Search

أكاديميا بلا فكرٍ أو همومٍ

ينظر كثيرون بشيءٍ من القداسة إلى الأكاديميِّين، ويرتدي بعض الأكاديميِّين تاجًا من الوقار، ويُمارس بعضهم التصنّع والتكبّر، مع أنَّ الوسط الأكاديميِّ يشتمل على العديد من المفارقات والظواهر السلبية، مثل بقية الأوساط المهنية، ومتخمٌ بالاستعراضات والمجاملات وتبادل المصالح والشلليّة والتجاوزات العلميّة.
يسعى كثيرٌ من خريجي الجامعات للظفر بشهادة الدكتوراه لغاياتٍ مختلفةٍ، ربما لأجل التباهي أمام الآخرين في الوسط الاجتماعي أو من أجل الحصول على وظيفةٍ جيّدةٍ أو منصبٍ مرموقٍ أو امتيازاتٍ ماديةٍ ومعنويةٍ أخرى. لذلك، يتعامل كثيرٌ منهم مع البحث العلمي بوصفه واجبًا ثقيلًا ينبغي له إنجازه لينال الشهادة العلمية المرغوبة، من دون الاهتمام بالسؤال المهمِّ: ما الذي سيقدِّمه بحثي المزمع في حال إنجازه إلى العلم والمعرفة؟ هذا كلُّه طبيعيٌّ ومفهومٌ ومبرَّرٌ في ظلِّ الأوضاع البائسة المعروفة للتعليم والتوظيف، لكنَّه لا يمنعنا من الإقرار بحقيقة أنَّ الأكاديميَّ ليس محتومًا أن يكون مثقفًا أو مبدعًا أو منتجًا للمعرفة، وأنَّ القيمة العلمية للفرد تتعيَّن، في الحصيلة، بالإنتاج لا بالشهادة.
عندما لا تكون الشهادة الأكاديميّة وسيلةً لتطوير الذات وإنتاج المعرفة والنهضة بالمجتمع فإنَّها ليست أكثر من شهاداتٍ توظيفيّةٍ بلا قيمةٍ مضافةٍ، لا تأثير لها في الحقل المعرفيِّ. بعض الأكاديميِّين يصبح عمله روتينيًّا مع الزمن، ويفتقد إلى الإبداع، ولا يساهم بأيِّ درجةٍ أو طريقةٍ في زيادة الرصيد المعرفي والعلميّ، أكان على المستوى الذاتيِّ أو العامِّ، ومنهم من استلموا مناصب ثقافيةً عاليةً، واعتلوا مراكز مهمّةً في الجامعات، لكن أيضًا من دون أيِّ تأثيرٍ إيجابيٍّ على مستوى الارتقاء بالبحث العلميِّ. لا شكّ في أنَّ أحد أسباب هذه الحال البائسة يكمن في معايير التوظيف والترقية المعتمدة في الحقل الأكاديميِّ، ما جعل الاهتمام يتركَّز على الإنتاج الكمِّي على حساب النوعيّة.
من أبرز سمات البحث العلميِّ السائدة اليوم، خصوصًا في المنطقة العربية، في مختلف العلوم النظريّة أو العمليّة، بشكلٍ عامٍّ، أنَّها جميعها تسير وفق نمطيّةٍ محدَّدةٍ ومعتمدةٍ، وتسلك طرائق معروفةً يسهل اتّباعها، فقد أصبح الطابع الشكلانيُّ أو التقنيُّ مسيطرًا على الكتابة البحثيّة، إلى درجةٍ تغيب فيها روح الكاتب، ويصبح نصُّه مشابهًا لنصوص آخرين، ويكون بحثه أقرب ما يكون إلى النصوص المدرسيّة التي أصبح ينتجها الطلاب في المدرسة الإعداديّة أو الثانويّة وفق خطواتٍ محدَّدةٍ ومرسومةٍ سلفًا.
على الرغم من الاتفاق على وجود خطوات عريضة محدَّدة لإنتاج بحثٍ علميٍّ حول موضوعٍ ما، ووجود معايير تحكيميّةٍ متفقٍ عليها أيضًا، فإنَّ الركيزة الرئيسة لأيِّ عملٍ كتابيٍّ يطمح إلى أن يُسمَّى بحثًا علميًّا هي الأصالة والإبداع؛ أي تميّزه واشتماله على إضافةٍ علميّةٍ جديدةٍ، تتفتح من خلالها آفاقٌ علميّةٌ جديدةٌ من شأنها الارتقاء بالفرد والمجتمع، وهي ركيزةٌ مفتقدةٌ في كثيرٍ من البحوث التي ينشرها أكاديميُّون وباحثون وأساتذة جامعات في المنطقة العربيّة. الأصالة والجدَّة والابتكار أهم السمات التي تميِّز البحث العلمي، فالباحث