Search

قراءة في كتاب السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا

  صدر مؤخرًا عن دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع كتاب مترجم بعنوان “السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا”، للصحافي والباحث الإنجليزي نيكولاس كار (Nicholas Carr)، ترجمة وفاء م. يوسف. 

يأخذ المؤلف نيكولاس كار القارئ في رحلة تاريخية للاختراعات التكنولوجية التي يُنظر إليها على أنها قمة التطور الإنساني، حيث يقوم بإعلام القارئ وتنبيهه بشأن الآثار المترتبة على أحدث الابتكارات مثل الإنترنت. إن كار هو كاتب في النيويورك تايمز، وول ستريت جورنال، وأتلان-تيك. وهو من أهم الكتاب المعنيين والمهتمين بدراسة تكنولوجيا الإنترنت.

الكتاب من الحجم المتوسط، وعدد صفحاته 288. ويتكون الكتاب من تمهيد بعنوان “كلب الحراسة واللص”، وعشرة عناوين رئيسة: “1) أنا وهال ـ 2) المسارات الأساسية ـ 3) أدوات العقل ـ 4) الصفحة المعمقة ـ 5) وسيلة ذات طابع عام للغاية ـ 6) صورة الكتاب بحد ذاتها ـ 7) دماغ البهلوان ـ 8) كنيسة غوغل ـ 9) البحث، الذاكرة ـ 10) شيء يشبهني



 نيكولاس كار، “السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا”، ترجمة وفاء م. يوسف، الجبيل ـ الملكة العربية السعودية: صفحة سبعة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2021. (صدر الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2010، ووصل إلى القائمة النهائية للكتب المرشحة لجائزة البوليتزر في عام 2011).

“، وخاتمة بعنوان “العناصر البشرية”، إلى جانب قائمة من الاقتراحات لمزيد من القراءة والاستفادة.

يحاول كار في كتابه أن يستكشف تأثير التكنولوجيا على الدماغ، من خلال عملية التصفح على شبكة الإنترنت، فهو يظهر أن “القراءة عبر الإنترنت” تؤدي إلى فهم أقل من قراءة الصحف والكتب المطبوعة. كما يجادل كار بأن النقر على شبكة الإنترنت، قد أدى إلى التقليل من قدراتنا على التركيز المستمر والتفكير بطريقة خطية. وبدلاً من ذلك، أصبحنا نقوم بالقفز على سطح المعرفة؛ أي أننا لا نتعمق بشكل صحي في أعماق البيانات والمعلومات، وإنما أصبحنا نرضى بالخوض في المياه الضحلة.

وفي هذا السياق، يستشهد كار ببعض من أحدث الأبحاث في علم الأعصاب لدعم ادعاءاته، قائلاً: “في كل مرة نقوم بمهمة ما أو نشعر بإحساس ما، سواء أكان ذلك الشعور جسديا أم نفسيا، تنشط حينها مجموعة من الخلايا العصبية في أدمغتنا(…) وكلما تكررت التجربة الشخصية ذاتها، تزداد قوة روابط المشابك العصبية بين الخلايا العصبية، ويكثر عددها بفعل التغيرات الفيزيولوجية، كإفراز النواقل العصبية بتركيز أعلى…”” (ص: 43). إذ يحاول كار أن يفهم كيف تؤثر وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال على طريقة تفكيرنا وتشتيت انتباهنا دون وعي منا، “فالمراهق الأمريكي يرسل أو يستقبل 2272 رسالة نصية في الشهر، وهو عدد مهول فعلا”(ص: 116). زيادة على ذلك، هناك دراسات أكدت ارتفاع في مشاهدة التلفزيون، بمعدل 5 ساعات في اليوم في المتوسط، والهواتف المحمولة التي تدعم الويب. وعليه، يؤكد كار أن هذه المشتتات المستمرة تسبب تغيرات في الدماغ، حيث تؤدي مثل هذه الممارسات إلى جعل المرء أكثر انسجامًا مع الإلهاء، وبالتالي أقل قدرة على أداء النشاط الذي يتطلب تركيزًا كبيرًا واهتمامًا مستديمًا.

وعلى الرغم من أن شبكة الإنترنت تمثل خروجًا جذريًا على باقي وسائل الإعلام التقليدية من نواح عديدة، إلا أنها في الوقت ذاته، تمثل أيضًا استمرارًا للاتجاهات الفكرية والاجتماعية التي ارتبطت بوسائل الإعلام الجماهيري خلال القرن العشرين، والتي كان لها دور في تشكيل حياتنا وأفكارنا منذ ذلك الحين. وهو ما يعني أن هناك العديد من الوسائل التي كانت وما زالت تلهي حياتنا، علمًا أنه لم يكن هناك وسيط، مثل شبكة الإنترنت التي تمت برمجتها بغرض تشتيت انتباهنا على نطاق واسع والقيام بذلك من دون وعي منا.

لقد قام كار في كتابه بتخصيص فصول للدراسات الحديثة التي تهتم بوظائف الدماغ، عن طريق تجميع مجموعة من المعطيات للدفاع عن حجته بأن الوسائط الإلكترونية المتعددة تؤثر كثيرا على العقل البشري، مثل انخفاض الفهم والتركيز وقلة القدرة على التحليل أو التفكير الإبداعي. فهو يعارض ادعاءات عشاق التكنولوجيا بأن شبكة الإنترنت سوف تعمل على توسيع العقل البشري وأنها سوف تعزز التفكير العميق وتجعله أكثر إبداعا، حيث يظهر كار أن البحوث العلمية دحضت هذا الافتراض الذي كان مقبولا لوقت طويل. ذلك أن هذه الوسائط الإلكترونية تعمل على تشتيت فهمنا واستيعابنا لأشياء، ويقول كار: “يجهد تقسيم الانتباه الذي تقتضيه الوسائط المتعددة قدراتنا الإدراكية أكثر فأكثر، فيتضاءل بسببه تعلمنا، ويضعف فهمنا”(ص: 171). ومع ذلك، يشير كار إلى أن استخدام الويب يعزز من سرعة اتخاذ القرار وحل المشكلات والتنسيق الذهني. لكنه في الآن نفسه يتساءل حول ما إذا كانت هذه الإيجابيات أكثر من السلبيات. 

بالنسبة إلى كار، إذا كانت شبكة الإنترنت توفر للمستخدمين سرعة في الوصول إلى عدد كبير من المعلومات، فإنها تشجع أيضًا على السطحية في انتقاء المعرفة والمعلومات. ولتأكيد موقفه فإنه يستشهد ببعض الدراسات. وعلى سبيل المثال، في دراسة قام بها جيكوب نيلسون (Jakob Nielsen) في عام 2006، وجد أن الأغلبية قامت بقراءة مقالة على الويب بطريقة تشبه الحرف (F) والتي ترمز إلى السرعة. فقد تمت قراءة الأسطر القليلة الأولى من النص بالكامل، ولكن بعد ذلك تراجع القراء لقراءة بضعة أسطر أخرى، ثم بعدها تنخفض أعينهم ليتفحصوا الباقي، مع التركيز بشكل أساسي على الجانب الأيسر من الصفحة. إذ لم يقض معظمهم أكثر من 4.4 ثانية في كل صفحة (ص: 178).

الفكرة التي تتكرر في الكتاب هي أن الدماغ البشري مرن ويمكن تشكيله من خلال مجموعة من الإجراءات التي ترتبط بالوسائط الرقمية. فوفقا لكار، نحن في خطر فقدان قرون من التقدم على مستوى بناء مهاراتنا في التفكير والتعلم، فهو يبين أن الأدمغة، تعمل بشكل مختلف بعد استخدام الوسائط الرقمية. وقد تكون بعض النتائج إيجابية، مثل القدرة على الحكم في موثوقية المعلومات الموجودة على الويب بسرعة وتحديد كمية المعلومات، جنبًا إلى جنب مع التحسينات المذكورة غالبًا في “التناسق بين اليد والعين، ورد الفعل المنعكس، ومعالجة المنبهات البصرية”(ص: 182). ومع ذلك، فإن النتائج الأخرى قد تكون سلبية، فقد تكون الكفاءة التي تحتكم إلى الآلة والتي تساعد في اكتشاف المعلومات واسترجاعها “مدمرا للنموذج الريفي القائم على التفكير التأملي”(ص: 218).

ونتيجة لذلك، فإن اعتمادنا على الإنترنت بكثرة في أداء المهمات يؤثر بدوره في الذاكرة، وكما يقول كار: “كلما استخدمنا الشبكة أكثر، مرنا أدمغتنا أكثر على التشتت، أي على معالجة المعلومات بسرعة كبيرة وبكفاءة عالية، إنما دون انتباه مستمر”(ص: 251). وبالتالي، من المحتمل أن يكون لاستخدام الإنترنت أثارا جانبية حتى على الأكاديميين والباحثين الذين لديهم القدرة على التحكم في استخدام الحاسوب واستهلاك الإنترنت. فهناك دراسات تؤكد أن الأدوات التي نستعملها في الإنترنت لغربلة المعلومات تؤثر في عاداتنا العقلية وتؤطر تفكيرنا. وقد نشر عالم الاجتماع جيمس إيفانز (Jemes Evans) دراسة في مجلة Science، جاء فيها أن “عدد الاقتباسات في المقالات الأكاديمية المطبوعة والقديمة قد انخفض بشدة، مع الاعتماد بشكل أكبر على المقالات الحديثة المنشورة على الإنترنت”(ص: 277).

إن كتاب “السطحيون” هو عمل متميز ومفيد للتفكير لأي شخص يستخدم الإنترنت بشكل يومي. حيث يلاحظ أن استخدام الإنترنت قد أدى إلى دوائر دماغية متكيفة ليست هي نفسها التي تم إنشاؤها لقراءة الكلمات المطبوعة على الصفحة الورقية. وهذا يعني أن هناك تحول في معيار التعلم. وبالتالي لا بد للدماغ البشري أن يفكر في تطوير إستراتيجية معرفية جديدة للحفاظ على المعلومات والبيانات التي يمكن أن يحصل عليها من تكنولوجيا الإنترنت.

وخلاصة القول، إن الكتاب يظهر أن شبكة الإنترنت تغير طريقة تفكيرنا وأن التغييرات يمكن أن تشمل أشياء قد لا ندركها في الوقت الراهن. إن الكتاب مهم جدا للمثقفين والباحثين والطلبة، بسبب القضايا التي يثيرها حول شبكة الإنترنت، إلى جانب الأسلوب المقنع في عرض الأفكار، حيث نجد كار يدعم مواقفه من خلال الرجوع إلى التاريخ والفلسفة والعلوم، وبالاعتماد أساسا على أعمال ماكلوهان وأونج ونيتشه ونيلسن ومجموعة من علماء الأعصاب. فالكتاب فريد من نوعه، لأنه من الكتب التي تشجع الطلبة والباحثين على قراءة الكتب الورقية.

المرجع المعتمد

كار، نيكولاس. (2021)؛ “السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا”، ترجمة وفاء م. يوسف، ط 1، الجبيل ـ الملكة العربية السعودية: صفحة سبعة للنشر والتوزيع.

عبد الإله فرح

باحث في علم الاجتماع بجامعة ابن طفيل القنيطرة ـ المغرب. له مجموعة من المقالات المنشورة في المجلات العلمية المحكمة. له مشاركات في الندوات على المستوى الوطني والدولي، باحث مهتم بقضايا التنظير والنظرية في السوسيولوجيا، إلى جانب اهتمامه بقضايا المجتمعات الافتراضية. يحضر الدكتوراه في علم الاجتماع في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة تحت إشراف الأستاذ الدكتور مبارك الطايعي.

مشاركة: