اقتراحُ نَحْتِ مُصطلَحٍ عربيٍّ جديدٍ في النَّقدِ والفلسفةِ
مُهدَىً إلى الفيلسوف التُّونسيّ الدُّكتور فتحي المسكيني
أشارَ الدُّكتور فتحي المسكيني إلى إشكاليَّة افتقاد المُعجَم العربيّ النَّقديّ والفلسفيّ المُعاصِر إلى مُفردة واحدة تحملُ الدَّلالةَ المَفهوميَّة لمُصطلَحَي (المُرَكَّب) و(المُعَقَّد) في آنٍ معًا، وهوَ مُحقٌّ تمامًا في إشارتِهِ هذهِ.
من جهتي أنا، فقد تلقَّفتُ تلكَ المُلاحظَةَ القيِّمة، وحاولتُ أنْ أُقدِّمَ اقتراحيَ الآتي، عسَى أنْ أكونَ قد لامسْتُ عبرَهُ تُخومَ حلٍّ مُفيدٍ لهذهِ المَسألة، أو رُبَّما أكونُ، في أقلِّ تقديرٍ، قد أومأتُ لأحدٍ ما بمثلِ هذا الحلِّ المُحتمَلِ والمُمكِنِ والمَأمولِ، فتلقَّفَهُ مَشكورًا، وأسعدَنا جميعًا بخدمةِ لُغتِنا الحبيبةِ وثقافتِنا العربيَّةِ.
أوَّلًا: في إشكاليَّةِ الاختلافِ بينَ مُصطلَحَي (المُرَكَّبِ) و(المُعَقَّدِ)
المُرَكَّبُ في اللُّغةِ العربيَّة مُشتَقٌّ من الجذر (ر ك ب)، وركَّبَ الشَّيءَ في غيرِهِ يُركِّبُهُ تركيبًا، فهوَ مُركِّبٌ، والمَفعولُ مُرَكَّبٌ؛ أي ضَمَّ أجزاءَهُ المُتفرِّقَةِ ورتَّبَها وربَطَ بعضَهَا ببعضٍ للحُصولِ على وَحدَةٍ مُتكامِلَةٍ.
أمَّا المُعقَّدُ في اللُّغةِ العربيَّةِ فهوَ مُشتقٌّ من الجذر (ع ق د)، وعقَّدَ الشَّيءَ يُعَقِّدهُ تعقيدًا، فهو مُعقِّدٌ، والمَفعولُ مُعَقَّدٌ؛ أي جعَلَهُ أكثَر تشابُكًا، كأنْ نقولَ: فلانٌ عقَّدَ المُشكلَةَ؛ أي جعلَها أكثَرَ تعقيدًا وتشابُكًا، أو أنْ نقولَ: فلانٌ عقَّدَ الكلامَ؛ أي جعلَهُ عسيرَ الفَهْمِ، وميَّالًا إلى الغُموضِ، أو أنْ نقولَ: فلانٌ عقَّدَ الحبْلَ؛ أي بَالَغَ فِي عَقْدِهِ.
قد يبدو للنَّاظِرِ أوَّلَ وهلَةٍ أنَّ المُصطلَحيْن مُتطابقيْن، وهذا خطأ مَعرفيّ كبير، فالمُرَكَّب غيرِ المُعقَّد، وللتَّعبير عنْ وُجودِهِما مَعًا في ظاهِرَةٍ ما نحتاجُ إلى المُصطلَحيْن في آنٍ واحدٍ، فلا يُغنِي أحدُهُما عنِ الآخَر، ولهذا يضطَّرُ الباحثُ العربيّ المُعاصِرُ إلى رصفِهِما معًا عندَ الحاجةِ لوصفِ ظاهِرَةٍ ما تنطوي عليهِما.
لعلَّ أُسّ الإشكاليَّة المَفهوميَّة ينبعُ من جدَليَّة أنَّهُ ليسَ كُلُّ شيءٍ مُركَّبٍ هوَ بالضَّرورةِ شيءٌ مُعقَّدٌ، والعكسُ صحيحٌ، فليسَ كُلُّ شيءٍ مُعقَّدٍ هوَ بالضَّرورةِ شيءٌ مُرَكَّبٌ، وقد تجتمِعُ الدَّلالتانِ في شيءٍ واحدٍ، وعندها نحتاجُ إلى مُصطلَحٍ جديدٍ يَفِي بهذِهِ الدَّلالة المُغايِرة.