يبحث ليضيف شيئًا جديدًا، أصيلًا، مبتكَرًا، إلى العلم والمعرفة، لا ليجترَّ ما هو معروف أو ليكرِّر ما هو موجود مسبقًا؛ مثل إيجاد موضوع جديد لم يُدرس سابقًا أو إعادة دراسة موضوع قديم في زمن جديد أو بيئة جديدة تغيَّرت فيه الأحوال والأدوات، ومن ثمَّ الحصول على نتائج جديدة، أو دراسة مشكلة جديدة في موضوع مدروس سابقًا، أو إبداع طريقة جديدة أو مقاربة مختلفة في دراسة الموضوع نفسه والمشكلة ذاتها، أو تقديم عملٍ نقديٍّ للأعمال السابقة المشابهة لعمله البحثيِّ.
يشمل هذا النقد كثيرًا من الأكاديميِّين والباحثين الذين يفخرون بنشر بحوثهم في مجلات محكَّمة، تلك التي باتت أيضًا تُصدر أعدادها بروح روتينية بعيدة عن الأصالة والإبداع وتقديم المفيد حقًا. في اعتقادي إنَّ أحد الأسباب المهمّة وراء شيوع هذا النمط من الأكاديميّة، أكاديميّة مملّة وفقيرة الروح وغير مفيدة، هو عدم اهتمام الأكاديميِّين بالفكر والفلسفة أو عدم اهتمامهم بقضايا مجتمعاتهم الحقيقيّة، ما يعني أنَّهم تحوَّلوا إلى موظفين أو تقنيِّين لا أكثر.
العقليّة الأكاديميّة البحت أقرب إلى عقليّة الموظَّف أو العقل التقنيِّ المتخصِّص بحقلٍ علميٍّ ما، تنحصر همومها في تقديم بحثٍ علميٍّ ونشره في مجلَّة محكَّمة يقرؤها عددٌ قليلٌ من الأفراد، وتقدِّم له فائدة على المستوى الوظيفيِّ ماديًّا أو معنويًّا. الثقافة أوسع كثيرًا من الأكاديميَّة، وليس كلُّ أكاديميٍّ مثقفًا؛ لا يغدو الأكاديميُّ مثقفًا إلّا عندما يصبح مهمومًا بأهدافٍ ومثلٍ وأفكارٍ معيّنةٍ وثيقة الصلة بالواقع وصراعاته السياسية والثقافية. الأيديولوجيا شيءٌ والثقافة شيءٌ آخر؛ الأيديولوجيا تقتل الأكاديميّة والثقافة في آنٍ معًا.
ينبغي لنا أخيرًا ألّا يغيب عنّا أنَّ الخلل الرئيس ليس في الباحث الجامعيِّ/ الأكاديميِّ الذي يسعى للكسب من دون بذل الجهد المتوافق مع متطلبات الإنتاج العلميّ، بل في المنظومة التعليميّة والتربويّة كلّها التي تحتاج إلى إعادة بناء شاملة، وهذا يجعلنا نرى أنَّ جذر المشكلة سياسيٌّ في الحصيلة، أي النظام الاستبداديِّ المهيمن، بما يفرضه من آلياتٍ وأنماط عملٍ مشوّهةٍ تتحكَّم في شتّى مفاصل الحياة، ومن ضمنها قطاع التعليم العاليّ، وما يشيعه من قيمٍ وأخلاقيّاتٍ في المجتمع ومؤسَّساته وقطّاعاته المتنوّعة.

حازم نهار

كاتب وباحث سوري في الشؤون السياسية والثقافية، له إسهامات عديدة في الصحف والمجلات ومراكز الدراسات العربية، باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نشر عددًا من الكتب السياسية والثقافية، منها “مسارات السلطة والمعارضة في سورية” الذي صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و”سعد الله ونوس في المسرح العربي”، وله عدة ترجمات، منها: سورية: الاقتراع أم الرصاص لكاريستين ويلاند، سورية: ثورة من فوق لرايموند هينبوش، بناء سنغافورة لمايكل دي بار وإزلاتكو إسكربس، تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث لرايموند هينبوش، سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض لميريام كوك، لعبة الانتظار لبينت شيلر، أسّس وأدار مؤسَّسات بحثية وثقافية ومدنية عديدة، رئيس تحرير مجلة (رواق ميسلون) للدراسات.

مشاركة: