كانت ديانة بلاد فارس القديمة تتمحور حول عبادة الأرواح التي كان يُظن أنها تعيش في الأشياء الطبيعية، كالشجر والأنهار والقمر وغيرها. وقد ازدهرت هذه المعتقدات القديمة لفترة طويلة من الزمن، ولكن ما لبثت أن اختفت عند ظهور رجل معين بات يدعى: زرادشت. ويقدم التقليد الفارسي السنوات ما بين 660 الى 1000 قبل الميلاد كتاريخ ميلاد زرادشت، وهي فترة قريبة من ظهور الديانات الكبرى، كالبوذية والكنفوشيوسية، التي ارتبطت بنضوج الأنظمة الخراجية العالمية الطابع، كما ترى مدرسة التبعية مثلا، والتي استطاعت بحكم تركيبتها البنيوية استحواذ فائض الإنتاج بطريقة شفافة عبر الخراج والضرائب المباشرة، وتطلب ذلك أيديولوجيا كونية الطابع تمثلت بظهور الديانات الكبرى عالمية الطابع التي ما تزال قائمة حتى يومنا هذا.
لم يكن زرادشت شخصًا عاديًا، إذ أعلن تاريخ الزرادشتية عن أن ولادة زرادشت كانت نتيجة حمل طاهر (حبل بلا دنس) على نحو ولادة السيد المسيح من مريم العذراء، وحورس ابن الاله أيزيس، وكريشنا في الهندوسية. وكان يُعتقد أن زرادشت يجمع بين ثالوث “المجد” و”الروح الحارس” و”الجسد المادي”، وهي فكرة شبيهة بالثالوث المقدس في المسيحية، اضافة إلى أنه كان معروفا بكونه مسؤولًا عن المعجزات، بما في ذلك تلك التي حدثت حتى عندما كان ما يزال في بطن أمه. تشابه مذهل مع الثالوث في المسيحية ومعجزات المسيح وموسى ومحمد وساي بابا Sai Baba في الهند وغيرهم). وقيل أيضا: سعت الشياطين لتأجيل ولادته، وحاولت خنق الرضيع لحظة ولادته، ولكن دون جدوى. وعندما ولد الطفل المعجزة، صرخ بأنفاسه الأولى وأطلق ضحكة نصر عظيمة سمعت في أنحاء الأرض كافة.
كان زرادشت بالفعل طفلًا رائعًا وفقًا لرواية الأساطير. ففي سن مبكرة، اشترك مع كهنة الدين القديم في نقاش محتدم ومرير، فهزمهم شر هزيمة. وعندما كبر، خرج إلى العالم بحثًا عن الحقيقة. وهنا تشابه آخر مع المسيح الذي انخرط في مناقشات دينية في أماكن العبادة اليهودية، وكذلك الرسول العربي الكريم الذي حاور المشركين، وبوذا الذي ترك قصره للبحث عن الحقيقة، والشاعر الصوفي جلال الدين الرومي، والقديس فرانسيس الأسيزي، وغيرهم.
الدين مرتبط بأسلوب الحياة، إذ يسعى الإنسان من خلاله لتنظيم علاقاته الاجتماعية لتتوافق مع بيئته، لذلك تختلف الأديان اختلافًا كبيرًا وفقًا لتنوع الثقافات والمناخات في العالم. فعلى هضبة إيران شديدة الانحدار، أرض للصراع الدائم والنضال الدؤوب ضد الرياح العاتية والطقس البارد والبرية القاسية، فلا بد لهذا الدين الذي تصوره زرادشت، أن يكون شرسًا وقاسيا ليعكس أحوال تلك الظروف البيئية، كما رأى لويس براون في كتابه: عالم الاعتقاد The Believing World. وبناءً على ذلك كان الكون كله ساحة معركة عظيمة يتصارع فيها الخير والشر من أجل السيادة والهيمنة.
أحد أطراف ذلك الصراع كان أهورا مازدا، الاله أو الروح الحكيمة، إله الخير والضوء الذي يخوض معارك مستمرة مع أهريمان، وهي القوة المدمرة المرتبطة بالموت والمرض والفوضى والفساد (النظام الطبيعي)، إنه شيطان الأكاذيب، مدعومًا من قبل معظم الآلهة القديمة التي هيمنت على الإيمان الشعبي. وفي منتصف الطريق بين هاتين القوتين المتعارضتين والمتصارعتين، وقف زرداشت ليختار الجانب الذي يقاتل معه: فإما إله الخير والطهارة والنور والعدل، أو إله الشر والظلام.
أهورا مازدا كان إله العدل، ولكنه لم يكن على الاطلاق إلهًا رحيمًا. حتى الحيوانات النافعة، مثل تلك التي تقضي على القوارض والثعابين والمخلوقات الشريرة الأخرى، كانت تعد مقدسة وتستحق المساعدة. وهكذا ارتبطت حياة جميع الحيوانات الأليفة بالقداسة، خاصة الأبقار والكلاب والقطط والأغنام. كان الاعتناء بها هو أسمى أفعال الإيمان. كذلك بشّر نبي إيران القديم بآلية للتغلب على شرور الكون وإدانة الآلهة القديمة، فأبدع طقوسا وثنية متمثلة في تقديس النار. لكنه أوضح أن التقدمة على مذبح النار ليست الطريقة الوحيدة للعبادة، لأن النهج الأساسي هو الكدح والعمل المنتج اليومي، حيث قال: “من يزرع الذرة يزرع الدين”.
لم تكن الصلاة، بل العمل المفيد والمنتج هو الأمر الذي كان مطلوبًا من عبدة أهورا مازدا. كان أنبل شيء يمكن أن يفعلوه هو تكريس أنفسهم لمهمة عملية ذات فائدة، مثل ري بقعة جافة من الصحراء، أو بناء جسر فوق نهر. كان أهورا مازدا في جوهره روح الحضارة والتقدم، وكانت العبادة الوحيدة التي يقبلها هي نشر النظام والاستقرار ولكن دون إظهار الرحمة للعدو، سواء كان هذا العدو بعض الأعشاب أو الوحوش أو من البشر المتوحشين.
وفي المقابل، كان الكسل عند زرادشت جزءًا من عمل الشيطان. فكل صباح يهمس شيطان الكسل في أذن الإنسان قائلا: “نم أيها الفقير فلم يحن وقت العمل بعد “. ولكن، أعلن زرادشت أنه وحده من يقوم من النوم أولًا مع بزوغ كل فجر جديد، فهو من سوف يكون أول من يدخل الجنة، جنة النعيم الأبدي. فلم يترك زرادشت مجالًا للشك في وجود جنة بالفعل، وأن هناك أيضًا جحيمًا بعد الموت. وكان على ثقة أن الأتباع الحقيقيين لأهورا مازدا سيدخلون الجنة بكل تأكيد.
أخيرًا، وفي نهاية الزمان، سوف ينخرط العالمان، عالم الخير وعالم الشر، في صراع رهيب. وسوف تنتهي الحرب الطويلة بين الخير والشر في “نهاية الأيام”. وعندها، ولمدة موسم كامل، سوف يغطي الظلام الكثيف وجه الأرض، وسوف يهتز الكون كله اهتزازا عظيما. وهذه هي فكرة آرمجدون الشهيرة في سفر الرؤيا من الكتاب المقدس، وقبلها ما جاء في حضارة ما بين النهرين: الصراع بين مردوكMarduk وتيامات Tiamat، وفي الهندوسية تقابل هذه الفكرة التجسد الأخير للإله فشنو Vishnu.
ولكن، في نهاية الأمر، يهدأ الغضب الجامح والمستعر، وسوف يخرج أهورا مازدا منتصرًا. ثم تذوب التلال والجبال كلها وتنهار لتسقط على الأرض، وعندها يتعين على جميع الناس المرور فوق الحمم والمواد المنصهرة. أما بالنسبة إلى الصالحين منهم فسوف تكون تلك الحمم كاللبن الدافئ، فيما يحترق الاشرار فقط. وبعد ذلك تصبح الأرض جنة أبدية، لا جبال فيها، ولا صحارى، ولا حيوانات مفترسة، ولا متوحشون، وتبقى كذلك إلى أبد الدهور.
وكحال الديانات الأخرى، تغيرت تعاليم زرادشت بمرور الوقت على يد من جاء بعده من الكهنة. فعندما قال “كن نقيًّا” فإنه كان يقصد أن نكون أنقياء في عمل الخير والاستقامة في العمل، ولكنهم تخيلوا أنه قصد أن يكون الإنسان طاهرًا طقسيًا وأن يغتسل بالماء للطهارة. وهكذا ظهرت فكرة ما هو طاهر وغير طاهر، ومقدس وغير مقدس. فمن الأشياء التي عدت “غير مقدسة” هي الجثة، لذلك، أصبح التخلص من الموتى مشكلة خطيرة ومعقدة، حيث لم يكن من الممكن دفن الجثة أو حرقها أو إغراقها، لذلك تركت في أعالي “أبراج الصمت” كي تلتهمها النسور، وبعد ثلاثة أيام من افتراسها، تلقى العظام المتبقية في حفرة.
وكان ممنوعًا أداء أي طقس ديني ما لم يكن الكاهن قد “طهر” نفسه أولًا، كما لو كان يقبع في “نجاسة” حقيقية. واعتقدوا أن بول البقر من أقوى “المطهرات”، فكان على الراغبين في التطهر أن يمسحوا أنفسهم بهذه المادة ست مرات في اليوم، ولمدة تسعة أيام. اضطروا إلى التغسل بالبول من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، حتى يتم طرد الشيطان “النجس”. وكانت نقطة خروج الشيطان دائمًا هي من الإصبع الكبير للقدم اليسرى، وعندما يُطرد الشيطان يرحل إلى شمالي إيران حيث تعيش جميع الشياطين.
فما حدث في الديانات اليانية Jainism والبوذية والتاوية حدث أيضًا في الزرادشتية. فوراء كل نبي جاء كهنة وفقهاء حاولوا “تنظيم” و”تأويل” الحقيقة التي قالها سيدهم على طريقتهم الخاصة، وبما يناسب مصالحهم ومصالح السلطة التي كانوا يعملون في خدمتها. وعلى الرغم من فشل الكهنة في الحفاظ على إنجيل زرادشت، إلَّا أنهم أجادوا الحفاظ على مصالحهم، فجعلوا أنفسهم مانحين للخلاص الأزلي، ونظموا أنفسهم على نحو تراتبي، فأقاموا البابوية على الأرض. وكان يطلق على هذه الطبقة: المجوس. أفلح الكهنة في إعطاء الانطباع أن النبي نفسه أمر بعبادة هؤلاء “الآلهة” والقادة الجدد وطاعتهم.
وعلى مدى قرنين من الزمان، كافحت الزرادشتية في مواجهة المسيحية كي تكون دين الإمبراطورية الرومانية. ولكنها عندما هُزِمَت أخيرًا، حلت محلها المانوية، وهي ديانة تأسست في القرن الثالث بعد الميلاد على يد النبي الفارسي ماني Mani، الذي صلبه المجوس بوصفه هرطيقًا. جمعت المانوية عناصر من مختلف التقاليد الدينية، بما في ذلك الزرادشتية والمسيحية والغنوصية. وادعى ماني أنه آخر نبي أُرسل لجلب المعرفة الحقيقية للتنوير الروحي للبشرية.
ولكن، ظلت أهمية الزرادشتية باقية من حيث التأثير الذي مارسته على تطور عدد من الديانات الكبرى. فمثلا قدمت مساهمات لليهودية، منذ نحو عام 538 قبل الميلاد، عندما استولى الفرس تحت حكم كورش على بابل وحرروا اليهود المنفيين منذ زمن نبوخذنصّر، ونحو عام 330 قبل الميلاد عندما دمر الإسكندر الأكبر الإمبراطورية الفارسية فوقع اليهود تحت سيطرة الزرادشتيين مباشرة. تعلم اليهود من الزردشتيين أن يؤمنوا بأهريمان، الذي دعوه بالعبرية: الشيطان. ومن الممكن أيضًا أن يكون اليهود قد تعلموا منهم أن يؤمنوا بالجنة والنار ويوم القيامة والثواب والعقاب.
لقد طورت الزرادشتية أفكارًا رائعة جدًا عن يوم القيامة، ولكن عندما سئم أتباعها من انتظار “نهاية الأيام” التي تنبأ بها زرادشت، بدأوا يؤمنون بمحاكمة خاصة لكل منهم، وهو يوم مروع من المحاكمة يحين فور وفاة الانسان. كان يُعتقد أن روح كل ميت يتم نقلها إلى جسر مصيري، ثم تؤمر بالسير إلى الأمام، فإذا كانت روح إنسان صالح، يصبح الجسر عريضًا وتذهب الروح مباشرة إلى الجنة. ولكن، إذا كانت روح شخص شرير، فإن الجسر يصبح ضيقًا جدا كحد السيف، فتقع روح المذنب في جحيم أهريمان لتتذوق أمر العذاب.
وهكذا، نمت التصورات بشأن هذه القضايا الاشكالية، التي ترعرعت منذ البداية في حضن الحضارتين الفرعونية وبلاد ما بين النهرين، في جنبات الهضبة الايرانية. ورغم أعداد أصحاب المذهب الزردشتي المحدودة الباقية اليوم في إيران والهند فقد سيطر تصور الزرادشتية لـ “نهاية العالم” والجنة والنار والثواب والعقاب على الفكر الكوني بأكمله، وكان تأثيرها مهمًا على المعتقد اليهودي بشكل خاص، والذي انتقل بدوره الى المسيحية والاسلام.
وبفضل هذا التأثير الواسع الانتشار لأفكارها، يمكن تسمية الزرادشتية اليوم بالديانة والفلسفة العالميين، وإنْ كانت أقرب الى الديانة منها إلى الفلسفة، لأنَّ الديانة تركز على الإيمان والاعتقاد والممارسات المنظمة، بينما تستكشف الفلسفة المعارف والأحكام العقلية بتفكير نقدي حول الأسئلة الأساسية للوجود والأخلاق وطبيعة المعرفة.