منذ أن كان الكون فكرةً في ذهن الخالق أفاقتْ العملية الإبداعية. مع تسويةِ بنان الإنسي الأول، وعلى وقع خطاه على وجه البسيطة رافقته في مسيرته. فما هو الإبداع؟
تُعرّف طبيبة الأعصاب الأميركية أليس فلاهيرتي الفكرة الإبداعية بأنها كلّ فكرة جديدة مفيدة أو مؤثرة في بيئة مجتمعية معينة. وهذا ينطبق على العلوم، تكنولوجيا المعلومات والأعمال بقدر ما ينطبق على الفنون والمجالات الأدبية. وتعتبر قشرة الفص الجبهي مهدَها الدماغي، إذ يتفاقم النشاط العصبي في تلكم المنطقة عند فحص الاشخاص وهم في خضم عملية الارتجال.
ولكن من هم المبدعون؟ أهم ثلة من النخبة، هل الإبداع حكرٌ على ذوي المواهب، أهو فطري إذ يختار أصحابه فيقع عليهم كهبة قدرية برميةِ نرد؟ أم هو مكتسب فيتطلّب حرث جدب الأرواح، لغرس بذوره فيها وريها ليثمر؟
يجيبنا عن هذا التساؤل عالم الأنظمة العامة، المؤلف والمستشار الدكتور جورج لاند في دراسته البحثية عام 1968، وفيها أجرى اختبارًا هو ذاته الذي تجريه وكالة ناسا لاختيار العالمين والمهندسين العاملين فيها، لكن عينة اختباره كانتْ عبارة عن مجموعة من الأطفال تُراوح أعمارهم بين 3 و5 سنوات. أعاد الاختبار على المجموعة ذاتها عندما بلغوا العاشرة من أعمارهم، ثم أعاده مجددًا حينما بلغوا سنّ الخامسة عشر. فكانتْ النتائج صادمة، إذ سجّل الإبداع بنسبة 98% عند عمر بين 3 و5 سنوات، وانخفضتْ النسبة إلى 30% عند عمر10، وانحدرتْ إلى 12% عند عمر 15، ثم أجرى الاختبار على مجموعة أخرى مؤلفة من 280000 من البالغين فكان الإبداع بنسبة 2% فقط!!
من هنا استنتجَ الدكتور لاند أن الإبداع هو صفة فطرية عامة لدى البشر، ولكن السلوك غير الإبداعي مُكتَسب. وأنّ القواعد واللوائح والقوانين في أثناء المسيرة التعليمية والتربوية تعمل عمل المكابح بوجه العزم الإبداعي.
فما هيَ عناصر الإبداع؟
باختصار، تتلخَّص عناصر الإبداع بالتركيز على مجال أو مساحة محدَّدة، البيئة الداعمة المحفزة، أدوات وتقنيات حصاد الأفكار، والوقت اللازم من بدايات تجلي الفكرة إلى أن يتمخض العمل بالصورة النهائية، ومن ثم تقديمه إلى الجمهور.
وعندئذ تبدأ مرحلة التقييم، فمن له كلمة الفصل، ليتولى دور المحكِّم على الأعمال الإبداعية؟ أهو، كما تقول تيريزا أمبيل من كلية هارفارد للأعمال، كلّ شخص، لأن كل شخص بإمكانه غريزيًا الحكم على صبغة العمل أهو عمل إبداعي أم لا. أم هو الزمن مجددًا يتسلل ليجلس على مقاعد المحكِّمين، فنراه يتعاطى بطريقتين متناقضتين تمامًا مع العمل ذاته خلال حقبتين زمنيتين مختلفتين!
وهذا بالضبط ما حصل مع الدراما التليفزيونية الأميركية المتمثلة بالمسلسل القصير: Scenes from a marriage من إخراج هاغاي ليفي، وبطولة أوسكار إسحاق وجيسيكا تشاستين، الصادر في أكتوبر 2021. والذي حققَ نجاحًا ساحقًا ونسبَ مشاهداتٍ عاليةٍ وترشيحات لعدة جوائز منها (Emmy, Golden Globes USA, Gold Derby Awards) للعام 2022.
وحصد بالفعل خمسة جوائز، أربعة منها آلتْ إلى أوسكار إسحاق، أمّا الخامسة فكانتْ من نصيب جيسيكا تشاستين.
إلّا أنّ هذا العمل هو نسخة مجددة مطوّرة عن الدراما السويدية لعام 1973 للمخرج انغمار بريغمان. بطولة ليف أولمان و ايرلاند جوزيفسون. والتي تم ترشيحها لأربعة جوائز فخطفت منها ثلاثًا إحداها كولدن كلوب، وكانت الجوائز من نصيب المخرج انغمار بريغمان والممثلة ليف أولمان. إلّا أنّ العمل واجه معوقات منعته من الوصول إلى جائزة الأوسكار.
يُعدُّ انغمار بريغمان عينة مثالية للشخصية المبدعة، إذ جسّد ظاهرة مميزة في مجال الكتابة والإخراج الفني والمسرحي منذ الربع الأخير من القرن المنصرم وحتى يومنا هذا.
