الجباعي؛ مفكِّرٌ من طرازٍ نادرٍ (تقديم لكتاب ضدّ “العقل السليم”)

مدخل

تعرفت إلى جاد الكريم الجباعي، أبو حيّان، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي في منزله آنذاك بمنطقة العباسيين بدمشق. كان لقاءً لحلقة حزبية جديدة من حلقات حزب العمال الثوري العربي في ظروف العمل السري بعد انضمامي إليه في أواخر سنتي الجامعية الأولى. واستمرّت هذه الحلقة تجتمع في منزله أشهرًا، ويبدو أن حلقاتٍ أخرى كانت تجتمع في المنزل نفسه أيضًا في أوقاتٍ أخرى. لا أحد يتخيّل الإرباك الذي تسببه مثل هذه الاجتماعات لصاحب المنزل وأسرته في ذلك الوقت. انتقلت حلقتنا لتجتمع في مكان آخر، وكان السبب -على ما يبدو- أنه ترك منزله المستأجَر في العباسيين بناء على طلب مالكِه، لينتقل إلى منزل آخر في منطقة داريا في الغوطة الغربية. عرفت في ما بعد أنه كان بإمكانه البقاء في منزله السابق لأنه “إيجار قديم”، و”قانون الإيجار والاستئجار” السائد حينها يسمح له بذلك، أو أن يحصل على تعويض مادي مقبول يُعينه على شراء بيت آخر في منطقة أخرى، لكنه رفض. ظلّت هذه القصة حاضرة في ذهني دائمًا.

في بدايات معرفتي به كنت أكره أن يقاطعه أحدٌ في أثناء حديثه، خصوصًا عندما تكون التدخّلات سطحية أو استعراضية أو تكرارًا لما يقوله، لأنني أعتقد أن المرء في حاجة إلى أن ينصت ويستوعب ويتعلّم من حديثه الغني والمُحكم قبل أن يخطو أولى خطواته في الكلام. وفي المقابل كان حُسْن الإنصات سمةً لصيقةً بالجباعي الذي يضع حواسَّه كلّها في خدمة محدِّثه. جاد الكريم محاور مهذب ولبق، يعطي محاوره كلّ اهتمام، يصغي بجوارحه كلها، ويجعل من أي فكرة يطرحها محاوره فكرة عظيمة حتى لو كانت بسيطة وعابرة. لا يجد حرجًا في إطلاع أصدقائه على ما يكتب قبل نشره. ينتظر ملاحظاتهم، يتعامل معها بجدية، ولا مشكلة لديه في أن يعدِّل في خدمة الحقيقة وليس سواها. لا يوجد عضو في حزب العمال ليس للجباعي فضلٌ عليه في ميدان التعلّم والمعرفة.

نصُّ الجباعي مختلفٌ عن النصوص التي يكتبها كثيرٌ من أساتذة الجامعات في ميدان الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة. قد يستطيع هؤلاء أن يعدّوا بحوثًا ميدانية أو يكتبوا دراسات يقرؤون أو يشرحون فيها أفكار أعلام في الفكر والفلسفة والسياسة، لكنهم نادرًا ما ينتجون فكرًا ذا قيمة. لا مسافة تفصل بين روح الجباعي ونصّه المكتوب، فهو لا يكتب بروحية المثقف الموظف أو الأستاذ الجامعي المأسور ظاهريًا بالأكاديميا؛ بل بروحية المفكِّر المهموم بقضايا مجتمعه، وبالرغبة في النهوض، ولذلك سيحسّ القارئ بروحه دائمًا بين الكلمات أو سيكتشف بسهولة أن كلماته معجونة بدمه ولحمه وأعصابه. هناك روح في الكلمات التي يخطها. يُضاف إلى ذلك أنّ حديثه في الفكر والسياسة لا يختلف عن نصوصه المكتوبة لغةً وروحًا وعمقًا، وهذه صفة نادرة، وهي دلالة على صدق الحديث والكتابة بقدر دلالتها على البراعة المعرفية.

أعترف بأنّ هناك صفة كانت تزعجني، وما زالت، في الجباعي، هي تواضعه الجمّ. فهو ليس مهمومًا أو مشغولًا بتسويق نفسه، على عكس كثير من المفكرين والمثقفين في الساحتين السورية والعربية؛ يحفر في العمق من دون اكتراث لأنوار الإعلام ولذكر اسمه في “التنافس” السائد. ينفر من ضجيج “سوق التزاحم”، لا تهمه الأضواء وليس مولعًا بها، وفي هذا الإطار تخفت عنده ذاتية المثقف المعروفة إلى الصفر، ويحضر بدلًا منها الفرد المتفرِّد بفكره وروحه، الواثق بنفسه، والمؤمن بقدرة البشر على التمييز على المدى الطويل. في الحقيقة، أعلم أن سلوكه حقيقي وصائب، وما كنت لأفعل غيره، غير أن المزعج في هذا هو كثافة حضور الشعبويين والمدّعين وأصحاب الأصوات العالية في الساحة على حساب العاقلين. هذا التواضع الأصيل والحقيقي للجباعي، من دون أي افتعال أو تصنّع، في بيئة ثقافية مجتمعية لا تفهمه وتقدِّره، يخلق أيضًا، أحيانًا، شيئًا من عدم التقدير لفكره عند بعض من يعتقدون أنهم “نجوم” الساحة الفكرية أو ملّاكها على الرغم مما اقترفته “عقولهم الكبيرة” من أخطاء وخطايا في الثقافة والسياسة إبان موجة الربيع العربي.

هذا الكتاب

استندت فكرة هذا الكتاب/ الحوار إلى نقطتين؛ الأولى، الرغبة في أن يكون حوارنا المكتوب مع جاد الكريم الجباعي شكلًا من أشكال تكريم شخصية فكرية تستحق بجدارة الاعتراف بفضلها على الفكر والآخرين، عن طريق تسليط الضوء على فكره، خصوصًا في ظلّ هيمنة عادة سيئة على الوسط الثقافي العام تتجلّى بأننا لا نكرِّم مثقفينا في حياتهم، ولا نعطيهم حقهم، وننكر فضائلهم. الجباعي مثلًا كان بعيدًا جدًا من هذه العادات السيئة في هذا الوسط؛ إنه لا يجد حرجًا في أن يعترف بفضل إلياس مرقص وياسين الحافظ وعبدالله العروي على وعيه وفكره في كل مناسبة، بل إنه لا يغفل ذكر أصدقائه في كتبه، واستفادته من أفكارهم وحواراته معهم. حاولنا تكريمه في هذا الكتاب تعبيرًا عن مديونيتنا له معرفيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا، فإذا به يكرِّمنا بإجاباته التي تفتح آفاق التفكير، وتحرِّض بحماسة على إعادة النظر.

