في أحد دروس مادة التشريح، في زمن مضى، طرحت على الطلاب عبارة بسيطة “الخلية هي الوحدة الأساسية في الكائنات الحية”، وطلبت منهم التفكير في معانيها وأبعادها. هم يعدّونها بديهية، ويكرِّرونها دائمًا، لكنهم لا يفكِّرون فيها. لا يسألون مثلًا عن معنى التشارك بين الكائنات الحية، الإنسان والحيوان والنبات، في البنية الخلوية المكوِّنة لها، ولا عن معنى عدم وجود خط فاصل، مطلق ونهائي، بين الكائنات، ولا عن علاقة كل هذا بقانون التطور. هم يتعاملون مع الموجودات خارج منطق التطور والتحول والسيرورة. وهذا لا بدّ أن تكون له آثاره في أدائهم في الحياة، وفي السياسة.
وبالمثل، لا تدرِّس مناهجنا التعليمية، ولا تشير إلى الأبعاد الفكرية والفلسفية لقانون لافوازيه في الكيمياء مثلًا “قانون مصونية المادة؛ كتلة المواد الداخلة في التفاعل تساوي كتلة المواد الخارجة منه” أو الذي يُعبَّر عنه بالقول “لا شيء يولد، ولا شيء يفنى”. مع أنماط وطرائق التعليم السائدة هذه، يتشكل نمط مهيمن من الوعي يرتكز على ما يشبه “الغرف المغلقة والمفصولة في الدماغ” أو على مقولة “لكل فصل مقام”، بحيث تشتغل هذه الغرف بطريقة معزولة ومنفصلة عن بعضها بعضًا، وتجعل الطالب يتعاطى وظيفيًا مع مواد التدريس، ما يمنعه من تشكيل رؤية إلى الحياة والبشر والتاريخ.
تساءل ياسين الحافظ مرة عن أسباب انتشار التطرف الديني وهيمنة التيارات الدينية المتشدِّدة في الكليات العلمية بشكل خاص، بين طلاب العلوم والفيزياء والطب وغيرها، مقارنة بكليات العلوم الإنسانية، مع أن المنطق يقول إن دراسة العلوم ينبغي لها أن تخفِّف حضور التطرف والتيارات الدينية. لا شك في أن السبب الرئيس يكمن في نمط التعليم منزوع الفلسفة، ومن الطبيعي آنذاك أن يتجاور العلم والتطرف، وأن يُختزل دور العلم في الجانب الوظيفي المهني، ويُبعد في الوقت ذاته عن الحياة وتكوين الرؤى والتصورات تجاهها. ومن ثم يصبح رجل دين، لا عدّة معرفية لديه سوى حفظ بعض النصوص الدينية، قادرًا على السيطرة على عقول علماء في الفيزياء وأطباء ومهندسين وغيرهم، وتحشيدهم في الاتجاه الذي يريده.
في أنماط التعليم السائدة يتجاور العلم والخرافة جنبًا إلى جنب، من دون أن يطرد العلمُ الخرافةَ من ساحة التفكير، ليبقى العلم محصورًا في الدور الوظيفي المهني، فيما تسود الخرافة بمعناها الواسع في ميدان الحياة الاجتماعية والسياسة. مع غياب إدماج الفلسفة في العلوم الأخرى، تصبح قراءة التاريخ وفهمه أسيرَي المنطق الغيبي الذي يصرف تفكيره في القوى الخرافية المحرِّكة للتاريخ بدلًا من فهم قوانين التاريخ التي تكشف عنها الفلسفة، ما ينتج بالضرورة أوهامًا في فهم الواقع والنظر إلى المستقبل.
هذا النمط اللاعقلاني في التعليم ليس مقصورًا على المدارس والكليات العلمية، بل هو نمط عامّ لا يغيب حتى عن كليات العلوم الإنسانية التي يُفترض أنها منارة التفكير النقدي. تختبئ أغلبية أكاديميي الفلسفة، في المنطقة العربية، خلف ستار أو إغراء الأكاديميا، في حين أن هذه الأخيرة في السياق العربي لا تعني شيئًا كبيرًا، أو في الأحرى لا تعني شيئًا يتجاوز شهادة تدريس أو تعليم الفلسفة، خصوصًا أن أولئك الأكاديميين غالبًا ما يكتفون بوظيفة تفسير أو شرح الفلسفات الغربيّة المختلفة، من دون أن يبادروا، عجزًا أو خوفًا أو كسلًا، لتأسيس خطوط أو تيارات فلسفية خاصة؛ فجامعاتنا تخرِّج مدرسي فلسفة أو شرّاحًا للفلسفة، ولا تخرِّج فلاسفة أو مفكرين يكتبون في الفلسفة شيئًا يتجاوز الحلقات البحثية، أي لا ينتجون أفكارًا أو فلسفة، ومن ثم يصحّ توصيفهم بـ “فلاسفة لا ينتجون فلسفة”. في العموم، لم يتقدّم الباحث الفلسفيّ من مرتبة الأستاذ الجامعي إلى مرتبة المثقف، وصولًا إلى مرتبة المفكِّر المهجوس بالتنوير والتفكير النقدي.
كذلك، تعاني الفلسفة عربيًا من هيمنة الأيديولوجيا بصنوفها كافة، الإسلامية والقومية والشيوعية، فضلًا عن كثافة وهيمنة خطاب الهوية الأحادي والمغلق، ذلك الخطاب الذي يرتكز على التراث، ويتخذ من الماضي مثالًا وقدوةً ودليلًا، ما يجعل حضور الوعي الأيديولوجي كثيفًا ومهيمنًا في مقابل ضمور الفلسفة والتفكير النقدي، بل إنّ الفلسفة ذاتها، إن حضرت، تحضر بعقل وقلب أيديولوجيين في العمق، ونستطيع بسهولة استكشاف حضور “الفلاسفة الأيديولوجيين” على حساب غياب فلاسفة التفكير النقدي.
وتغيب الفلسفة أيضًا عن الحضور على هيئة تيارات فلسفية مرتبطة بمشكلات مجتمعاتنا ورهاناتها وأحلامها، كما نعرفها في نتاجات اليونانيين، مثل أرسطو وأفلاطون، أو في نتاجات فلاسفة الغرب، قديمًا وحديثًا، أمثال سبينوزا وديكارت وإيمانويل كانط وهيغل وفريدريك نيتشه وجان بول سارتر وجيل دولوز وميشيل فوكو ويورغن هابرماس، وغيرهم. لدينا أفراد أنتجوا فلسفة في المنطقة العربية، لكن لا توجد تيارات فلسفية لها حضورها. لا شكّ أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين ممارسة التفلسف والتفكير النقدي من جهة، وممارسة الحرية ودرجة حضور حقوق الإنسان من جهة أخرى.
التفلسف هو الأداة التي تأخذنا من حيز المشكلة الفردية أو الخاصة إلى المشكلة العامة، الاجتماعية أو الوطنية، وهذا ينقلنا إلى أهمية حضور الفلسفة في السياسة كونها معنيّة بالتعاطي مع ما هو عامّ. هناك نقص مزمن في حضور الفلسفة في الثقافة والسياسة، وفي الحياة عمومًا، بل هناك رؤية مهيمنة تتجلى في استنكار التفلسف والتنظير، وفي النظر إلى الفلسفة بوصفها شيئًا مرذولًا “من تفلسف تزندق”، ودعوة دائمة إلى الذهاب إلى الجانب العملي وتجاوز التنظير، وكأنَّ العملَ ممكنٌ من دون النظر. هذا في أحسن أحواله لا ينتج إلّا تكرار الأخطاء والمشكلات، في السياسة والحياة، وإن بصيغ وأشكال مختلفة.
في السياسة نحتاج إلى فهم الواقع واتجاهاته وتحولاته، وهذا غير ممكن من دون الفلسفة. الواقع من دون النظر الفلسفي حالة سكونية، قواه ثابتة لا تتغير، ومصنّفة في عقول الفاعلين السياسيين تصنيفًا مانويًّا بين قوى خيِّرة وأخرى شريرة، وصراعها أزلي ومحتوم بنهاية أحد طرفيه، كما تكون حركة الواقع في الوعي غير الفلسفي متوقِّفة على القوى الظاهرة أو السائدة فحسب، أي تغيب عنه قراءة قوى الواقع الكامنة، واحتمالية انتقالها إلى الفاعلية، ومن ثمّ فتح مسارات جديدة في الواقع. من دون الفلسفة تسود الرؤى الاستبدادية التي تدّعي القبض على الواقع وتغيراته، فيما الواقع في الفلسفة احتمالي ومفتوح، وليس ممكنًا الإحاطة به كليًّا، وهذا يفتح بابًا إلى الاعتراف بالاختلاف والتنوع، ونسبية الحقيقة، وتكامل الرؤى، وبناء الوعي الديمقراطي.
في غياب الفلسفة تهيمن “النخب” المسطّحة والشعاراتية التي تعمل من دون تفكير أو “النخب” الغارقة في الأوهام والأيديولوجيا أو النخب التي لا تنتج إلّا رؤىً شعبوية وتسطيحية، وتصبح الخيارات السياسية غير عقلانية، والممارسات بلا رؤية ولا تبصّر، والحلول المطروحة زائفة أو موقّتة أو جزئية. غياب الفلسفة عن وعي “النخب” السائدة وصفة فعلية لإنتاج الكوارث وتعظيمها.