تكاد تكون كلمة “النقد” من أكثر الكلمات تداولًا على ألسنتنا في الحوارات والنقاشات، ومع ذلك، يقف كثيرون من الناس ضد فعل النقد كونه يمكن أن يؤدي، كما يرون، إلى حالة من عدم الاستقرار أو إلى تفتيت وحدة الرؤى، أو إلى إلغاء الانسجام والتماسك الضروريين، خصوصًا في اللحظات التي تحتاج إلى شيء من المركزية قولًا وفعلًا. وينظر آخرون إليه بوصفه فعلًا سلبيًا لا ينتج شيئًا سوى تحطيم الموجود من دون تقديم أيّ بدائل أو حلول، ولا يُخفي بعضنا نظرته الضمنية إليه بوصفه عملًا سهلًا يستطيع أي فرد أن يقوم به.
الفكر هو نتاج الواقع عمومًا، ويحتاج دومًا إلى نقدٍ وتصويب كي يتوافق أو يتعاطى مع تغيرات الواقع، ويُجيب عن أسئلته المتجدِّدة، وإلا فإن الفصام سيكون مصيرنا، نغرِّد في ملكوت أوهامنا فيما الواقع يسير بعيدًا عنا، لا نراه ولا يرانا؛ كثيرٌ من مشكلاتنا الواقعية مصدرها الرئيس غربتنا عن الواقع، نعيش في واقع من صنع رؤانا وقناعاتنا الزائفة، أو ننتمي إلى واقع غير الواقع الذي نعيش فيه، كأن ننتمي إلى الماضي وصراعاته وحروبه أكثر كثيرًا من الحاضر وحاجاته، أو نحاول إلباس الحاضر ثوبًا من الماضي، من صنع بشرٍ غيرنا، همومهم غير همومنا، وأحوالهم غير أحوالنا، والأسوأ أننا نتوقع النجاح فيما نحن نفتح بابًا أبديًا للفشل. نحن نحتاج إلى النقد دائمًا وأبدًا، وبكل طريقة ممكنة، كي لا نمرض بالفصام؛ نقد الآخر لنا دواء فعال يرغمنا على إعادة النظر والتعلم، وتطوير معرفتنا بالحياة، ويبقينا متصلين بها.
في الحقيقة، لا تتطور معرفة البشر بالواقع، وبأنفسهم، وبالآخر، من دون النقد؛ نقد التصورات القابعة في الرأس أو تلك التي تتكون لدينا في لحظة ما، فمن خلال النقد يمكن طرد الأوهام والرؤى الزائفة الملازمة لمعرفتنا. يعني ذلك أن إعادة النظر في آرائنا وتصوراتنا، ومحاولة اكتشافها بأعين الآخرين، عمل حيوي وضروري لتقدّمنا وتقدّم الآخر في آن معًا. ولا تتكون هوية أي جماعة، ولا تنمو بصورة سوية، من دون النقد، وإلا ستكون هوية مغلقة على نفسها وجامدة، بما يحوِّل أصحابها، تدريجيًا، إلى عصابة تفتقد إلى التسامح والديمقراطية. الهوية هي معرفة الذات، ولا يمكن لهذه المعرفة أن تسير في طريق التحقّق الصحي من دون العلاقة الجدلية للذات بالذوات الأخرى والواقع في آن معًا، وأساس هذه العلاقة نقد الذات والآخر والواقع.
كل سلطة في الدنيا تسعى لتثبيت وتوسيع مرتكزاتها وعناصر استمراريتها ونطاق صلاحياتها، من سلطة الأب إلى سلطة الزعيم ورئيس الدولة، مرورًا بسلطة رئيس العشيرة ورجل الدين والأمين العام للحزب والمثقف، وغيرهم، ومهمة النقد هي وضع حد لنزعة أي سلطة للهيمنة والسحق. النقد والديمقراطية مترابطان أو صنوان، ينموان معًا ويتراجعان معًا؛ فنمو التفكير النقدي مؤشر على ازدهار الديمقراطية، وموته دلالة على سيادة الاستبداد بألوانه وصنوفه كافة. والنقد تعبير عن قدرة المرء على ممارسة حريته بلا خوف من أي سلطة خارجية أو داخلية، فالجرأة على نقد الذات وأفكارها المحمولة مؤشر على ذات حرة وسوية.
عندما لا تتطور وتتغير القوانين السائدة في المجتمع تبعًا لتغير الواقع، تتحول إلى عبء على حياة البشر، وتقف عائقًا أمام مصالحهم الخاصة والعامة، أيًا يكن مصدر هذه القوانين، وضعيًا أم دينيًا، وتنشأ بالتزامن مع ذلك قوى وفئات اجتماعية مستفيدة من المحافظة على هذه القوانين، وتنمو المصالح الشخصية العمياء على حساب المصلحة العامة. لذلك، فإن نقد المؤسسات القائمة والأحزاب والجمعيات، بأنظمتها وآلياتها وأفكارها وأهدافها، مهم وضروري كي لا تتحول المؤسسات إلى جماعات مغلقة ومتكورة على نفسها، يغنِّي أعضاؤها اللحن نفسه، ويرقصون الرقصة ذاتها.
تسعى الثورات، مثلًا، لفرض سطوتها وقيمها على المجتمع، وتطرح هيمنة ما يسميه بعض المغرمين بتمرير ما لا يُمرّر “الشرعية الثورية”؛ فهذه الشرعية الجديدة تتحول بالضرورة إلى سلطة جديدة يختبئ خلفها فاسدون وحمقى ومستبدون، والنقد وسيلة فاعلة، في أثناء الثورة وبعدها، للحدّ من أخطار هذه الشرعية وأصحابها، ولا يجوز التنازل عنه في أي لحظة أو تأجيله، مهما كانت الأسباب، وأيًا تكن الأحوال والأوضاع.
يغلب على ثقافتنا السائدة الفكر الدفاعي، بما يتضمنه من تبرير ومحافظة، في مقابل ضمور الفكر النقدي. ولذلك، يهيمن على عقولنا نمط التفكير الأصولي بمختلف تلويناته، الدينية والأيديولوجية على السواء، وهذا الأخير يهتم بشيء وحيد هو تأكيد صواب تفكيرنا وحياتنا وخطأ الآخر، والحفاظ على “ثوابتنا”، مستندين إلى رؤية مرضية وسواسية تجاه الآخر، تجعلنا نعيش في كل لحظة وكأننا مستهدفون بسبب معتقداتنا وقناعاتنا، فيما نحن واقعيًا على هامش العالم والحياة، نجترّ ما ينتجه الآخر من علم ومعرفة واقتصاد وعمران.
يحتاج الناقد إلى تعلم تقنيات النقد، وتوسيع معرفته بالواقع، وهذا فعل متواصل ومستمر، لكن لا بأس بالنقد إن لم يكن صاحبه عارفًا، فكلُّ نقد يمكن أن يكون مفيدًا عند الأرواح الواسعة والعقول المنفتحة. ما أحوجنا فعلًا إلى توسيع العقول والأرواح إزاء أي نقد؛ فالتعامل الإيجابي مع النقد مقياس حقيقي لدرجة الثقة بالذات، فيما التعامل المتشنج يشير حكمًا إلى شخصيات أو جماعات عصابية وموتورة، هاجسها الرئيس الدفاع عن هشاشتها، وستر عوراتها، على الرغم من ادعائها الظاهري بالقدرة والتفوق. إن مسيرة الانفتاح على النقد هي ذاتها مسيرة التدرب على الديمقراطيّة.
التفكير الأول تجاه النقد يُحدِّد هويتنا وطبيعة تفكيرنا، فإن فكرنا أولًا بالحماية من النقد والدفاع عن أنفسنا ورجم الناقد، فنحن ننتمي إلى فئة الكائنات الخائفة، غير الواثقة بما لديها، والفاقدة للقيمة الذاتية، وإن فكرنا أولًا بالاستفادة من النقد، فنحن ننتمي إلى فئة الكائنات الشجاعة، والمهمومة بالاستفادة من كل فكرة لتطوير نفسها وبناء مجتمعاتها.
يضيق كثيرٌ من الناس ذرعًا بالنقد، ويرون فيه فعلًا سلبيًا غير منتج للأفكار والحلول والأجوبة، وهذه رؤية خاطئة؛ فالنقد يمكن أن يختزن ضمنًا البدائل حتى لو لم تُطرح مباشرة وبوضوح، على أساس أن النقد عملية مزدوجة تقوم على الهدم والبناء معًا. لكن، لا يُعيب النقد ألا يقدِّم الجديد في لحظة ما، ويكفيه أن يقف في وجه القديم المُعاق والجديد المزوَّر أو المفلِس، أما الجديد الحقيقي والفاعل، فإنه لا يتكون إلا عبر عملية نقدية تراكمية.
من الشائع إلحاق مجموعة من الصفات بكلمة “النقد”، كسعيٍ خفيٍّ لضبط حدوده وآفاقه، بما يعبِّر عن ضيق ضمني به، كأن نقول “النقد الإيجابي” أو “النقد البناء” أو “النقد المفيد”، وغيرها. في الحقيقة، جميع هذه الصفات التي تُلحق بالنقد تلغي وظيفته أو تحدّ من مداه بطريقة أو أخرى، إذ تصبح الصفات واللواحق أهم من الموصوف، أي النقد، وتُستخدم هذه من جانب أصحاب السلطة والمحافظين استخدامًا ذاتيًا ومصلحيًا في الرقابة على حرية النقد، فهم وحدهم المخوَّلون بتحديد مستوى “الإيجابية” و”الإفادة” وتوافر السمة “البنّاءة” في النقد، بما يحوِّله في المآل إلى آلية غير فاعلة. وتُستخدم أيضًا في الرقابة على النقاد، بما يجعلهم مشلولين أو معرضين للمساءلة لتجاوزهم تفسيرات السلطة، الذاتية والمصلحية، لمعاني الصفات واللواحق وحدودها.
يختلف النقد، بالتأكيد، عن “الشتيمة” و”الردح” و”النق”. الشتيمة العارية ليست نقدًا، لكن لا مشكلة في النقد عندما يترافق بشتيمة متوافقة مع مجريات النقد. ومن الحكمة هنا التعاطي مع تلك المجريات، لا الاستغراق في الانفعال اللحظي الذي تسبِّبه “الشتيمة”. ويختلف النقد أيضًا عن “الردح”؛ فهذا الأخير يهتم بالأفراد والذوات، ولا يلقي بالًا للأفكار والبرامج والسياسات، و”الردّاح” لا يردّ على الفكرة المطروحة بأخرى موازية، بل يذهب في اتجاه شخص الناقد، طارحًا أمورًا لا علاقة لها بالفكرة قيد النقاش، وهذه من أكثر الطرق ضعفًا ودلالة على فراغ الرأس. أما “النق”، فهو آلية تقوم على التذمر والشكوى الدائمين، وتشير إلى حالة ذاتية من العدمية وفقدان المعنى، مترافقة بالعجز والهامشية. “الشتيمة” و”الردح” و”النق” هي مؤشرات على النقص المعرفي والهشاشة النفسية في آن معًا.
صحيفة المدن الإلكترونية – 18 أكتوبر 2020