النقطة الثانية، الرغبة في الاستفادة من فكره بعد المآلات التي وصل إليها الربيع العربي، خاصة أنه أصبح في عمر متقدِّم نسبيًّا. وكان الخبر الذي نقله لي أحد الأصدقاء عن أن أحواله الصحية ليست على ما يرام، وأنه خضع لعمل جراحي مؤخرًا في القلب، دافعًا لي لتسريع مشروع الحوار، فاتصلت بمنير الخطيب ورغبنا في أن يكون الحوار مباشرًا، لكن أحواله لم تكن تساعد آنذاك.

كانت فكرتنا، بحسب تعبير منير الخطيب، “أن نعصره”، فنستخرج منه عصارة فكره، خصوصًا بعد كل الذي حدث في سورية والمنطقة العربية؛ وكأننا أمام منجم نريد أن نستخرج كلَّ ما فيه. لا نستطيع القول إننا نجحنا، فالفكر لا ينضب، ونحن أمام شخص يناقش ويسائل الأمور في كل لحظة، ويُنتج بصورة يومية. بالطبع، لا يستنفد هذا الكتاب فكر الجباعي وهمومه التنويرية والتغييرية، لكن أهميته تكمن في أن إجاباته تأتي بعد مرور عشر سنوات على الربيع العربي بكل ما رافقه من أسئلة وفوضى فكرية وحروب وأزمات وانكسارات.

ينظر الجباعي إلى القارئ أو المحاور بوصفه شريكًا إيجابيًا في إنتاج الحقيقة، ولذلك كانت طريقة الحوار تعتمد على إرسال عدد من الأسئلة إليه، ومن ثم انتظار إجاباته، والاطلاع عليها، وبناء أسئلة جديدة في ضوئها. كان كلٌّ منا، أنا ومنير الخطيب، يكتب أسئلته، ثم نتشاور حولها، نعدِّل فيها، كي لا يكرِّر كلٌ منا أسئلة الآخر. لا يوجد تكرار عمومًا، فعلى الرغم من التقارب الظاهري في عناوين أو موضوعات بعض الأسئلة إلّا أن كلَّ سؤالٍ يتناول الموضوع بطريقة مغايرة أو من زاوية أخرى. لا توجد صيغة واحدة للسؤال عن أي قضية أو ظاهرة، هناك أسئلة لا نهائية لمقاربة أي مسألة، تمامًا مثلما هناك إجابات لا نهائية، وهناك إجابات تنفتح على عشرات الأسئلة الجديدة. يقول الجباعي “إن لأي سؤال عدة إجابات ممكنة. هذا يعني أن جميع الإجابات الآتية قابلة للمراجعة والنقد، وليس أيٌ منها قولًا أخيرًا أو نهائيًا، فليس ثمة من قول أخير، وليس ثمة من قول أولَّ معروفٍ على وجه اليقين، لأن تاريخ الأفكار أكثر تعقيدًا من تواريخ من تنسب الأفكار إليهم، أفرادًا كانوا أم جماعات ومجتمعات وأممًا وشعوبًا، بحكم الطابع الكوني للفكر، علاوة على بعديه النقدي والمستقبلي، وكونه شكل العالم، الذي لا يستقر على حال.1

استمرّ الحوار مدة عام كامل أو أكثر قليلًا، وبعد أن وصلنا إلى نهاياته، لكن من دون أي رغبة في إنهائه، جمعنا الأسئلة والأجوبة، وأعدنا ترتيبها وتسلسلها في هذا الكتاب وفقًا لعناوينها أو موضوعاتها الرئيسة، ولهذا إيجابياته المتمثلة بقدرة القارئ على قراءة الموضوع من خلال زوايا متنوعة، وله سلبياته أيضًا التي قد تتجلى بوجود شيء من التكرار، لكنه يبقى تكرارًا ظاهريًا على أي حال.

مثقفٌ لا يهادن أيَّ سلطة

الجباعي مثقف منتج للفكر، ما يجعل صفة المفكِّر مطابقة في حالته، ليس فيها ادّعاء أو اعتداء على استخدام الصفات كالذي تعجّ به الساحة الثقافية. مكنته عوامل عديدة في مسيرة حياته من امتلاك القدرة على الكتابة في ميدان إنتاج الأفكار؛ فاطّلاعه على التراث الإسلامي وإتقانه اللغة العربية وقراءاته الأدبية، ومن ثم اطلاعاته واهتماماته الفلسفية، وتجاربه السياسية، وعلاقاته بعددٍ من المفكِّرين مثل إلياس مرقص وياسين الحافظ وجورج طرابيشي وغيرهم، كلها عوامل ساعدته في أن يكون، في رأيي، أهم شخصية ثقافية سورية بدءًا من تسعينيات القرن الماضي، اشتغلت في ميدان الفكر وأنتجت نصوصًا محكمة ومتماسكة تتجاوز أنماط التفكير السائدة في أوساط النخب الفكرية والسياسية في سوريا والمنطقة العربية.

لم يكن من طبقة مثقفي السلطة، أي سلطة، بل كان مثقفًا معارضًا ونقديًّا، ولا من طبقة أولئك الذين يقفون على الحدّ، يعارضون بقدر ما يضمن أمانهم ومصالحهم الشخصية، ويضمن ألا يخسروا مغانم السلطة من جهة، وبقدر ما يحصلون على شرف المعارضة من جهة أخرى. أما موقفه المعارض فهو أصيل وعميق، لا يقف عند المستوى السياسي، بل إن أساسه ومرتكزه يكمنان في وضعيته بوصفه مثقفًا مخلصًا للحقيقة أولًا وأخيرًا، لذلك لم يكتفِ بالوقوف ضد ذلك المثقف الذي يتماهى بالسلطة السياسية فحسب، بل وقف أيضًا ضد أي سلطة تمثِّل قيدًا على الحرية والتفكير، بما فيها سلطة المجتمع التي تتجلّى بأشكال عديدة، دينية وطائفية وإثنية وعشائرية واجتماعية وغيرها.

الجباعي ليس من المثقفين الذين يسايرون التيار خوفًا من ردات فعله الشديدة، ولا هو من الذين يكتبون لإرضاء أي سلطة، دينية أو سياسية أو مجتمعية، ولا يتردّد في نقد العادات والتقاليد والأعراف السائدة، ولا في تحطيم التابوهات الموروثة، فمهمة المثقف أن يتناول القضايا كما يراها هو، وانطلاقًا من وعيه، لا كما تراها السلطات السياسية والدينية، ولا كما يراها الناس، ولا كما هي سائدة في عقل المجتمع، لأنه إن فعل ذلك يكون قد تخلى عن جوهر رسالته التنويرية. ببساطة ووضوح، الجباعي مثقف ليس صديقًا لأي سلطة بحسب تعبير إدوارد سعيد.

لم ينجذب إلى أي إغراء من أي نوع، وحدَّد دوره في تنمية الثقافة والتنوير، والحفر بعمق في المنظومات الفكرية السائدة ونقدها، وإعادة بناء المفاهيم المتداولة وتجديدها؛ فالمثقف الحق بالنسبة إليه هو المثقف الذي “يتكلم بلسانه هو، لا بلسان مجتمعه، وهو من ينطق بمنطقه هو، ويحترم القانون العام، ولكنه لا يخضع إلا لقانونه المعرفي-الأخلاقي، أو هو المثقف الذي تصلح مسلماته أو مبادئ فكره وسلوكه، أن تكون قانونًا عامًا، وليس هو من يفرض هذا القانون على مجتمع/ـه؛ وإلَّا، يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ويستوي الذين يعقلون والذين لا يعقلون.2

المثقف –كما يعرِّفه محمد عابد الجابري– هو “فرد له وعي خاص ورأي خاص”، ومن ثم فإن المثقف ينظر إلى القضايا والظواهر المختلفة انطلاقًا من وعيه الذاتي ورؤيته الخاصة، لا يأسره السائد والمألوف، ولا يقبل أي شيء من دون إخضاعه للتفكير النقدي وحقائق العلم، ولا ينشد في مسعاه إلا الحقيقة، وقد عبر الجباعي عن هذه القناعة بقوله إن “الشخص الذي يتماهى بـ (المجتمع)، فيتكلم بلسانه، وينطق بمنطقه، ويخضع لقانونه، هو نفسه الشخص، الذي يعتقد أنه يمثل المجتمع، فيبيح لنفسه أن يتكلم بلسانه ونيابة عنه من دون إذن أو تفويض من أحد،” لأن “التكلم بلسان المجتمع هو بذرة الشعبوية وجنين التعصب، وسرّ النماذج النمطية للأفراد والفئات الاجتماعية والجماعات الدينية.3

مفكِّرٌ نقديٌّ وصانعُ مفاهيم

الجباعي من المفكرين الذين رفعوا راية الفكر النقدي، وأبرزوا أهميته في تحليل تفكيرنا وتفسيره وتقويمه وإعادة بنائه في كل لحظة، وتقليله من مخاطر البناء على مقدمات خاطئة، وعملوا على بسط مبادئه ومفاهيمه وأركانه في مواجهة الوعي الأيديولوجي المهيمن، المستلب والزائف، والأيديولوجيات السائدة، القومية والإسلامية واليسارية، لا بدلالة أيديولوجية أخرى مضادة، بل بدلالة الوعي النقدي المستند إلى وعي الواقع ومنطق التاريخ وإلى قوانين العقل الكونية، وإلى وضع المذهب الجدلي في مواجهة المذهب الوضعي وتجلياته الفكرية والسياسية. ولمّا كان التفكير النقدي رحلة طويلة ومستمرة من العراك مع الفكر والواقع، فقد كان يتجاوز نفسه ووعيه دائمًا، فلم يحد نفسه بأسقف أيديولوجية أو شعاراتية أو سياسية، ولذلك كانت آفاقه الفكرية مفتوحة دومًا على التطور.

الجباعي صانع ونحات مفاهيم، ومبدع في رسم الكلمات وصوغ الجمل. الدقة المفاهيمية والدقة اللغوية سمتان رئيستان في كتاباته، وهناك وحدة واتساق وتماسك في معاني مفاهيمه المستخدمة ودلالاتها في كتبه ودراساتها كلها، وهذه ليست مسألة سهلة أبدًا. شخصيًا، لا أشعر في أثناء قراءة نصوصه بأنني أمام عباراتٍ أو فقراتٍ غير لازمة أو حشوٍ زائدٍ مثل نصوص كثيرٍ من المفكرين والمثقفين، ولعلّي أضيف شيئًا هنا من واقع تجربتي المتواضعة مدة من الزمن في ميدان التحرير اللغوي أنّ نصوص كثير من الأسماء اللامعة فكريًا على الساحة العربية تحتاج إلى تدقيق وتحرير بدرجات متفاوتة، تجعل النص المنشور مختلفًا عن النصّ الأصلي بهذه الدرجة أو تلك، فيما نصوص الجباعي ليست كذلك؛ في نصوصه نكون أمام عبارات وكلمات موزونة بميزان الذهب، نتعلم منها دقة صوغ المفاهيم وسلاسة التعبير عن الأفكار.

على الرغم من اشتغاله مدة طويلة في العمل السياسي إلّا أنه كان دائم العمل على الجبهة الثقافية، وكثيرًا ما كتب في نقد السياسة التي تفتقر إلى أرضية ثقافية. اهتم كثيرًا بالتفكير في المفاهيم واستكشاف الشحنات الأيديولوجية الملازمة لها في كل مرحلة وإعادة بنائها، وفي هذا يقول “الفكر شكل العالم؛ والكلمات-المفاهيم أسماؤه ومفاتيح معرفته وأدوات مفهمته أو تنظيره بغية إنشاء صورته في الذهن، واستنطاقه واستخراج كوامنه أو إظهارها. وللكلمات حياتها وموتها، سعادتها وشقاؤها، تحمل كلٌّ منها، فضلًا عن دلالتها اللغوية-المعرفية والاصطلاحية والبلاغية، تاريخها الخاص، مشفوعًا بشحنة أيديولوجية مصدرها الأنساق والخطابات التي اندرجت فيها واكتسبت من كل نسق أو خطاب دلالة خاصة غلبت عليها، في حين من الأحيان، أو في كثير منها، فلا تكاد تُعرف إلّا بها.4 ولذلك رأى أن الموضوعية تقتضي “تحرير المفهوم من شباك الأيديولوجيا وإعادته إلى ميدان المجتمع والتاريخ. ففي هذا الميدان فقط يفصح عن طابعه الواقعي وقيمته المعيارية، وعن دلالاته المعرفية والنفسية والأخلاقية.5

اهتمّ بتحديد معنى الفكر والمعرفة وتمييزهما من الأيديولوجيا بصورة خاصة، وبجملة المفاهيم المرتبطة بتشكّل ونمو الدولة السياسية الحديثة، المفاهيم التي تنتمي إلى الحداثة الأوروبية، الإنسان والفرد والحرية والدولة والتاريخ والعقلانية والعلمانية والحداثة والقومية والأمة والشعب والمجتمع المدني، وغيرها، ورأى أنها مترابطة وتنتمي إلى حقل دلالي واحد، وربط مفهوم المجتمع المدني بأصوله الليبرالية والتنويرية، أي ليبرالية القرنين السابع عشر والثامن عشر التي يميّزها عن الليبرالية الجديدة. أعاد قراءة هذه المفاهيم، وقدَّم فهمًا عميقًا ومتماسكًا لها، مستعينًا بالتاريخ والنزعة التاريخانية، وبماركسية حيّة ذات نسغ ليبرالي وإنساني، ليكشف في سياق عمله عن التناقضات في الأيديولوجيات الثلاث الكبرى السائدة، القومية والإسلامية والاشتراكية، وتقليديتها، وعن اشتراكها في طرائق التفكير الصنمية على الرغم من اختلاف شعاراتها المعلنة، ومن ثم هشاشة الخطاب السياسي للقوى والأحزاب السياسية التي تبنّتها أو استرشدت بها، وتوقف كثيرًا عند تقلدة المفاهيم الحديثة هذه، التي تجلّت مثلًا في مسخ مفهوم الديمقراطية إلى شورى أو صندوق اقتراع، والمواطنين إلى رعية، والمجتمع المدني إلى المجتمع الأهلي أو إلى شبكة المنظمات غير الحكومية.

تناول الجباعي أيضًا مفاهيم حديثة أخرى مثل رأس المال الاجتماعي والمعرفي والثقافي أو الرمزي، شرحًا وتطويرًا، ورأى أنها “أدوات عمل حديثة ومعايير أكثر مواءمة لإجراءات القياس والتكميم من الصراع الطبقي، ومرجعيته المادية التاريخية.6 وعرّف رأس المال الاجتماعي تعريفًا لافتًا “هو ما يتبقى لدى هذا المجتمع أو ذاك بعد أن يذهب كل شيء” على غرار تعريف موجز للثقافة وشديد الأهمية “الثقافة هي ما يتبقى بعد أن ننسى كل شيء”، ذلك بسبب القرابة الوثيقة والعلاقة الجدلية بين رأس المال الاجتماعي ورأس المال الثقافي.7 ومن ثم يكون رأس المال الاجتماعي “ذلك الجزء من قيمة العمل والنشاط الذي يزيد على الحدّ الضروري لإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية والنظام الاجتماعي في أبسط صورهما،8 أي القيمة الاجتماعية، الثقافية والأخلاقية والمؤسسية الفائضة أو الزائدة عن الموروث الاجتماعي أو الثروة الروحية الموروثة، التي تنتقل من جيل إلى جيل. وأضاف إلى مقوماته الأساسية المتفق عليها، أي الثقة والتعاون والشبكات، مقومًا رابعًا هو الشعور بالمسؤولية والنهوض بها، أي المسؤولية القانونية، والمسؤولية الاجتماعية، والمسؤولية السياسية، والمسؤولية الأخلاقية.9 إلى جانب ذلك، درس العلاقة الجدلية بين رأس المال الاجتماعي ورأس المال المعرفي ورأس المال الثقافي أو الرمزي ورأس المال “المادي” كونها تنتج من مختلف أشكال النشاط التي يمارسها الأفراد في مختلف مجالات الحياة.

مبدؤه الأساس؛ الإنسان والكونية والمعاصرة

لم يتوقف الجباعي عن الكتابة والبحث منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، وكان مهمومًا دائمًا بقضايا مجتمعه، وبسَط، منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، رؤاه وأفكاره بوضوح، في كتب ودراسات عديدة يُتَمِّم بعضها بعضًا، وتشكِّل مجتمعة منهجه الفكري وخياراته السياسية والمجتمعية. ونعرف اليوم أنه كان مفكرًا نقديًا يهدف إلى إظهار فساد الثقافة السلفية بأيديولوجياتها كافة، القومية والإسلامية واليسارية، والنزعات التلفيقية والانتقائية المهيمنة في الفكر العربي المعاصر. إنه من الداعين، إلى جانب الياس مرقص وياسين الحافظ وطرابيشي والعروي وغيرهم، إلى ثورة ثقافية يمكنها أن تضعنا أمام اختياراتٍ جديدةٍ مُنفتحةٍ على مجمل الثورات الفكرية والسياسية التي تبلورت في العصر الحديث.

يؤمن الجباعي بالديالكتيك والديمقراطية منهجًا. يقف إلى جانب المنهج الجدلي (الديالكتي) ضد المذهب الوضعي، وضد كلِّ تمذهب أو تأدلج، لأن “الأيديولوجيا تنفي الفردية بقدر ما تنفي الحرية.10 وهناك مسألتان أساسيتان وتأسيسيِّتان توقف عندهما في كتاباته، تنبني عليهما المسائل الأخرى، أولاهما مسألة منطق التاريخ ومعقولية الواقع، والثانية مسألة المعرفة/العمل.

المبدأ الأساس في فكره هو الإنسان، لأنه “الكائن الوحيد على كوكب الأرض، الذي يستطيع تحسين عالمه وتحسين شروط حياته، وتغيير أشكال الطبيعة، وخلق عالمه الخاص، بهذا كله هو قادر على تحسين ذاته باطراد، تلكم هي قابلية التحسن الذاتي، أو ملكة التحسن الذاتي.11 والإنسان ووجود الجماعة الإنسانية، هما مبدأ الكونية والمعاصرة، وهذه أساس ومرتكز كل فعل تنويري لديه، فـ “الفرد الإنساني هو المعيار العام، هو النموذج الواضح والفصيح للكونية الإنسية، في أفق الإمكان المفتوح، في أفق الحرية.12 موقف الجباعي من كونية الفكر جعله يقف ضدّ كل خصوصية ثقافية أو قيمية أو سياسية تجعل من نفسها معيارًا وحيدًا للحقيقة والمعنى الوحيد للتاريخ، لأن الخصوصية بهذا المعنى “تنفي العمومية ذاتيًا، فتنفي ذاتها وذاتيتها موضوعيًا، أي تنفي إنسانيتها، ومن ثم حريتها. ولهذا تظل إما منعزلة ومنكفئة على ذاتها، وإما تابعة ومستباحة.13

في تمييزه الفكر من الأيديولوجيا عاد إلى الأساس أو الجذر، أي الإنسان؛ “الحرية هي الفيصل بين الفكر والأيديولوجيا؛ الأيديولوجيا قيد صدئ على حرية التفكير…. أتناول موضوع الفروق بين الفكر والأيديولوجيا من زاوية الحرية؛ فأدعي أن الحرية هي قوامُ الفكر، الذي يستحق اسمه، ونصابُه وعمادُه، ونظامُه أيضًا؛ إذ عملية التفكير، قبل أن تصير منتجاتُها كلماتٍ وجملًا ملفوظة، قولًا وكلامًا، أو قبل أن تصير خطابًا، وقبل أن تخضع لنظام اللغة وقيودها، ونظام الخطاب وقيوده، هي لحظة الحرية الأولى.14

لا تزال الثقافة في المنطقة العربية تعاني هيمنة التقليد والتراث، وسيادة نزعات التوفيق والانتقاء، ولن تتمكّن من إنجاز مشروعها في القطيعة المعرفية من دون اتخاذ مواقف واضحة من التراث والتاريخ استنادًا إلى أوليات الفكر التاريخي، وبناءً على منجزات الفكر الإنساني المعاصر، وبهدف بلوغ عتبة الحداثة. ليس في ثقافتنا اليوم -بحسب الجباعي- ما يفيد العالم، بل “ليس فيها ما يفيدنا اليوم أيضًا، إلّا في حدود عالمنا الخاص، عالم النيام؛ بل عوالمنا الخاصة، أو في حدود استهلاكنا للثقافة، وكيفية هذا الاستهلاك. ثقافتنا السائدة حبيسة في فضاءاتنا الخاصة، ونحن محبوسون في هذه الفضاءات، وفي ثقافتنا الحبيسة؛ أي إنّنا في محبس داخلَ محبس.15

يدافع الجباعي في كتبه بحماسة عن الحداثة، ويدعو إلى التعلم دائمًا من دروس الفكر المعاصر وفتوحاته، فهو لا ينظر إلى منجزات الفكر المعاصر بوصفها ملكية خاصة بالغرب الأوروبي، على الرغم من أن هذا الأخير هو صاحب الحضور والفاعلية فيها منذ نحو ثلاثة قرون أو أكثر، فمعركتنا السياسية معه لا ينبغي لها أن تدفعنا إلى إدارة الظهر لمنجزاته المادية وفتوحاته الفكرية. ولذلك طرح الجباعي في مرات عديدة فكرة القطيعة المعرفية مع ماضينا، لأن الرؤى والتصورات التوفيقية أو الانتقائية لا تفيدنا في شيء، فضلًا عن أنها تجمع ما لا يجمع، وتوفِّق بين متناقضات لا تلتقي، ولا تنتج واقعيًا إلّا المفارقات كونها تضرب مسار الزمن المنطقي من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. إن أي نهضة مستقبلية، وأي محاولة لإعادة بناء الذات، لا بدّ أن تستندا إلى مقدّمات جديدة منسجمة مع المتغيرات التي حصلت، وهي حكمًا غير تلك التي تنهل منها الثقافة والسياسة في المنطقة العربية منذ أكثر من ألف عام.

توقف الجباعي طويلًا عند مسألة الهوية التي تحولت إلى عقدة بحكم نموها في سياق الاحتماء بالماضي والدفاع عن الذات المهزومة إزاء الخارج، لتصبح جوهرًا سرمديًّا ثابتًا متعاليًا على الواقع والتاريخ، فعمل على وضعها في سياق التاريخ بوصفه “توقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى” بحسب تعبير إلياس مرقص، لتتأسّس الهوية وتنمو في مجال التاريخ؛ تاريخ إنتاج البشر لوجودهم الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، فترتبط بذلك بفكرة التقدّم وبالفاعلية الإنسانية، فهوية شعب ما أو أمة ما “هي ما ينتجه هذا الشعب وما تنتجه هذه الأمة على الصعيدين المادي والروحي، لا ما كانا عليه في ماض مضى أو في عصر ذهبي مفترض.16 لا تتبلور الهوية إذًا إلا في سياق مشروع نهضوي ديمقراطي أساسه بناء الدولة الوطنية وحرية المجتمع المدني وتحقيق الاندماج الوطني القائم على التنوع.

وصف الجباعي المجتمع المدني بمملكة الحرية أو “فضاء من الحرية”، والدولة الحديثة بـ “مملكة القانون”، ورأى أن العلاقة الضرورية، المنطقية والتاريخية، بين المجتمع المدني والدولة الوطنية هي مثل “العلاقة الضرورية منطقيًا وتاريخيًا بين الحرية والقانون”، ومن ثمّ يكون قوام الهوية الحية “هو جدل الانتماء والتواصل الذي يتجلى في المجتمع المدني والدولة الوطنية بالتلازم الضروري.17 أما ماهية الدولة الوطنية الحديثة فهي العمومية (= الإنسانية)، وهذه “صفة جوهرية للدستور والقانون، هذه الصفة هي التي تجعل المساواة في الحريات الأساسية والحقوق ممكنة18 بخلاف دولة الحزب الواحد أو الحزب القائد، ودولة العائلة أو العشيرة أو الطغمة.

وفي رحاب المجتمع المدني، وفي إطار الدولة الوطنية الديمقراطية، واتصالًا بالجماعة الإنسانية، ينمو رأس المال الاجتماعي، كما يقول الجباعي. لكن هذا الأخير لا يكون فاعلًا ومتجدِّدًا إلّا “عندما تكون القيم الإنسانية العامة حاكمة على القيم الاجتماعية الخاصة، وعندما تكون القيم الوطنية العامة حاكمة على القيم الفئوية الخاصة؛ لأن شعور الأفراد بسمو الرابطة الإنسانية أولًا، وسمو الرابطة الاجتماعية (الوطنية) تاليًا، وسمو القانون أخيرًا، هو الشرط اللازم لتمدين العلاقات الاجتماعية والمؤسسات وأنسنتها.19 وعلى الرغم من أن تطور رأس المال الاجتماعي مشروط بتطور المجتمع وتمدّنه، وبتحوّله تدريجًا من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، إلّا أنه يرى ضرورة حدوث شكل من أشكال التزامن والترابط بين رأس المال الاجتماعي ورأس المال الثقافي ورأس المال المادي “لكي يتحقق التوازن الاجتماعي بين التبادل المادي والتذاوت الإنساني، أي لكي تتحقق التنمية الإنسانية الشاملة.20

رأى الجباعي أيضًا، في سياق الحديث عن الهوية، أن تسييس العروبة وتسييس الدين لا يُنتجان إلّا بنى أيديولوجية مغلقة تعيد إنتاج الاستبداد والتقليد وتعزِّزهما، وميَّز بين الأصل والهوية، وبناءً على ذلك رأى أن الوحدة المنشودة ليست وحدة العرب، ولا الوحدة بالمعنى الاندماجي عند التيار القومي التقليدي، بل “وحدة الدول العربية القائمة بالفعل، وشرط تحقيقها هو تحوّل كل واحدة من هذه الدول إلى دولة وطنية ديمقراطية تدفعها مصلحة شعبها إلى الوحدة أو الاتحاد، على غرار الاتحاد الأوروبي.21

الإنسان أولًا.. قبل العقيدة والأيديولوجيا

مركزية الإنسان في فكر الجباعي دفعته أيضًا إلى رؤية أوسع لمسألة الدين والإيمان فأعادها إلى جذرها، أي الإنسان العاقل، لأن “غير العاقل لا يؤمن ولا يكفر، لا يوحِّد ولا يُشرك22، فـ “الإيمان مشروط بالعقل؛ بل هو مشروط بالصحة العقلية، أو بسلامة العقل، لا بل (العقل السليم)“.23 و”العقل مؤسَّس على اللاعقل، أي على طبيعية الكائن، أو فطرته أو غريزته، والإيمان مؤسَّس على اللاإيمان، أي على طبيعية الكائن مرة أخرى،24 فالعقيدة ليست أهم من الإنسان، وليست أسمى منه.

هناك فكرتان شائعتان هما الخوف على الدين أو الخوف منه. لا يحتاج الدين إلى من يحميه أو يدافع عنه: “الإنسان هو الذي يستحق الحماية، بالفعل، لا الفكرة ولا العقيدة. الفكرة تحمي نفسها أو لا تحميها، ما دام ثمة عقل وعقلاء وعاقلات ومعايير عقلية وأخلاقية، والعقيدة كذلك،“25 لأن “الفكرة أو العقيدة محمول متغير لحامل متغير، هو الإنسان، فقد يتخلى الشخص عن فكرة أو عدة أفكار أو عن منظومة أفكار كاملة، وقد يختار التحول من دين إلى آخر، وقد يختار ألا يكون متدينًا.26 أما الخوف من الدين فهو مؤشر على عقل أيديولوجي لا يميِّز بين الدين العام الذي مبدؤه وأساسه الروح الإنساني العام والكلي، والدين الخاص، ويخلط بين الروح العام والتمثيلات السياسية الدينية والمؤسسات الدينية.

على الرغم من أن الجباعي لم يكن يساريًا بالمعنى التقليدي الشائع، ولا سمعناه مرةً يدافع عنه، بل على العكس كان هذا اليسار محطَّ نقدٍ وتشريحٍ دائمين لدى كلِّ من قرأوا وهضموا ما كتبه إلياس مرقص وياسين الحافظ في مراحل سابقة، إلّا أن منتقديه يحلو لهم القول إنه تراجع عن يساريته، وفي هذا يقول “تراجعت عن الأيديولوجية اليسراوية التي لا تختلف عن أي أيديولوجية مذهبية، بصفتها أيديولوجية. فقد اتهمني بعضهم بالنكوص عن الماركسية إلى الليبرالية، فشكرتهم على ذلك؛ لأنني رجعت إلى النسغ الحي للماركسية، وأعدت قراءتها ليبراليًا، وصرت أرى في ماركس فيلسوفًا إنسانيًا وديمقراطيًا، له ما له وعليه ما عليه.27

وجّه الجباعي نقدًا شديدًا لليسار الأيديولوجي الذي وقف إلى جانب السلطة السورية وبرَّر جرائمها، ولذلك ركّز على ظاهرة السقوط الأخلاقي التي أصابت معظم اليسار، خاصة في المنطقة العربية، من حيث وقوفه إلى جانب الاستبداد تحت شعارات المقاومة والممانعة ومناهضة الإمبريالية والصهيونية والرجعية، ولا مبالاته بمطالب الحريات والديمقراطية، فضلًا عن عدم اكتراثه للكارثة الإنسانية في سوريا، وفي هذا يرى أن “ذروة السقوط الأخلاقي تفضيل الفكرة على الإنسان وتفضيل الشعارات الكاذبة على المجتمعات والشعوب وتفضيل الأيديولوجيات على الواقع الذي يصادمها ويكشف عن عنصريتها وإقصائيتها.28 في المقابل، نقد الجباعي الشقّ الآخر من اليسار الذي سار في ذيل الحركات الإسلامية المتطرفة والجهادية على أساس أنها معارضة للسلطة، معيبًا عليه شعبويته وقصر نظره.

ولذلك رأى الجباعي أن مفهومي اليمين واليسار لم يفيدا إلّا في زيادة التشويش والسديمية ومحو الفروق، ومن ثمّ “صار من الضروري أن نودّع مفهومي اليسار واليمين اللذين يقابلهما عندنا مفهوما (التقدميين) و(الرجعيين)، ونطردهما من المجالات التداولية، بغية تسمية القوى الاجتماعية والسياسية والاتجاهات الفكرية بأسمائها، لا باستعارات بلاغية.29

نقد الأيديولوجيا والتجربة السياسية

كانت للجباعي تجربة سياسية طويلة وغنية، تقلَّد خلالها مواقع سياسية قيادية عديدة. في سياق تجربته الحزبية في حزب العمال، وأنا ومنير الخطيب من الذين عاشوا التجربة ذاتها، لا أذكر حقًا أنه تصرّف بوصفه “قياديًّا” بالمعنى الشائع والمعهود، السلطوي؛ لم تظهر في أدائه السياسي سمات أو آليات التبرير والتغطية واعتماد المناورة أسلوبًا وحفر المطبات للرفاق والشركاء والرغبة في الظفر بالتصفيق، ومارس فعلًا سياسة بجناحين؛ الفكر والأخلاق، بحسب تعبير إلياس مرقص، لأنه مخلص لما يعتقد أنه الحقيقة، ويؤمن بعمق بالديمقراطية، ويلتزم سياسة أخلاقية. كانت هذه الصفات، وما تزال، نادرة في العمل السياسي.

كتب الجباعي كثيرًا في نقد التجربة الحزبية والأحزاب السياسية، نشر بعضه عندما كان لا يزال ضمن صفوف حزب العمال الثوري العربي، وفي مواقع قيادية، وهذا نادر في الممارسة السياسية والحزبية في المنطقة العربية، أي أن يكون القيادي نقديَّا. لاحظ أن الأيديولوجية تحضر في المؤسسات والتشكيلات السياسية، في المنطقة العربية، بكثافة وحدة، لذا يكون الهمّ الأساس للتشكيل السياسي وأعضائه هو توكيد صحة معتقدهم، وإثبات أن الحوادث الواقعية لا تأتي إلا مطابقة له. لا تفكِّر القوى والتشكيلات الأيديولوجيّة إلا من داخل الصندوق الأيديولوجيّ، واستنادًا إلى ركام الشعارات الموروثة، ومن ثم يكون الفكر والواقع غائبين في حياتها، على الرغم من كونهما أساس أي عمل سياسي. يرى الجباعي أن الفكر غير الأيديولوجية، الفكر يدرك العلاقة الجدلية مع الواقع المتغير، ويعيد النظر في مقولاته ومقارباته في ضوء تغيراته، بينما الأيديولوجية لا ترى الواقع، وتريد منه أن يسير على هواها وعلى إيقاع أوهامها عن نفسها وعن الآخر والواقع والعالم.

مع الحضور الوازن للأيديولوجية، تغيب أيضًا الرؤية السياسية التفصيلية والبرامجية. الهدف الأساس، الظاهر أو الكامن، للتشكيل السياسي الأيديولوجي هو الوصول إلى السلطة، والسيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية، وتعميم أيديولوجيته “الصحيحة” في المجتمع، ومن ثمّ التعبئة والتحشيد في ضوء مقولاتها وتصوراتها. في سياق نقده للحزب الأيديولوجي، أعاد تعريف الحزب السياسي بقوله إنّه “شكل التوسط بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، على اعتبار أن السياسة هي الكيمياء التي تحوِّل التعارضات الاجتماعية إلى تعارضات سياسية، يمكن حلّها سلمًا، وأنّ الأحزاب السياسية، لا الأحزاب العقائدية أو الأيديولوجية، هي الأطر، التي تهيئ القيادات ذات الكفاية المعرفية والثقافية والسياسية والأخلاقية من الرجال والنساء، لتولي المناصب السياسية والإدارية.30 هذا التعريف يفتح الطريق لبناء أحزاب سياسية حديثة تؤدِّي دورها الوسيط، والفاعل، بعيدًا من فهم السياسة بوصفها غنيمة أو عقيدة.

لم تمنعه تجربته الحزبية من الاهتمام بالفكر، بل جعلته يؤكد أولويته، فلا سياسة من دون فكر. تجربته السياسية أخذته باتجاه الإعلاء من شأن الوعي النقدي المستند إلى الديالكتيك ووعي الواقع ومنطق التاريخ والكونية في مواجهة الوعي الأيديولوجي والمذهب الوضعي. انشغل الجباعي بالتأسيس لمشروعية الحوار في الفكر والأخلاق والسياسة بوصفه مدخلًا ضروريًا إلى الديمقراطية، وبإعادة تأسيس السياسة بوصفها حقلًا عامًا مشتركًا بين جميع المواطنين يتجاوز الرؤى الأيديولوجية الضيقة. لم يفهم السياسة بمعانيها السطحية السائدة، ولا اختزلها في الصراع مع سلطة جائرة ومستبدة، ولا اهتمّ بتكتيكاتها وألاعيبها، لأنه كان ينظر إليها بوصفها “مسعىً دائمًا لتحسين شروط الحياة الاجتماعية وتحقيق مصالح ملموسة لجميع فئات المجتمع“،31 وبهذه المعاني تكون أهم وأرقى فاعلية إنسانية.

وصَّف السياسات السائدة في سوريا وممارستها بالفظة واللاإنسانية واللاأخلاقية واللاقانونية، وبأنّها لا تمت إلى معنى السياسة بأيِّ صلةٍ، فهي “أقرب إلى حرب مفتوحة على المجتمع (من أجل الغنيمة والعشيرة والعقيدة)، بحسب تأويل الجابري.”32 ورأى أن غلبة الأيديولوجيا على السياسة، وغلبة المصالح الفئوية الضيقة أو العمياء، على المصلحة العامة “تفسِّران تعثّر عملية الاندماج الوطني والتحولات الديمقراطية في سوريا وغيرها، كما تفسِّران النزاعات والحروب الدائرة فيها.”33

وفي مسعاه لأنسنة السياسة وبنائها على أرضية أخلاقية، أكّد ضرورة نقد مقولة كلاوزفيتز وتفنيدها “الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”، ونقد مقولة فوكو أيضًا وتفنيدها “السياسة امتداد للحرب بوسائل أخرى”؛ لأن الممارسات القهرية والعنصرية والنزاعات والحروب السائدة في السياسات العالمية، بحسب ما يرى، لا تمت إلى السياسة بأي صلة، وليست أكثر من إستراتيجيات تدميرية، وينبغي ألّا تكون السياسة مرادفة للحرب، وأن ننتهي من فكرة نيل السلطة بالحرب والانقلابات العسكرية أو اعتمادًا على القوة الطبيعية بأشكالها كافة، القبلية والإثنية والدينية.34

مساعٍ ومهمات مستقبلية

يسعى الجباعي للحقيقة أينما كانت وكيفما كانت، يُخلص لها، يراجع أفكاره دائمًا في ضوء تغيرات الواقع من جهة، والفتوحات الفكرية والعلمية من جهة أخرى، فهو كما يقول عن نفسه إنه “لم يفقد دهشة المعرفة ومتعتها،” على الرغم من عهده الطويل بالكتابة والفكر، لذلك لا توجد نهايات مغلقة في تفكيره وكتاباته، وتكشف أعماله الصادرة مؤخرًا عن قدرته الفائقة على مواصلة التفكير، وطرق أبواب جديدة في الفكر، فهو لم يقف عند ما كتبه إلياس مرقص وياسين الحافظ، بل طوّر فكرهما، وأضاف جديدًا في ميادين عديدة، من بينها بناء مفاهيم وأدوات معرفية جديدة، وفي بعض المحطات تجاوزهما جدليًا، فانتقل من القومية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي إلى المسألة الوطنية الديمقراطية.

يحتاج فكر الجباعي، على المستوى السوري، إلى التعاطي معه باهتمام وجدية كبيرين، هضمًا وشرحًا ونقدًا وتجاوزًا، وإلى الدخول في حوارات عميقة ومتواصلة مع أفكاره ورؤاه وتصوراته، على الرغم من أن الحوار الثقافي العام في سوريا ما زال ضعيفًا ويفتقد إلى كثيرٍ من آداب النقد وأخلاقياته، بحكم عوامل عديدة. ويحتاج أيضًا إلى تعميمه على الساحة العربية أملًا في إطلاق حوارات أكثر نضجًا حوله بحكم تقدّم العلوم الإنسانية والاجتماعية نسبيًا في بعض البلدان، مثل المغرب وتونس، وتحتاج بعض كتبه، خاصة الأخيرة، إلى ترجمتها إلى لغات أخرى لوضعها في سياقها الفكر الإنساني واستكشاف جدارتها.

يبقى أن يسعى أصدقاؤه المطلعون جيدًا على مسيرته الفكرية ونتاجاته لجمع كتبه ودراساته ومقالاته في مؤلَّف واحد باسم “الأعمال الكاملة لجاد الكريم الجباعي.”، وهذا ليس تكريمًا له فحسب، وهو جديرٌ بكلِّ تكريم، بل هو مسعى أيضًا لتسهيل الوصول إلى فكره، والتقاط تطوره عبر الزمن، وتحقيق أكبر قدرٍ من الفائدة لجيلنا والأجيال المقبلة، ففكره، إلى جانب فكر إلياس مرقص وياسين الحافظ وعبد الله العروي، وغيرهم، يخدم حاجتنا الفائقة إلى التأسيس، وإعادة التأسيس.

1 جاد الكريم الجباعي، من هذا الكتاب: ضدّ “العقل السليم”، ص 38.

2 جاد الكريم الجباعي، هل ينطق المثقف بلسان مجتمعه؟، موقع حفريات https://hafryat.com/، تاريخ النشر 12/10/2021.

3 المرجع السابق نفسه.

4 جاد الكريم الجباعي، أفول اليسار التقليدي وأزمة اليمين، صحيفة العرب، 17/6/2017.

5 المرجع السابق نفسه.

6 جاد الكريم الجباعي، تأملات في المسألة الوطنية، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر (باريس، إسطنبول 2022)، ص 281.

7 المرجع السابق، ص 261.

8 المرجع السابق، ص 326.

9 المرجع السابق، ص 270.

10 هذا الكتاب: ضدّ “العقل السليم”، مرجع سبق ذكره، ص 46.

11 تأملات في المسألة الوطنية، مرجع سابق، ص 98.

12 هذا الكتاب: ضدّ “العقل السليم”، مرجع سبق ذكره، ص 46.

13 جاد الكريم الجباعي، العلمانية وشروط إمكانها في سورية، موقع جدلية https://www.jadaliyya.com/، تاريخ النشر 17/10/2019.

14 هذا الكتاب: ضدّ “العقل السليم”، مرجع سبق ذكره، ص 39.

15 جاد الكريم الجباعي، في سبيل تجديد المعرفة والثقافة.. ما الذي يمنعنا من التأثير؟، موقع حفريات https://hafryat.com/، تاريخ النشر 27/8/2022.

16 تأملات في المسألة الوطنية، مرجع سابق، الهامش، ص 200.

17 تأملات في المسألة الوطنية، مرجع سابق، ص 200.

18 المرجع السابق، ص 254.

19 المرجع السابق، ص 279.

20 المرجع السابق، ص 280.

21 تحدث الجباعي عن هذه الفكرة باستفاضة في كتابه “وردة في صليب الحاضر؛ نحو دولة وطنية وعروبة ديمقراطية”، من إصدارات ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.

22 العلمانية وشروط إمكانها في سورية، مرجع سابق.

23 المرجع السابق نفسه.

24 المرجع السابق نفسه.

25 جاد الكريم الجباعي، الارتياب في الحداثة والتوجّس من الحرية، موقع حفريات https://hafryat.com/، تاريخ النشر 20/7/2022.

26 المرجع السابق نفسه.

27 حوار مع جاد الكريم الجباعي: للإخوان والجماعات الإرهابية أيديولوجيا واحدة، حاورته أنجيل الشاعر، موقع حفريات https://hafryat.com/، تاريخ النشر 12/5/2020.

28 أفول اليسار التقليدي وأزمة اليمين، مرجع سابق.

29 المرجع السابق نفسه.

30 تأملات في المسألة الوطنية، مرجع سابق، ص 207 و208.

31 تحدّث الجباعي عن رؤيته إلى السياسة باستفاضة في كتابه “وردة في صليب الحاضر؛ نحو دولة وطنية وعروبة ديمقراطية”، من إصدارات ميسلون للثقافة والترجمة والنشر. ومن بين تعريفاته لها: “السياسة التي تستحق اسمها، بوصفها علم الدولة، أو علم إدارة الشؤون العامة، هي لحظة التوسُّط بين الفكر والأخلاق، أو المركَّب الجدلي منهما، سياسة مبدؤها الفكر أو العقل، فكر الواقع أو عقل الواقع، وغايتها الأخلاق والحياة الأخلاقية.”

32 تأملات في المسألة الوطنية، مرجع سابق، ص 125 و126.

33 المرجع السابق، ص 126.

34 المرجع السابق نفسه.

كاتب وباحث سوري في الشؤون السياسية والثقافية، له إسهامات عديدة في الصحف والمجلات ومراكز الدراسات العربية، باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نشر عددًا من الكتب السياسية والثقافية، منها "مسارات السلطة والمعارضة في سورية" الذي صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و"سعد الله ونوس في المسرح العربي"، وله عدة ترجمات، منها: سورية: الاقتراع أم الرصاص لكاريستين ويلاند، سورية: ثورة من فوق لرايموند هينبوش، بناء سنغافورة لمايكل دي بار وإزلاتكو إسكربس، تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث لرايموند هينبوش، سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض لميريام كوك، لعبة الانتظار لبينت شيلر، أسّس وأدار مؤسَّسات بحثية وثقافية ومدنية عديدة، رئيس تحرير مجلة (رواق ميسلون) للدراسات.

مشاركة: