبل نشرها. 

يفتقر النوع الأول إلى حسّ المسؤولية المطلوب فيما النوع الثاني مصابٌ بشكلٍ من أشكال المثاليّة البائسة؛ لذلك ينبغي للكاتب أن يتقن إدراك اللحظة التي عليه أن يترك النصَّ الذي بين يديه، ويدفع به إلى النشر، ومن ثمّ التوجّه إلى الانشغال بنصٍّ أو عملٍ آخر. 

 

الكتابة والتحرير اللغويّ

ليس عسيرًا أن نلاحظ، في سياق الكتابة والحياة الثقافية، أنَّ ثمَّة مقالاتٍ أو دراساتٍ أو بحوثًا كثيرةً تنقلب رأسًا على عقب من جرّاء عمليّة التحرير التي يتحوَّل بوساطتها نصُّ الكاتب من نصٍّ فقير وغير مقروءٍ إلى نصٍّ غنيٍّ وقابلٍ للقراءة. لا شكَّ في أنَّ كلَّ نصٍّ في حاجةٍ إلى التحرير بدرجةٍ ما بعد انتهاء المؤلف منه، لكن ينبغي لتدخلات المحرِّر أن تكون محدودةً نوعًا ما، لا أن تُنجز ما أخفق الكاتب أصلًا في إنجازه. إذا حاولنا أن نقرأ نصوصًا صحفيّة أو بحثيّة، قبل التحرير وبعده؛ فإنَّنا سنجد أنَّ الفضل، في كثيرٍ من الأحيان، في ما تبدو عليه هذه النصوص من أناقةٍ ورصانةٍ واتّزانٍ بعد نشرها يعود إلى المحرِّر لا إلى الكاتب الأصليِّ.

للأسف، حتى الكتاب الأكثر خبرةً أو شهرةً يواجهون مشكلةً في استخدام اللغة وإتقان قواعدها. السؤال هنا كيف يمكن لكاتبٍ ما، صحافيًّا كان أم باحثًا أم مثقّفًا، أن يدّعي أنَّه كاتبٌ، وأن يستمرّ في الكتابة من دون إتقان أساسيات اللغة التي يكتب بها؟! لا أدري كيف يسمِّي نفسه كاتبًا ذاك الذي يُخطئ نحويًّا في الكتابة مرتين أو ثلاثًا في السطر الواحد. اللغة هي وسيلة الكاتب وعدَّته، ومن لا يتقن أساسيّاتها ينبغي له ألّا يضع نفسه في خانة الكتّاب. قد تكون أفكار الكاتب عظيمةً أو مهمةً، لكن في حال افتقاره إلى إتقان القواعد والنحو سيخفق في التعبير عنها جيدًا ما يعوق إيصالها إلى القارئ أو تصل بصورةٍ مشوّهةٍ أو خاطئةٍ.

تشتمل مهارات الكتابة الأساسية، عدا عن الإحاطة بالقواعد والوضوح والإيجاز والدقّة في استخدام المفردات، على إتقان استخدام علامات الترقيم أيضًا. يستخفّ بعض الكتّاب بعلامات الترقيم، مع أنَّها في الحقيقة كلماتٌ أخرى، تدعونا إلى التوقف برهة عن القراءة أو التأمُّل أو الربط بين الحوادث أو الأفعال. لكن في المقابل، لا بدّ للكاتب من أن يحذر من الوقوع في أسر اللغة، فيصبح من دون أن يدري صنيعة اللغة، تخلقه الكلمات وتشكِّل وعيه، بدلًا من الانتباه إلى علاقة التأثير المتبادل بين اللغة والفكر، فكما تؤثِّر اللغة في إيصال الفكر، يمكن للفكر أيضًا أن يعيد تشكيل اللغة.

تتنوّع لغة الكتابة بحسب الحقل الذي نكتب فيه، الحقل الإعلاميّ أو الأدبيّ أو الثقافيّ أو البحثيّ أو الفلسفيّ، فلكلِّ حقلٍ لغته الخاصَّة، مع أنَّ استخدام الكاتب لأنماط متعدِّدة من اللغة في النصِّ الواحد أمرٌ واردٌ وممكنٌ، كأن يستخدم الكاتب في مقالته الصحفية شيئًا من اللغة الأدبية أو الفلسفية إلى جانب اللغة السياسية الإعلامية.

الدقة المفاهيميّة مسألةٌ رئيسةٌ في أنواع الكتابة كلِّها، وإن كانت أكثر أهميةً في حقولٍ معيّنةٍ، مثل الفكر والفلسفة. من حقِّ كلِّ كاتبٍ أن ينحت مفاهيم جديدةً أو يعيد بناء مفاهيم قديمةٍ، لكنَّ هذا متلازمٌ بالضرورة مع شرحها وتوضيح دلالاتها ومعانيها إلى القارئ. الكاتب الجيِّد هو الذي يضع نفسه مكان القارئ، ويتوقَّع تساؤلاته والصعوبات التي قد يواجهها في القراءة، فيجيب عنها سلفًا. الكتابة غير المفهومة تدلِّل نسبيًّا على عدم قدرة الكاتب على إيصال أفكاره أو على عدم وضوحها لديه أصلًا، فيهرب من تحت ستار الأفكار والصياغات غير الواضحة أو من خلال استخدام المفاهيم والمصطلحات غير الشائعة أو الإشكاليّة التي تحتاج إلى شرحٍ وتبيانٍ أو يتفنَّن في إدراج مصطلحاتٍ ومفاهيم في غير مكانها ليُظهر إلى القرّاء مدى عمق معرفته. على الكاتب الحذِق ألّا يتصنّع أو يستعرض في الكتابة، وألَّا يكتب شيئًا لا يفهمه أو لا يستطيع الدفاع عنه حقًّا. 

 

القراءة والتأمُّل والحوار

لا تتطوَّر الكتابة من دون القراءة والتأمُّل والحوار؛ فالقراءة تساهم في توسيع إدراك الكاتب، وتخصيب عقله، من خلال الاطلاع على موضوعاتٍ متنوِّعةٍ وفتح آفاق جديدة وتجديد الروح من جهةٍ أولى، وصقل لغته وتحسينها من حيث المفردات والجمل والقواعد من جهةٍ ثانيةٍ، وتحريض أو توليد أفكارٍ جديدةٍ لديه من جهةٍ ثالثةٍ، وتنمِّي القدرة على الاتصال الفعَّال بالآخرين، وقراءة أفكارهم وتحليلها وتبادل الآراء معهم ومناقشتها، وتطوير مهارات الحوار والنقد من جهةٍ رابعةٍ. 

‎‏‎أما التأمُّل فهو عملية يخلق الكاتب من خلالها تصورًا في عقله لشيء ما، يركِّز عليه كليًّا ما قد يمكنه من رؤية جوانبه كافة. التأمُّل يعني التفكُّر أو إمعان التفكير في شيءٍ أو قضيّةٍ ما، وهو مصدرٌ للتدفّق الإبداعيِّ وتوليد أفكارٍ جديدةٍ. التأمُّل طقسٌ مهمٌّ على المستوى الروحيِّ، وضروريٌّ لإعادة النظر في ما كتبه الكاتب سابقًا وإفساح المجال للحظات الاستكشاف الثمينة، ومفيدٌ في استعادة القدرة على الكتابة عندما يمرُّ الكاتب في حالةٍ من العطالة أو الفتور.

 

(3)

الكتابة البحثيّة

البحث العلميِّ هو دراسة علميّة تتناول موضوعًا محدَّدًا استنادًا إلى معرفةٍ عميقةٍ به، تطرح إشكاليّةً ما، وتخضعها للنقاش من خلال عرض معلوماتٍ وأفكارٍ معيّنةٍ مرتبطةٍ بها، وإجراء تحليلٍ وتفسيرٍ منطقيّين للنتائج، قابلةٌ للنشر في مجلةٍ محكَّمةٍ معترفٍ بها بعد قراءتها وتحكيمها من جانب المتخصِّصين بمجالها وفق شروطٍ ومعايير واضحةٍ منها جديّة الإشكاليّة المطروحة وأصالة البحث وإبداعه وأسلوب الكتابة وأهمية المصادر والمراجع المستخدمة. 