اشتغَلَ الفيلسوفُ وعالِمُ الاجتماعِ الفرنسيُّ إدغار موران في فلسفتِهِ ونظَريَّاتِهِ على مَوضوعةِ “الفكر المُركَّب/ التَّركيب والتَّعقيد”، ودعا إلى حلّ إشكاليَّات الفكر البشريّ وصراعاتِهِ ذات الأبعاد الأُحاديَّة والإقصائيَّة عبرَ الانتقال من براديغم التَّبسيط إلى براديغم التَّعقيد، ورأى أنَّ التَّعقيدَ ناجِمٌ عن التَّركيبِ الخاصّ بكُلِّ وَحدةٍ وُجوديَّةٍ في العالَم، وقامَ في كثيرٍ من الأحيان في نُصوصِهِ وتصريحاتِهِ بوضعِ براديغم التَّعقيد بينَ قوسيْن بدعوى أنَّهُ لنْ يدَّعيَ أنَّ الحُلولَ مُنجَزَةٌ تمامًا عبرَ هذهِ الوصفة، لكنَّ مَسْلَكَ المَزجِ في الفَهْمِ والتَّفسيرِ لأيَّةِ ظاهِرَةٍ أو فكرةٍ أو حدَثٍ ينبغي أنْ يجمَعَ بينَ البُعد الكُلِّيّ للمُعقَّد، والبُعد الجُزئيّ للمُرَكَّب.
وهذا التَّمييزُ الأخيرُ (أي: بينَ الكُلِّيّ المُعقَّد والجُزئيّ المُركَّب) يتجاوَزُ التَّعريفَ الفلسفيَّ التَّقليديَّ لمُصطلَح (المُركَّب)، والذي يُطابِقُ بينَ (المُركَّب) و(المُعقَّد)، حينَما يذهَبُ هذا التَّعريفُ إلى القولِ: إنَّ المُرَكَّبَ هوَ المُؤلَّفُ من أجزاءٍ كثيرة، ويُقابِلُهُ (البسيطُ)، وهذا التَّفسيرُ (القاصِرُ) في اعتقادي ينطوي على مَقولةٍ ضمنيَّةٍ ترى أنَّ الطَّرَفَ الحَدِّيَّ المُقابِلَ (بداهةً) للبسيطِ هوَ المُعقَّدُ، وبناءً عليهِ يكونُ المُعقَّدُ هو ذاتُهُ المُركَّبُ، وهذا اختزالٌ مَعرفيّ ومَفهوميّ مُخِلٌّ بمُعطياتِ الواقعِ، وبظَواهرِهِ الحيَّةِ المُتحرِّكةِ، من جانبٍ أوَّل، فضْلًا عن تجاوُزِ مُستجدَّاتِ المَعرفةِ الفكريَّةِ والعِلميَّةِ (المُعاصِرَةِ) لهذا الفَهْمِ، من جانبٍ ثانٍ..!!
لنأخُذ، هُنا، مثالًا مِحوريًَّا حولَ هذهِ الإشكاليَّة:
الإنسانُ وَحدة كيانيَّة كُلِّيَّة، وهذهِ الوَحدة مُرَكَّبة من أجزاءٍ مُتشابِكة، وكُلُّ جزءٍ منها هوَ وَحدة أيضًا، وهوَ جزءٌ مُركَّبٌ من أجزاءٍ أُخرى.. وهكذا، دواليك.. وهذا (التَّركيبُ) العُضويّ والنَّفسيّ للإنسان هوَ تركيبٌ (مُعقَّدٌ) جدًَّا، لكنْ، في الوقتِ نفسِهِ، ليستْ كُلُّ (الأجزاء/ الوَحدات) المُكوِّنة للإنسان وَحداتٌ مُعقَّدة بالضَّرورة (وهذا أمرٌ يعرفُهُ البُيولوجيُّونَ والأطبَّاء). لذلكَ، لا يُمكِنُ الإطلاقُ والقولُ إنَّ كُلَّ كيانٍ مُرَكَّبٍ هوَ كيانٌ مُعقَّدٌ حتمًا، كمَا أنَّ كثيرًا من الظَّواهِرِ المُنبسِطَةِ في فَجْوَةِ الوُجودِ هيَ ظَواهِرُ مُعقَّدةٌ من دونِ أنْ تكونَ مُركَّبَةً.
ولعلَّ هذا الكلام الأخير يقودُنا تلقائيًَّا إلى التَّذكير بمُصطلَحَ “المُونادا” الذي هوَ مَفهومٌ فلسفيّ يعودُ في جُذورهِ الى أصولٍ قديمةٍ اصطلاحًا ومَفهومًا، وهوَ لفظٌ يونانيُّ الأصل، ويدلُّ على الوَحدة، وأطلقَهُ أفلاطون على المثال. واستعملَهُ بعضُ المفكّرين المسيحيِّين للدَّلالة على الجَواهِر الرُّوحيَّة التي يتكوَّنُ منها الكون، كما أطلقَهُ لايبنتز على كلِّ واحدٍ من الجَواهرِ البسيطةِ التي يتكوَّنُ منها العالم. فالمونادا هوَ الواحدُ المُنطوي على البَسَاطَةِ غيرِ القابلةِ للانقسام؛ بمَعنى أنَّهُ الوَحدة النِّهائيّة التي تُشكِّلُ وُجودًا كُلِّيًّا.
وهكذا، يبدو أنَّ مَسألةَ العلاقةِ بينَ المُرَكَّب والمُعَقَّد هيَ بذاتِها، أيضًا، مَسألةٌ تحتاجُ إلى اشتقاقِ مُصطلَحٍ يدلُّ على انطوائِها على صِفتَي التَّركيبِ والتَّعقيدِ في آنٍ معًا..!!.
ثانيًا: في فلسَفةِ الاشتقاق
ليسَ الاشتقاقُ في اللُّغةِ العربيَّة، فعلًا اعتباطيًَّا؛ إنَّما هوَ فعلٌ لهُ مُسوِّغاتُهُ وقواعدُهُ، وهوَ ابنُ الواقعِ التَّواصُليِّ والمَعرفيِّ ومُتطلَّباتِهِما، وانعكاسُ فكرةِ أنَّ الحاجةَ هيَ أُمُّ الاختراعِ، ما دامتِ الحياةُ مُتحرِّكةً وسائِلةً ومُتغيِّرَةً، وما دامَتِ الثَّقافةُ والعلمُ مُتطوِّريْن ومَفتوحيْن على كُلِّ جديدٍ، ولا سيما أنَّ حُقولَ المَعرفةِ تضعُنا في كُلِّ لحظةٍ، وبوجهٍ خاصّ في هذا العصرِ الرَّقميِّ المُذهِلِ، أمامَ حاجاتٍ غيرِ مَسبوقةٍ، وتفرضُ علينا التَّصدِّيَ المَسؤولَ والرَّزينَ لضَرورةِ إيجادِ مُفرداتٍ تُواكِبُ مَعانيَ استخداماتٍ دلاليَّةٍ مُستجدَّةٍ.
وانطلاقًا من هذا التَّمحيص العامّ، أقولُ: إنَّ الحاجةَ تبدو مُلحَّةً الآنَ للاتِّكاءِ، مَبدئيًَّا، على آليَّاتِ الاشتقاق العربيّ، كيْ ننحتَ مُصطلَحًا جديدًا يَفِي بالدَّلالتيْن المَفهوميتيْن لمُصطلَحَي (المُرَكَّب) و(المُعَقَّد) في حُقول النَّقد والفلسفة، ورُبَّما في الحُقول العِلميَّة أيضًا، ولا سيما بعد التَّحوُّلاتِ المَفهوميَّة الكُبرى، والتَّطوُّراتِ التَّراكُميَّةِ الهائِلةِ التي شَهِدَها حقلا النَّقد والفكر في العُقود الأخيرة.
وأقترِحُ أنْ يكونَ هذا المُصطلَحُ المُشتهَى والمَطلوب هو: (المُرَقَّدُ)..
مع الإشارةِ الأساسيَّة في هذا السِّياق إلى أنَّ نحْتَ هذا المُصطلَح الجديد ينبغي _بعدَ أنْ بيَّنْتُ ضَروراتِ تخليقِهِ المَعرفيَّةِ في هذهِ الحقبة_ أنْ يحقِّقَ شَرطيْن مُلزِميْن في اعتقادي، هُما:
1_ أنْ يكونَ مُلتزِمًا بقواعِد الاشتقاق في اللُّغة العربيَّة، ومُسوِّغاتِها.
2_ أنْ يكونَ لهُ وَجاهتُهُ الدَّلاليَّة في الجانبِ المَفهوميّ.
ثالثًا: في الشَّكلِ القواعديِّ المَنهجيِّ لاشتقاقِ مُصطلَحِ (المُرَقَّدِ)
يُمثِّلُ الاشتقاقُ آليَّةً حيويَّة لا تخلو منَ الابتكار الأصيل في اللُّغة العربيَّة، وينطوي على طاقاتٍ وقدراتٍ فائِقة لتوظيفِهِ في توليدِ مُفرداتٍ ذات معانٍ ودلالاتٍ جديدة وغنيَّة ومُواكِبة للعصر، فضلًا عن إمكانيَّة تطوير قواعد الاشتقاق نفسِها في اللُّغة العربيَّة، وهوَ ما أُمنِّي النَّفس بأنْ أراهُ يتحقَّقُ يومًا ما.
والاشتقاقُ لُغةً يعني الأخذَ والاقتطاعَ وتفريقَ الأجزاءِ. وهوَ من شَقَّ الشَّيءَ إذا بالَغَ في شَقِّهِ، وشَقَّ الكلامَ: وسَّعَهُ ووضَّحَهُ وولَّدَ بعضَهُ من بعضٍ، وأخرجَهُ أحسَنَ مَخرَجٍ.
أمَّا دلالةُ الاشتقاق اصطلاحًا فهيَ استحداثُ كلمةٍ وأخذُها من كلمةٍ أُخرى أو من أكثَر من كلمةٍ واحدة للتَّعبيرِ بها عن مَعنىً جديد. فالاشتقاقُ وسيلةٌ لجعلِ اللُّغة تتَّسِعُ وتَغتنِي لفظًا ومَعنىً، بحيثُ يتمُّ إيجادُ المادَّةِ اللُّغويَّةِ المُواكِبةِ للأفكارِ الجديدة.
وللاشتقاق في اللُّغةِ العربيَّةِ أربعةُ أنواعٍ، هيَ:
1_ الاشتقاقُ الصَّغير.
2_ الاشتقاقُ الكبير.
3_ الاشتقاقُ الأكبَر.
4_ الاشتقاقُ الكُبَّار (النَّحْتُ).
يعتمِدُ اقتراحي الاشتقاقيّ لمُصطلَح (المُرَقَّد)، على قواعد (الاشتقاق الكُبَّار)، ويعني الاشتقاقُ الكُبَّار الذي يُطلَقُ عليهِ (النَّحْتُ)، أيضًا، أنْ تُؤخَذَ كلمةٌ من كلمتين أو أكثَر مع وُجودِ تناسُبٍ في المَعنى واللَّفظ معًا بينَ المَأخوذ والمَأخوذ منهُ، للتَّعبير عن مَعنىً جديد. ومثالُ ذلك: قولهم: رجلٌ عبشميٌّ؛ أي: رجلٌ من قبيلةِ عبد شمس.
وللنَّحْتِ أربعةُ أنواعٍ، هيَ:
1_ النَّحْتُ الفعليُّ.
2_ النَّحْتُ الوصفيُّ.
3_ النَّحْتُ الاسميُّ.
4_ النَّحْتُ النِّسبيُّ.
وما يعنيني في اشتقاقي لمُصطلَح (المُرَقَّد) هو: (النَّحتُ الوصفيُّ) تحديدًا، والذي يعني: أنْ ننحَتَ كلمةً واحدةً من كلمتينِ أو من ثلاثِ كلماتٍ تدلُّ هذهِ الكلمةُ على صفةٍ بمَعناها، ومثالُ ذلكَ: الهَجْرَعُ؛ وتعني: الأحمَقُ الخفيفُ، وهيَ مَنحوتةٌ منَ (الهَجِعِ) والتي تعني: الأحمَقُ، ومنَ (الهَرِعِ) والتي تعني: المُتسرِّعُ.
وبناءً على قاعدةِ النَّحْتِ الوصفيِّ هذهِ في الاشتقاق الكُبَّار، أقترِحُ اشتقاقَ مُصطلَحِ (المُرَقَّدِ) من مُصطلَحَي (المُرَكَّبِ) و(المُعقَّدِ) للدَّلالةِ على وُجودِ صفتَي (التَّركيبِ) و(التَّعقيدِ) في ظاهِرَةٍ ما في آنٍ معًا، حيثُ أخذتُ من مُفردة (المُرَكَّب) حرفَي الميم والرّاء، ومن مُفردة (المُعَقَّد) حرفَي القاف والدَّال.
رابعًا: في الوَجاهةِ المَفهوميَّةِ دلاليًَّا لاشتقاقِ مُصطلَحِ (المُرَقَّدِ)
بعدَ أنْ قمتُ بإيضاحِ المُستوى القواعديِّ لنَحْتِ مُصطلَحِ (المُرَقَّدِ)، وذلكَ كي أكونَ قد وفيْتُ بشَرطِ الالتزامِ بآليَّاتِ الاشتقاقِ في اللُّغةِ العربيَّةِ، ومُسوِّغاتِهِ، من حيثُ المبدأ، أنتقِلُ إلى مُعالَجةِ الشَّرطِ الثّاني الضَّروريّ لتسويغِ تخليقِ هذا المُصطلَح.
إنَّ مُفردةَ (المُرَقَّدِ) مَوجودةٌ في الأصلِ في اللُّغةِ العربيَّةِ، وهيَ مُشتقَّةٌ من الجذر اللُّغويّ (ر ق د). ورَقَدَ الشَّخصُ: نامَ ليلًا أو نهارًا، أو استلقى على ظَهْرِهِ. ورَقَدَ رقدَتَهُ الأخيرة: ماتَ. فالمَرْقَدُ هوَ: مَوضِعُ الرُّقادِ، وهوَ القبْرُ أيضًا، ورَقَدَ الطَّيرُ على بيضِهِ: حضَنَهُ، وتَرَاقَدَ: تناوَمَ.
و(المُرَقَّدُ) هوَ المَفعولُ من الفعلِ (رَقَّدَ) يُرَقِّدُ تَرْقِيدًَا، ورَقَّدَهُ أَرْقَدَهُ؛ أي: أنامَهُ، ورَقَّدَتِ الأُمُّ طفلَها: أنامتْهُ، وجعلتْهُ ينامُ ويرقُدُ، فهْوَ (مُرَقَّدٌ).
والسُّؤالُ الذي يبدو لي أنَّهُ يفرضُ نفسَهُ هُنا بوصفِهِ (عُنصرًا مُهيمِنًا) في تشييدِ هذا الاقتراح، هوَ:
هلِ مُصطلَحُ (المُرَقَّدِ) بمَحمولِهِ الدَّلاليِّ المُشيرِ إلى (النَّومِ) في اللُّغةِ الاعتياديَّةِ، قادِرٌ على الوَفاءِ بالدَّلالاتِ المَفهوميَّةِ المَطلوبَةِ منْ مُصطلَحَي (المُرَكَّبِ) و(المُعَقَّدِ) في آنٍ معًا، وذلكَ منْ جِهَةِ وَجاهةِ المَضمونِ النَّقديِّ والفلسفيِّ الذي يُمكِنُ أنْ يُؤسَّسَ انطلاقًا منَ المَرجعيَّةِ اللُّغويَّةِ المُعجميَّةِ لهُ..؟
ترتبطُ الإجابةُ عنْ هذا السُّؤالِ بالمِحوريْن الآتييْن:
المِحورُ الأوَّلُ: النَّومُ ظاهِرَةٌ مُرَكَّبَةٌ:
يُوصَفُ النَّومُ بأنَّهُ ظاهِرةٌ اعتياديَّةٌ عندَ الكائناتِ الحيَّةِ، ويرى العلماءُ أنَّهُ ليسَ فُقدانًا للوعي؛ إنَّما تغيُّرٌ في حالةِ الوعي، حيثُ إنَّهُ لم تتوقَّفْ دراسةُ هذهِ الظّاهِرة حتَّى هذهِ اللَّحظة. فالاعتقادُ السّائدُ بأنَّ النَّومَ هوَ خُمولٌ أو توقُّفٌ في بعضِ وظائفِ الجسمِ، فحسْبُ، ينفيهِ البَحثُ العلميُّ الذي يذهَبُ إلى القولِ إنَّ أنشطةً مُعقَّدةً كثيرةً على مُستويَي المخّ والجسم تتمُّ أثناءَ النَّوم.
وإذا كانَتِ النَّظرَةُ الشَّائِعَةُ إلى النَّومِ تسِمُهُ بسِمَةِ الاختلافِ عنِ الغيبوبةِ أو عنِ الموتِ بفعلِ قُدرةِ النّائِم على الاستيقاظِ عبرَ فعلٍ انعكاسيٍّ، فإنَّ الكثيرَ من الباحثين في العلمِ أو في الماورائيَّاتِ يَصِفُونَ النَّومَ بأنَّهُ نوعٌ منَ أنواعِ الموتِ..!!
إنَّ تغيُّرَ النَّشاطِ الكهربائيِّ للدِّماغ، وتغيُّرَ حركاتِ العيْن، وغير ذلكَ ممَّا يقومُ الباحثونَ بقياسِهِ خلالَ فترةِ النَّوم، وبمُراقَبَةِ تحوُّلاتِهِ بتقدُّمِ ساعاتِ النَّوم، وبرصدِ انعكاساتِهِ البُيولوجيَّةِ أو الحركيَّةِ أو اللَّفظيَّةِ، وبمُتابَعَةِ حالاتِ المَناماتِ والكوابيسِ، يؤكِّدُ كُلُّ ذلكَ أنَّ النَّومَ هوَ ظاهِرةٌ (مُركَّبةٌ) منْ تركيباتٍ عدَّة بالمَعنى (البُيولوجيّ المادِّيّ) البَحْتُ، وما زالَ الوقتُ مُبكِّرًا للحديثِ عن فَهْمٍ علميٍّ جامعٍ مانِعٍ ودقيقٍ حاسِمٍ يُفكِّكُ ظاهِرةَ النَّومِ.
هذا، فقط، في حال اكتفيْنا بإحالةِ صفةِ (التَّركيبِ) في مَوضوعةِ النَّومِ إلى الجانبِ البُيولوجيِّ/ المادِّيّ، فمَا بالُكُم بالمُستويات النَّفسيَّة الشُّعوريَّة وغير الشُّعوريَّة مثلًا؛ حيثُ تنفتِحُ دلالةُ صِفَةِ (المُرَكَّبِ) لظاهِرَةِ النَّوم على حُقولٍ مَعرفيَّةٍ عدَّة، وتتشابَكُ معها بعُمقٍ.
فضْلًا عن ذلكَ، يزدادُ (التَّركيبُ تشابُكًا) في ظاهِرة النَّوم عندَ مُقارَبتِهِ من زوايا (ميتافيزيقيَّة/ روحيَّة) تتطلَّعُ إلى تفسيرِ جَوانِبَ ما زالتْ غير مُفسَّرة بدقَّة علميًَّا، حيثُ تجتمِعُ عندَ بعضِ الباحثينَ الأبعادُ البُيولوجيَّةُ والنَّفسيَّةُ والميتافيزيقيَّةُ وعُلومُ الماورائيَّاتِ، ويسعى عددٌ منْ أصحابِ هذهِ الاتِّجاهات إلى تفسيرِ أو تأويلِ مَسائِلِ المَناماتِ والكوابيسِ ورُؤاها الحدْسيَّة والتَّنبُّئيَّة، وإلى فهْمِ قضَايا الكلام أو الصُّراخ أو المَشي أو حتَّى ما يُسمَّى (السَّفرُ أثناءَ النَّومِ)، ويُؤمِنُ بعضُ هؤلاءِ بخُروجِ الرُّوحِ أو النَّفسِ من الجسَد عندَ النَّائِمِ، ويقولونَ إنَّ النَّومَ منطقةٌ وُسطى بينَ الحياةِ والموتِ. وتجري، في الوقتِ نفسِهِ، وفي مَنحىً مُوازٍ أو مُغايِرٍ، دراساتٌ علميَّةٌ لتفكيكِ هذهِ الظَّواهِر وُفقَ مَناهِجَ علميَّةٍ مَضبوطةٍ.
هكذا: تبدو ظاهِرةُ النَّومِ ظاهِرةً (مُركَّبةً) بتركيباتٍ مُتشابِكةٍ عبرَ أبعادٍ عدَّةٍ، فالنَّائِمُ (الرَّاقِدُ/ المُرَقَّدُ) هوَ وَحدةٌ مُتكامِلةٌ ومُركَّبةٌ من أجزاءٍ مُتفرِّقةٍ جمَعَتْها حالةُ النَّومِ.
المِحورُ الثّاني: النَّومُ ظاهِرَةٌ مُعَقَّدَةٌ:
تقودُ استنتاجاتُ المِحورِ الأوَّلِ، تلقائيًَّا، إلى القولِ:
إنَّ النَّائِمَ (الرَّاقِدَ/ المُرَقَّدَ) بمَا هوَ وَحدةٌ (مُرَكَّبَةٌ)، هوَ، أيضًا، وَحدةٌ (مُعَقَّدَةٌ).
فإذا عُدْنا، هُنا، إلى المُستوى المُعجميِّ، واستَعنَّا بهِ منْ جديدٍ لتأكيدِ وَجاهةِ اقتراحِ مُصطلَحِ (المُرَقَّدِ)، نجِدُ أنَّ الصِّلةَ الدَّلاليَّةَ لمُفردتَي (رَقَدَ والرُّقَاد) التي تجمَعُ بينَ دلالةِ (النَّومِ) ودلالةِ (الموتِ)، وأنَّ الصِّلةَ الدَّلاليَّةَ لمُفردةِ (المَرْقَدِ) التي تجمَعُ بينَ دلالةِ (السَّريرِ) أو بينَ دلالةِ (مَوْضِعِ النَّومِ) ودلالةِ (القبْرِ)، فضْلًا عن كونِ دلالةِ مُفردَةِ (تَرَاقَدَ) هيَ تَنَاوَمَ؛ أي: ادَّعَى النَّومَ، كُلُّ هذا يُعمِّقُ تشابُكَ (تركيباتِ) ظاهِرَةِ النَّومِ إلى حُدودِ (التَّعقيدِ)؛ ذلكَ أنَّ (عَقَّدَ الشَّيءَ): جعَلَهُ أكثَر تشابُكًا، فأنْ يُعَقِّدَ المرءُ الكلامَ يعني أنْ يجعلَهُ عسيرًا عنِ الفَهْمِ، وميَّالًا إلى الالتباسِ والغُموضِ، وهيَ الصِّفاتُ التي تتوفَّرُ في (ظاهِرَةِ النَّومِ) بما هيَ ظاهِرَةٌ (مُرَقَّدَةٌ)؛ أي: (مُرَكَّبَةٌ ومُعَقَّدَةٌ) في الوقتِ عيْنِهِ.
أخيرًا، وليسَ آخِرًا..
أتمنَّى أنْ أكونَ قد وُفِّقْتُ في تقديمِ اقتراحٍ مُفيدٍ وعمَليٍّ، وقادِرٍ، في أقلِّ تقديرٍ، على تحريضِ التَّفكيرِ والتَّأمُّلِ والنِّقاشِ الرَّحبِ البنَّاءِ، ورُبَّما…….. الخَلّاق.