نقشَ انغمار بريغمان (1918-2007)، خلال عمره البالغ تسعة وثمانين عامًا، بصمتهُ على صهوة أفراس الزمان. عاش حياةً حافلة بالنتاجات والنجاحات، طاف في مدارات الإخراج وكتابة السيناريو، فأخرجَ 59 فيلمًا سينمائيًا، 129 مسرحية، 39 مسرحية إذاعية. انسكبتْ فلسفتهُ حبرًا في غزير مقالاته وكتبه. تناثرتْ عليه الجوائز من كل صوب كبتلات الزهور، من أهمها جائزة غوته، جائزة الدب الذهبي، وثلاث جوائز أوسكار.
بريغمان شرارة القدح لانبثاق مدرسة إخراج بنمط مغاير جذريًا لما سبق. حينما أقام الجدار الرابع، اختزل المساحات، سخّر الموقع للدورانِ حول الممثلين لرصد كلَّ ايماءاتهم، أطلقَ العنانَ لسيل مشاعر الشخصيات كي تتدفق مباشرةً على كاميراته، التي ضبط عدساتها على الزوم، آخذًا لقطات مقربة لا على ملامح أبطاله فحسب، بل على خلجاتِ دواخلهم، وبذلك استحضر عيون المشاهد إلى موقع تصويره، وسمح لها أن تتقمص دور الكاميرا.
ركَّز بريغمان على الصمت وأولاه أهمية كما الحوار، طرق أبواب موضوعات فلسفية وجودية، وعقد نفسية منسية في الروح البشرية، وشيفرات مجتمعية متوارثة بين الأجيال. بغض النظر عن الأسباب التي دفعتهُ إلى ذلك، والتي قد تعود إلى ظروف تنشئته في كنف أب قاس متشدد، الظروف المناخية، والطبيعة المجتمعية في السويد، فإنَّ ما يهم في الأمر هو أَنَّ بريغمان شَكّلَ ظاهرة إبداعية عالمية.
أمّا تلقي الشارع له فينقسم إلى فئتين: الفئة الأولى، وهي الأغلبية، التي تجد أنَّ المتعة في أعماله تكمن في مناجاة النفس وفرصة التدّبر والتفكّر في واقع، في عادات سلوكية، وفي تقاليد مجتمعية نعيشها بعفوية. أما الفئة الأخرى، على الرغم من أنها قليلة، فإنَّ الباحث الاستقصائي لن يستهين بها، وهي ترى في أعمال بريغمان سوداوية، كآبة، تشاؤمًا، وسلبية مفرطة.
والعلّة هنا لا تعود إلى كون أغلبية الفئة الأولى من النخب الذواقة للفن، أو إلى كون أغلبية الفئة الثانية من العامة. فكلّ من ينظر بعمق إلى أعمال بريغمان يجدها غير موجهة على أساس طبقي أو عنصري، بل هي شمولية إنسانية تمامًا. ولكن السبب يكمن في الغاية من مشاهدة العمل. فإن كانت الغاية هي الترفيه فلن يحصد المشاهد إلّا الضجر، أمّا إن كانت الغاية هي الاستمتاع بتجربة روحية فلسفية فلن يجد المشاهد بُدًا سوى أن ينبهر. وبصريح كلام بريغمان: “أنا لا أصنعُ فنًّا حيث يجلس الناس ويستمتعونَ به، بل أوجه لهم ضربات خفيفة، لكي أوقظهم من اللامبالاة!”.
إن استساغة الجمهور للنسخة المحدثة للمخرج هاغاي ليفي، تطرح عدة استفهامات: تُرى هل هذا دليل على نجاح هاغاي في تقريب العمل من الجمهور؟ أم دليل على اجتهاد طاقمه وكفاءة التقنيات المتوافرة بين يديه؟ أم أن نضج الحقبة الزمنية هو الذي جعلها تتسلق بإدراكها لتستوعب العمل؟ وبالتالي لو عاد بريغمان وأعاد طرح مسلسل Scenes from a marriage ستستسيغه الحقبة بالطريقة ذاته، وربما بحفاوة أكبر!
في كل الأحوال، يجب أن يسبق تقييم العمل الإبداعي بمرحلة محورية هي النقد الموضوعي، والذي يتضمن الإحاطة بجوانب العمل كلها، بطريقة حيادية بعيدة عن الانحياز العاطفي.
ولكن هنا يُطرح السؤال: كيف نحدِّد قيمة الإبداع، هل تعتمد القيمة التي نعزوها إلى الإبداع على النجاح الناتج منه؟ أم أنَّ الإبداع من أجل الإبداع هو كلُّ ما يهمُ في الأمر بطبيعة الحال؟
وفي هذا المورد تذكر الكاتبة ساشا في مقالة بعنوان “كيفَ نقيِّم الإبداع؟” المنشور على موقع جامعة اديلايد الأسترالية “أنَّ الإبداع هو حاجة إنسانية فطرية، وليستْ مجرد هدف نسعى للوصول إليه. وإنّ كلّ ما ينتج عن الإبداع والنجاح الذي يحققه فهو شيء ثانوي، وإلا فالهيمنة تكون للرغبة في القيام بالعمل في المقام الأول، ربما هذا ما يكفي.”