لا شكَّ في أنَّ أغلبية طلاب العلوم الإنسانية في الجامعات وكليَّات الدراسة العليا وكثيرًا من الباحثين قد تعرفوا بطريقةٍ مفصَّلةٍ، في أثناء دراستهم، إلى معاني الكتابة البحثيّة، والإطار العام للبحث العلميِّ، والمتطلَّبات الرئيسة للبحث العلميِّ، لكنَّهم مع ذلك يقعون في أخطاءٍ عديدةٍ، ويرتكبون تجاوزاتٍ كثيرةً، وتغيب عنهم ركائز مهمّةٌ في العملية البحثيّة، بحكم عوامل عديدة، بعضها ذاتيٌّ وبعضها الآخر موضوعيٌّ، سأتطرَّق إليها على نحوٍ سريعٍ في الفقرة الأخيرة المتعلِّقة بمشكلات العمل الأكاديميِّ، وإن كانت تحتاج إلى دراساتٍ دقيقة ومفصَّلة. مع ذلك، من المفيد إعادة استذكار البديهيات المتعلِّقة بالبحث العلميِّ مع الإشارة إلى عددٍ من النصائح المفيدة في سياق إجراء أيِّ بحثٍ علميٍّ، مع الانتباه إلى أنَّ إتقانها والتمكّن منها شرطٌ لازم لكنَّه غير كافٍ لإنتاج بحوثٍ جديّةٍ ومفيدةٍ. 

 

الإطار العامُّ للبحث العلميِّ

للبحث العلميِّ ‎عادة شكلٌ نموذجيٌّ معروفٌ؛ عنوان البحث، اسم الكاتب، الملخّص والكلمات الرئيسة أو المفتاحيّة، قائمة المحتويات، مقدِّمة البحث (يمكن أن تتضمَّن: الإشارة إلى الأعمال السابقة/ الأدبيّات حول الموضوع، المنهجيّة المتَّبعة، الأسئلة والفرضيّات)، محتوى/ متن البحث (النتائج، المناقشة وتتضمَّن: الصور التوضيحيّة، البيانات والإحصاءات… إلخ)، الخاتمة أو الخلاصة/ الاستنتاج، قائمة المراجع، والملاحق إن وجدت.

ينبغي أن يكون العنوان مختصرًا ومفهومًا وواضحًا ومعبِّرًا وجذّابًا ومحفِّزًا، ويمكن أن يتضمَّن بعض الكلمات المفتاحيّة المهمة. أما الملخّص فهو فقرة واحدة موجزة توضح أهمية البحث، ويشتمل على النقاط والأفكار المحوريّة الواردة في البحث، لكن لا تُوضع فيه أيُّ اقتباساتٍ، ولا تُكتب أفكارٌ غير موجودةٍ في المتن، ويستخدمه القارئ عادةً مؤشرًا إلى الاستمرار بقراءة البحث أو التوقُّف. أما قائمة المحتويات فتتضمَّن العناوين الرئيسة والفرعية في البحث مقرونةً بأرقام الصفحات.

تتضمَّن مقدِّمة البحث مراجعةً للأدبيّات السابقة المتعلِّقة بموضوع البحث، والثغرات أو النواقص في البحوث السابقة، وتفسيرًا لغرض البحث وأهميته بين الأدبيّات الحالية، وعرضًا للفكرة أو القضيّة الرئيسة التي يدور حولها البحث، وهذه يمكن أن تُطرح على هيئة سؤالٍ يحتاج إلى إجابة أو مشكلة/ إشكاليّة محدَّدة، متماسكة وقويّة، في حاجة إلى حلٍّ. كذلك، تتضمَّن مقدِّمة البحث شرحًا واضحًا لمنهجيّة البحث المعتمدة، مع ذكر الآليات والأدوات والتقنيات المستخدمة في البحث، ولا بدّ من اختيارها بدقة لتتوافق مع المشكلة المطروحة في البحث، كأن تُعتمد الطريقة الجدليَّة التي تناقش موضوعًا معيَّنًا أو الطريقة التفسيريَّة التي تشرح معلوماتٍ محدَّدةً ودلالاتها أو الطريقة التحليليَّة التي تتعامل مع بياناتٍ ومعلوماتٍ تتعلَّق بقضيّةٍ ما.

محتوى المقالة البحثيّة هو القسم الرئيس في أيِّ بحثٍ، ويعرض فيه الباحث المعلومات بطريقةٍ منهجيّةٍ، ويشرح موضوعه مع التطرُّق إلى الأسباب والنتائج ووجهات نظره، ويتضمَّن المحتوى عمليًّا النتائج والمناقشة. في قسم النتائج، يُسجِّل الباحث النتائج التي توصَّل إليها مستخدمًا الأرقام والبيانات والصور والخرائط، ويحاول ربطها ببعضها بعضًا. وفي قسم المناقشة تُذكر تفسيرات الباحث للنتائج التي توصَّل إليها، وتحليله لها، وآراؤه الخاصة، والإجابة عن الإشكاليّة الأساس المطروحة في البحث.

أما خاتمة البحث (الاستنتاج أو الخلاصة)، فهي آخرُ جزءٍ في البحث، وتتألف من عددٍ محدودٍ من الفقرات يؤكِّد فيها الباحث على أهمية نتائجه مقارنةً ببحوثٍ أخرى. لا تُذكر في الخاتمة معلوماتٌ جديدةٌ لم تُطرح في البحث، لكن يمكن طرح الثغرات التي يمكن للباحث نفسه أو الباحثين الآخرين العمل على البحث فيها مستقبلًا.

وفي نهاية البحث تُثبَّت قائمة المراجع والمصادر، إذ ينبغي للباحث توثيق المقتبسات والإشارة إلى أصحابها ومصادرها من خلال الإشارة إلى المرجع في النصِّ بجانب المقتبس، وفي قائمة المراجع، لأنَّ ذكرها يعطي البحث الصدقيّة العلميّة، ويُبعده من الوقوع في فخّ الانتحال، ويتيح للقارئ الاطّلاع على المراجع والمصادر في حال أراد الاستزادة أو التّأكُّد من معلومةٍ أو فكرةٍ ما، وهنالك طرائق متنوعة لتوثيقها. وبالطبع لا يجوز ذكر مراجع أو مصادر لم تُستخدم في البحث كما يفعل بعضهم ظنًّا منهم أنَّ الإكثار من المراجع يعطي البحث قيمةً أعلى. وبعد المراجع تُثبَّت الملاحق في بعض أنواع البحوث في حال تضمَّن البحث استبياناتٍ معينةً أو وثائق مهمةً. 

 

متطلَّباتٌ بديهيّةٌ للبحث العلميِّ

لا بدَّ للباحث من أن يكون عارفًا بأسس البحث العلميِّ ومرتكزاته وخطواته وشروط نشره في المجلات المحكَّمة، ولا بدَّ له أيضًا من ممارسة هذا النوع من العمل بصورةٍ متكرِّرةٍ؛ لأنَّ هذا يساعده في تقليص الخوف والقلق المرافقين لعمليّة كتابة البحوث من جهة، وفي تحسين عمله البحثيّ بمرور الزمن، وجعل الكتابة شيئًا طبيعيًا بالنسبة إليه، وتطوير أسلوبٍ خاصٍّ به في الكتابة من جهةٍ أخرى. يمكن أن يحظى الباحث بفوائد كبيرةٍ أيضًا من خلال القراءة النقديّة للبحوث الأخرى وتحليلها وتشريحها، والاطّلاع على الانتقادات الموجّهة إليها، لأنَّها ستسمح له بالتعرّف إلى الأنماط المختلفة من كتابة البحوث والتعلّم منها، وستنمّي حسَّه البحثيّ، خصوصًا إذا كان الباحث يدوَّن ملاحظاته الخاصة في أثناء القراءة، تلك التي يمكن أن تشكِّل زوادةً مهمةً لكتابة بحوثٍ فريدةٍ.

لذلك ينبغي للباحث، قبل البدء بكتابة أيِّ بحثٍ، أن يجري بحثًا جديًّا ودقيقًا حول الموضوع الذي سيكتب عنه، وأن يجري مسحًا علميًّا شاملًا، لا يستثني صغيرة أو كبيرة كُتِبَت عنه، وأن يُنعم النظر في المعلومات المتوافرة حوله في مصادر موثوقةٍ يمكن الركون إليها لدعم قضيّته البحثيّة، مثل المجلات الدوريّة المحكَّمة، والكتب والببليوغرافيات، وأن ينظِّم عمله بالطريقة الملائمة حتَّى يستثمر ما بذله من جهد في أثناء كتابته البحث.

التخطيط والتنظيم من أساسيات نجاح العمل البحثيّ وركائزه، لذلك من المفيد أن يلجأ الباحث إلى كتابة مسوّدةٍ أو مخطّطٍ تفصيليٍّ أو خطّة عملٍ أو عناوين عريضةٍ عن الموضوع قيد البحث، إذ يستطيع الباحث، من خلال المخطّط الأولي للبحث، ترتيب المعلومات والبيانات التي عثر عليها في المراجع والمصادر المختلفة في أثناء عملية التقصّي، وتوزيعها على العناوين الأوليّة. التنظيم يسهِّل عرض الأفكار والمعلومات في سياق البحث، ويجعلها تصبُّ في مصلحة موضوع النصِّ ونوعه، ومن ثمّ يضمن وصولها إلى القارئ بطريقةٍ ناجعةٍ تجعله قادرًا على فهمها.

بعد كتابة المسوّدة الأولى من البحث والانتهاء منها، تأتي الخطوة التالية من خطوات البحث العلميّ، وهي المراجعة: التعديل والتنقيح والتصحيح، التي ستوصل الباحث إلى النسخة ما قبل النهائيّة؛ مراجعة المخطّط العام للبحث وتناسق جميع أجزائه وترابطها معًا، بدءًا من مقدِّمته، ومرورًا بمشكلة البحث والأفكار الرئيسة والنتائج والمناقشة، وصولًا إلى الخاتمة، ومراجعة الفقرات من حيث ترابط أفكارها، وتزويدها بالإيضاحات والتفاصيل في حال كانت هناك حاجة إليها، والتأكُّد من ذكر المراجع المستخدمة كلِّها وتوثيقها بصورةٍ صحيحةٍ بحسب نظام التوثيق المعتمد، ومراجعة الحواشي والهوامش في البحث كاملًا، والتثبّت من وضوحها ودقّتها ووجودها في المكان الصحيح.

عند الانتهاء من مراجعة البحث، تأتي مرحلة التحرير اللغويّ من أجل الوصول إلى نصٍّ فصيحٍ واضحٍ تتَّسق لغته مع مضمونه ومقاصده، وجاهزٍ للنشر؛ استبعاد الكلمات الغامضة، دقّة المصطلحات والمفاهيم المستخدمة ووضوحها، استبدال الجمل الطويلة بأخرى قصيرةٍ وواضحةٍ، الأخطاء المطبعية واللغويّة والنحويّة، علامات الترقيم، وغيرها. ويفضَّل عرض البحث، قبل إرساله إلى النشر، على متخصِّصين ذوي خبرة في الكتابة البحثيّة أو التحرير، أو على أصدقاء مقرَّبين يقرؤون كثيرًا، للاستفادة من انتقاداتهم وملاحظاتهم، ولا مشكلة بالطبع في عرضه عليهم في مرحلة المسوّدة الأولى أو في المراحل التالية.

بقي أن نشير في هذا السياق إلى أهميّة انتباه الباحث إلى الشروط والمعايير التفصيليّة التي تضعها المجلات المحكَّمة لنشر البحوث العلميّة، ومن ضمنها ضوابط العلاقة بين الباحث والمجلة التي تُوضع بهدف حفظ حقوق الطرفين؛ المهمُّ في هذه العلاقة، من جهة أولى، تثبيت ملكيّة المؤلف للبحث وذكر اسمه عليه عند نشره (الملكيّة الفكريّة)، ومن جهةٍ أخرى إقرار الباحث بأنَّ بحثه خالٍ من الانتحال، جزئيًّا أم كليًّا، وتحمّل الباحث نفسه مسؤوليّة المعلومات والأفكار الواردة في بحثه، وتعهّده بعدم إرسال بحثه إلى مجلةٍ أخرى أو نشره في مكانٍ آخر (ملكيّة النشر).

 

(4)

خاتمة؛ أكاديميا بلا فكرٍ أو همومٍ

ينظر كثيرون بشيءٍ من القداسة إلى الأكاديميِّين، ويرتدي بعض الأكاديميِّين تاجًا من الوقار، ويُمارس بعضهم التصنّع والتكبّر، مع أنَّ الوسط الأكاديميِّ يشتمل على العديد من المفارقات والظواهر السلبية، مثل بقية الأوساط المهنية، ومتخمٌ بالاستعراضات والمجاملات وتبادل المصالح والشلليّة والتجاوزات العلميّة.

يسعى كثيرٌ من خريجي الجامعات للظفر بشهادة الدكتوراه لغاياتٍ مختلفةٍ، ربما لأجل التباهي أمام الآخرين في الوسط الاجتماعي أو من أجل الحصول على وظيفةٍ جيّدةٍ أو منصبٍ مرموقٍ أو امتيازاتٍ ماديةٍ ومعنويةٍ أخرى. لذلك، يتعامل كثيرٌ منهم مع البحث العلمي بوصفه واجبًا ثقيلًا ينبغي له إنجازه لينال الشهادة العلمية المرغوبة، من دون الاهتمام بالسؤال المهمِّ: ما الذي سيقدِّمه بحثي المزمع في حال إنجازه إلى العلم والمعرفة؟ هذا كلُّه طبيعيٌّ ومفهومٌ ومبرَّرٌ في ظلِّ الأوضاع البائسة المعروفة للتعليم والتوظيف، لكنَّه لا يمنعنا من الإقرار بحقيقة أنَّ الأكاديميَّ ليس محتومًا أن يكون مثقفًا أو مبدعًا أو منتجًا للمعرفة، وأنَّ القيمة العلمية للفرد تتعيَّن، في الحصيلة، بالإنتاج لا بالشهادة.

عندما لا تكون الشهادة الأكاديميّة وسيلةً لتطوير الذات وإنتاج المعرفة والنهضة بالمجتمع فإنَّها ليست أكثر من شهاداتٍ توظيفيّةٍ بلا قيمةٍ مضافةٍ، لا تأثير لها في الحقل المعرفيِّ. بعض الأكاديميِّين يصبح عمله روتينيًّا مع الزمن، ويفتقد إلى الإبداع، ولا يساهم بأيِّ درجةٍ أو طريقةٍ في زيادة الرصيد المعرفي والعلميّ، أكان على المستوى الذاتيِّ أو العامِّ، ومنهم من استلموا مناصب ثقافيةً عاليةً، واعتلوا مراكز مهمّةً في الجامعات، لكن أيضًا من دون أيِّ تأثيرٍ إيجابيٍّ على مستوى الارتقاء بالبحث العلميِّ. لا شكّ في أنَّ أحد أسباب هذه الحال البائسة يكمن في معايير التوظيف والترقية المعتمدة في الحقل الأكاديميِّ، ما جعل الاهتمام يتركَّز على الإنتاج الكمِّي على حساب النوعيّة.

من أبرز سمات البحث العلميِّ السائدة اليوم، خصوصًا في المنطقة العربية، في مختلف العلوم النظريّة أو العمليّة، بصورةٍ عامّةٍ، أنَّها جميعها تسير وفق نمطيّةٍ محدَّدةٍ ومعتمدةٍ، وتسلك طرائق معروفةً يسهل اتّباعها، فقد أصبح الطابع الشكلانيُّ أو التقنيُّ مسيطرًا على الكتابة البحثيّة، إلى درجةٍ تغيب فيها روح الكاتب، ويصبح نصُّه مشابهًا لنصوص آخرين، ويكون بحثه أقرب ما يكون إلى النصوص المدرسيّة التي أصبح ينتجها الطلاب في المدرسة الإعداديّة أو الثانويّة وفق خطواتٍ محدَّدةٍ ومرسومةٍ سلفًا. 

على الرغم من الاتفاق على وجود خطوات عريضة محدَّدة لإنتاج بحثٍ علميٍّ حول موضوعٍ ما، ووجود معايير تحكيميّةٍ متفقٍ عليها أيضًا، فإنَّ الركيزة الرئيسة لأيِّ عملٍ كتابيٍّ يطمح إلى أن يُسمَّى بحثًا علميًّا هي الأصالة والإبداع؛ أي تميّزه واشتماله على إضافةٍ علميّةٍ جديدةٍ، تتفتح من خلالها آفاقٌ علميّةٌ جديدةٌ من شأنها الارتقاء بالفرد والمجتمع، وهي ركيزةٌ مفتقدةٌ في كثيرٍ من البحوث التي ينشرها أكاديميُّون وباحثون وأساتذة جامعات في المنطقة العربيّة. الأصالة والجدَّة والابتكار أهم السمات التي تميِّز البحث العلمي، فالباحث يبحث ليضيف شيئًا جديدًا، أصيلًا، مبتكَرًا، إلى العلم والمعرفة، لا ليجترَّ ما هو معروف أو ليكرِّر ما هو موجود مسبقًا؛ مثل إيجاد موضوع جديد لم يُدرس سابقًا أو إعادة دراسة موضوع قديم في زمن جديد أو بيئة جديدة تغيَّرت فيه الأحوال والأدوات، ومن ثمَّ الحصول على نتائج جديدة، أو دراسة مشكلة جديدة في موضوع مدروس سابقًا، أو إبداع طريقة جديدة أو مقاربة مختلفة في دراسة الموضوع نفسه والمشكلة ذاتها، أو تقديم عملٍ نقديٍّ للأعمال السابقة المشابهة لعمله البحثيِّ.

يشمل هذا النقد كثيرًا من الأكاديميِّين والباحثين الذين يفخرون بنشر بحوثهم في مجلات محكَّمة، تلك التي باتت أيضًا تُصدر أعدادها بروح روتينية بعيدة عن الأصالة والإبداع وتقديم المفيد حقًا. في اعتقادي إنَّ أحد الأسباب المهمّة وراء شيوع هذا النمط من الأكاديميّة، أكاديميّة مملّة وفقيرة الروح وغير مفيدة، هو عدم اهتمام الأكاديميِّين بالفكر والفلسفة أو عدم اهتمامهم بقضايا مجتمعاتهم الحقيقيّة، ما يعني أنَّهم تحوَّلوا إلى موظفين أو تقنيِّين لا أكثر. 

العقليّة الأكاديميّة البحت أقرب إلى عقليّة الموظَّف أو العقل التقنيِّ المتخصِّص بحقلٍ علميٍّ ما، تنحصر همومها في تقديم بحثٍ علميٍّ ونشره في مجلَّة محكَّمة يقرؤها عددٌ قليلٌ من الأفراد، وتقدِّم له فائدة على المستوى الوظيفيِّ ماديًّا أو معنويًّا. الثقافة أوسع كثيرًا من الأكاديميَّة، وليس كلُّ أكاديميٍّ مثقفًا؛ لا يغدو الأكاديميُّ مثقفًا إلّا عندما يصبح مهمومًا بأهدافٍ ومثلٍ وأفكارٍ معيّنةٍ وثيقة الصلة بالواقع وصراعاته السياسية والثقافية. الأيديولوجيا شيءٌ والثقافة شيءٌ آخر؛ الأيديولوجيا تقتل الأكاديميّة والثقافة في آنٍ معًا.

ينبغي لنا أخيرًا ألّا يغيب عنّا أنَّ الخلل الرئيس ليس في الباحث الجامعيِّ/ الأكاديميِّ الذي يسعى للكسب من دون بذل الجهد المتوافق مع متطلبات الإنتاج العلميّ، بل في المنظومة التعليميّة والتربويّة كلّها التي تحتاج إلى إعادة بناء شاملة، وهذا يجعلنا نرى أنَّ جذر المشكلة سياسيٌّ في الحصيلة، أي النظام الاستبداديِّ المهيمن، بما يفرضه من آلياتٍ وأنماط عملٍ مشوّهةٍ تتحكَّم في شتّى مفاصل الحياة، ومن ضمنها قطاع التعليم العاليّ، وما يشيعه من قيمٍ وأخلاقيّاتٍ في المجتمع ومؤسَّساته وقطّاعاته المتنوّعة.

حازم نهار

كاتب وباحث سوري في الشؤون السياسية والثقافية، له إسهامات عديدة في الصحف والمجلات ومراكز الدراسات العربية، باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نشر عددًا من الكتب السياسية والثقافية، منها “مسارات السلطة والمعارضة في سورية” الذي صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و”سعد الله ونوس في المسرح العربي”، وله عدة ترجمات، منها: سورية: الاقتراع أم الرصاص لكاريستين ويلاند، سورية: ثورة من فوق لرايموند هينبوش، بناء سنغافورة لمايكل دي بار وإزلاتكو إسكربس، تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث لرايموند هينبوش، سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض لميريام كوك، لعبة الانتظار لبينت شيلر، أسّس وأدار مؤسَّسات بحثية وثقافية ومدنية عديدة، رئيس تحرير مجلة (رواق ميسلون) للدراسات.

مشاركة: