شكلت هزيمةُ حزيران عام 1967 انتكاسةً للمثقفين والمفكرين العرب، ولا سيَّما من القوى القومية واليسارية. وتوافقَ ذلك مع انفتاح النظامِ الجديد في مصر على الفكر السلفي بهدف ضرب الفكر القومي واليساري، فضلًا عن انفتاحه الاقتصادي الذي عمَّق الفقر وزاد أعداد المحرومين. وفي هذه الأجواء بدأ صعود الفكر السلفي، الذي أخذ يعد العدة لاستقطاب الأعداد المتزايدة من المحرومين على الصعيدين الاجتماعي والإنساني.
ثم ما لبثت حرب تشرين عام 1973 أن مهدت الطريق نحو ارتفاع أسعار النفط وتزايد السيولة الناتجة عن ذلك، ومكَّنت من دعم التيار الوهابي السلفي. كما عزَّزت الثورة الخمينية في إيران والحرب التي نتجت من دخول الاتحاد السوفياتي إلى أفغانستان، من صعود التيار السلفي أيضًا. وقد تزامن مع ذلك بروز عدد من المفكرين المجددين مثل؛ محمود محمد طه من السودان، وخالد محمد خالد من مصر، والصادق النيهوم من ليبيا، ومحمد شحرور من سوريا وغيرهم. لذلك رأيت ضرورة إعداد هذه المقالة، بالاستعانة بما ورد في موسوعة “أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر” لمؤلفها الدكتور أيوب أبو دية. لمناقشة بعض أعلام التجديد، مثل محمود محمد طه وخالد محمد خالد.
أما محمود محمد طه فهو مجدِّد إسلامي سوداني، درس الفلسفة والمنطق، وأسَّس الحزب الجمهوري عام 1945، الذي دعا إلى الاستقلال، وإقامة النظام الجمهوري. كما دعا إلى الإفادة من الحضارة الأوروبية، ولكن مع التمسك بالدين الحنيف، كذلك دعا إلى تعليم البنات، ولكن ضمن نظام تعليم مختلف عن تعليم الذكور. وقد سُجن أكثر من مرة، ثم أعدمه جعفر النميري أخيرًا عام 1985 بتهمة الردة عن الإسلام. فكيف جدَّد محمود محمد طه في الفكر الديني؟
اجتهد محمود محمد طه في تفسير القرآن الكريم، فرأى أنَّ الآياتِ المكـّيـّـةَ ينبغي أن تكون هي الأساس للشرع، وأنَّ النبي الكريم عندما كان في مكة لم يتمكن تمامًا من تعليم المسلمين أسس هذه الآيات. لذلك اعتقد طه أن زماننا هو زمان بعث أصول الآيات المكية بوصفها هي الأصول، أمّا الآيات التي جاءَت من بعدها فهي الفروع. ورأى طه أن الآيات اللاحقة لم تنسخ الآيات الأولى، ومن ثم فإنه ينبغي ألَّا يكون هناك إكراه في اعتناق الدين، أو عقاب لتارك الصلاة، أو حكم للردة في الإسلام، أو قتال للذمي حتى يأتي الجزية عن يد وهو صاغر، لأنه حكم مرحلي اقتضته ظروف الماضي؛ فهذه كلها ليست من أصول الإسلام، إنما من الفروع التي كانت ملائمة للقرن السابع الميلادي وما تلاه من قرون.
كما اجتهد محمود طه في الأحكام (الاعتقادية، والخُلقية، والعملية)، وناقش أصولها، ورأى أنَّ الأحكام خاضعة للزمان والمكان (عمر بن الخطاب مثالًا)، ما عدا قواعد الإسلام (الشهادتان، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج)، وأنه ينبغي النظر إلى الدين الإسلامي بوصفه دينًا متطورًا. وأن الإنسان نفسه يرتقي في معارفه وحريته الفردية، وهذه المراحل هي مراتب ومستويات تسمو بالتدرج إلى أن يتمكن الإنسان من أن يكون اتصاله بالله اتصالًا دائمًا ومباشرًا، كما اعتقد فلاسفة الصوفية كالحلاج، وابن عربي، وجلال الدين الرومي، وغيرهم.
ورأى محمود محمد طه أنَّ الزواج ينبغي أن يكون بزوجة واحدة فقط، ورفض لذلك تعدد الزوجات من باب العدل (الآية 129 من سورة النساء). وهذا ينسجم مع رؤيته التجديدية في فهم الدين الإسلامي. إذ اعتقد أن آراء الفقهاء لا تصلح في غالبها لمجتمع اليوم، فقد كان الإطار المعرفي الذي احتضنها وأنتجها محدودًا بحدود ذلك العصر. وفي الوقت نفسه يرى محمود محمد طه: “أننا لسنا في حاجة إلى إعادة إنتاج التجربة الغربية كما هي، لأننا في حاجة إلى نقد نظريتها المادية للوجود، ونقد عقلانيتها المفرطة في العقلانية، ونقد فردانيتها المفرطة التي ألغت البعد الروحي والتواصل الاجتماعي”.
أما الشيخ الأزهري خالد محمد خالد، المتوفى عام 1996، فقد تبلورت أفكاره الداعية للتجديد في كتابه “من هنا نبدأ”، وهل ثمة ما هو أكثر وضوحًا من هذا العنوان شعارًا للنهج التجديدي!؟ فقد سعى إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي بمعارضة مَلَكية فاروق، ومعارضة ثورة يوليو من خلال كتابيه “مواطنون لا رعايا”، و”هذا هو الطوفان”، ومضى الشيخ خالد محمد خالد صوب الإصلاح الديني أيضًا من خلال عدد من الرسائل التي وجهها إلى شيخ الأزهر آنذاك عبد الرحمن تاج دعاه من خلالها إلى البدء في الإصلاح داخل الأزهر. وقد وصفت هذه المقالات بالشجاعة والجرأة.
صدر مشروع خالد محمّد خالد الفكري الأول في كتاب بعنوان: “بلاد مَنْ؟”، ويتضمَّن الكتاب أفكارًا رئيسة ثلاث، هي: موقف من رجال الدين، وموقف من الأوضاع الاجتماعية السائدة، ومسألة الحكم في الإسلام. ففي مقدّمته للكتاب يعتبره محاولة لرسم معالم تحوّل اجتماعي مسالم صوب مشروع قومي شامل لا تنافر فيه، وصوب “اشتراكية عادلة لا استغلال ولا ظلم فيها.. وإلى وعي ناضج سليم لا سلطان للرجعية أو للكهانة عليه.. وإلى سلام غامر يُبدِّل حقد المجتمع حبًا”، وقد واجه هذا الكتاب العديد من العقبات ومحاولات المنع قبل أن يفرج عنه بقرار من محكمة القاهرة.
كذلك طالب خالد محمّد خالد بحرية المرأة السياسية وحقها في التعليم العالي وفي السفر إلى الخارج. ورأى أنه لا يمكن أن تكتمل الدولة الوطنية دون مشاركة كاملة للمرأة في مناحي الحياة كافة، وقد توافق هذا التوجه مع دعوات تحرر المرأة لقاسم أمين ومحمّد عبده، وسعد زغلول، وهدى شعراوي، وأحمد لطفي السيّد، وغيرهم.
وكان موقفه من الكهانة شديد الوضوح، فقد انتقدها ورأى في الدور الذي تؤديه دعمًا للرجعية الاقتصادية والاجتماعية، وإنها تحارب العقل حتى لا يكشف العقل البشري عوراتها. ودعا إلى التفريق بين الدين والكهانة، وسخر من ترويجها للفكرة القائلة إن الفقر محبوب، وإن الصدقات نظام اقتصادي متكامل، فيما عبر عن الصدقات بقوله إنها تغسل قلوب الناس وتسد رمق الفقر المدقع، ولكنها لا تعالج هبوط المستوى المعيشي للجماعات.
ورد الشيخ خالد محمد خالد على مناداة الكهانة بالروحانية والعزوف عن الدنيا ومباهجها قائلًا: “كيف تمارس الشعوب المنهكة الفقيرة الفضائل؟ فما السلوك البشري سوى وليد الحالة الصحية والنفسية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية التي يتمتع بها الناس”، ثم يعقب قائلًا: “لقد تجاوز عصرنا اليوم عصر الزهد والموت، إنه عصر الحياة.” وحمل على الكهانة لمحاربتها علماء عصر النهضة مثل غاليليو وبرونو، ولمحاربتها قاسم أمين بسبب دعوته إلى تحرر المرأة، ونادى بالعودة إلى ممارسات السلف الصالح الذين كرموا العقل؛ مثل الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، إذ قال “إن مَن حَرَمْتَه العقل فماذا وهبته؟”.
رأى الشيخ خالد محمد خالد صعوبة ما تسعى الدولة الدينية لإقامته (حدود السرقة والزنا وشرب الخمر). واستشهد بقول الرسول الكريم: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»، ورأى أن معاقبة الدولة الدينية للمرتد تعني أن الدولة عاجزة عن الإقناع بدين الله، وقال إن هذه نقيصة. ويضرب الشيخ خالد مثل الدولة المسيحية التي استبدت باسم الدين، وما أن عادت الكنيسة بالمسيحية إلى مكانها الطبيعي في التبشير والهدى فقط، حتى بدأت تستعيد سلطانها الأدبي واستقرارها الذاتي. وقيمتها المعنوية، ويتابع الشيخ خالد محمد خالد” ثم جاءَت الرأسمالية كأحد أطوار التمدن والرقي، وبات التقدّم اليوم يفرض أن تؤول إلى الاشتراكية كي تتحقق الرفاهية للناس كلهم”.
ختامًا يمكن القول إنَّ محاولات التجديد في الدين منذ مطلع القرن العشرين لم تكن ترفًا، بل ضرورة فكرية رآها المفكرون العرب، وناضلوا في سبيلها بالرغم من المعيقات البنيوية المتمثلة في الدولة الاستبدادية، ويبقى السؤال قائمًا؛ “هل نجحت مساعي التجديد؟
إنَّ نظرة إلى حال أغلب الشعوب الإسلامية في الوقت الراهن تقدم إجابة سلبية لهذا السؤال، فقد مضت هذه الشعوب في طور جديد من السبات.
لكنَّ هناك آفاقًا يمكن أن تحمل بشائر التغيير تتمثل في بعض المصادر التي تعالج القضايا ذات العلاقة؛ فمثلًا يمكن قراءة مهدي عامل لفهم طبيعة البرجوازية الكولونيالية التي تحكم دول الأطراف، وحسين مروة لفهم الأسس التي قامت عليها الدولة الإسلامية الأولى، ومحمد شحرور لفهم كيفية بناء الإسلام الفقهي، وما إلى ذلك.