Search

ضرورة حضور الفلسفة العربية في حياتنا المعاصرة

هل هناك فلسفة عربية؟

1- في هذه المناسبة، مناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وُجِّهت إليّ من هيئات ومؤسسات بحثية وعلمية وثقافية عديدة، أسئلة من قبيل: هل هناك فلسفة عربية؟ هل انتهى دور الفلسفة في عصر العلم؟ هل يمكن أن تكفي الممارسة العملية في حلّ المشكلات فتكون بديلاً عن الفلسفة؟ والحقيقة، إن هذه الأسئلة سابقة على هذه المناسبة، يتم ترديدها باستمرار على امتداد فترات زمنية سابقة وحاضرة وربما مستقبلية، وهي تبدو في كثير من الأحيان تعبيرًا عن رغبة وأمنية أكثر من كونها موقفًا؛ لأن هناك بدائل متعددة عن الفلسفة تنافسها في إشباع مطالب الإنسان العقلية، ليس العلم فحسب، بل الدين والسلطة والمجتمع والتقاليد أيضًا.
تاريخيًا هناك اتهام للعقل العربي بأنه عقلٌ ناقل ومستهلك للفكر والثقافة، نقل الفلسفة عن اليونانية عن طريق الترجمة، ولم يضف إليها شيئًا متميزًا، بل ربما شوّه التصوّرات والمقولات الفلسفية إلى أن جاء عصر الترجمة الثاني بالانتقال من العربية إلى اللاتينية. فالعقل العربي موصوف بأنه عقل حسّي مادي تجريبي، وليس عقلًا نظريًا مجردًا. وتوقفنا في العصر الحديث عند مستوى النقل، حيث اكتفينا بالنقل والترجمة عن المحدّثين والمعاصرين، وصرنا ناقلين للاتجاهات الفلسفية المثالية والتجريبية والحيوية والنقدية والبراغماتية وغيرها.
وصار التلقي عن الغرب وترجمة نصوص فلاسفة أوروبا أو نقل شروح الشرّاح الغربيين عليها وتلخيصها وتلقينها للأجيال الجديدة من الطلاب هو السائد، فيما يعيد الباحثون إنتاجها وشرحها وتلخيصها عن نقول أساتذتهم من دون إضافة أو تحليل أو نقد، وطبعًا من دون تجارب استئناف لهذه الجهود والإضافة إليها.
2- ويبدو أننا نتعامل مع الفلسفة تعاملًا غير فلسفي، وربما تكون الفلسفة لفظة غير دقيقة وزائدة، ذلك أننا على امتداد ما يقرب من قرن من الزمان أو يزيد ننظر إلى الفلسفة نظرة أيديولوجية أحيانًا قومية أو ماركسية، فنحن نؤدلج الفلسفة (أدلجة الفلسفة) وأحيانا ننظر إليها نظرة دينية، فنحن نؤسلم الفلسفة (أسلمة الفلسفة) أو نسعى إلى التعامل البراغماتي لها وبها وعنها (أعلمة الفلسفة) وتوظيفها إعلاميًا، فيصبح الصحفي مفكرًا والواعظ فيلسوفًا. وتنتشر المؤسسات الدينية التي صارت هي المنصات الأساسية، وتتسابق الحكومات والدول كما تتسابق الطوائف والملل والنحل في وضع الفلسفة في الصدارة، إيمانًا بها بلا حدود، واستغرابًا مقابل الاستشراق، ويظلّ التساؤل عن الفكر والتفكير والنظر والتنظير.
3- ومن النقل والتلقي وتبنّي المذاهب الفلسفية الغربية إلى التحول إلى قضايا الواقع المعاش والمشكلات العربية الراهنة، التي تجسّدت فيما عرف بـ “المشاريع الفلسفية العربية” التي سادت في الثمانينيات والتسعينيات ووجدت ترحيبًا وحضورًا إعلاميًا باعتبارها الغاية التي نسعى إليها، فهي فلسفية وعربية إلا أنها لم تستمر وتتواصل وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بأصحابها ولم تتحول إلى اتجاهات وتيارات وانتهت بوفاة أصحابها، بل أننا يمكن أن نجد لدى من لم ينتمون إلى المشاريع الفلسفية إبداعًا فلسفيًا متميزًا في بعض الأقطار؛ إليك على سبيل المثال جهود فؤاد زكريا في مصر، ناصيف نصار في لبنان، علي أومليل في المغرب وغيرهم.
وصارت الدعوات إلى مجاوزة الميتافيزيقا والتأكيد على التواصل والتعدد والاختلاف والغير أرضًا ممهدة للإبداع الفلسفي لما بعد المشاريع الفلسفية العربية، وهناك تيارات متعدّدة تسهم في هذا الاتجاه مثل الاتجاه نحو الكونية الجديدة والعيش معًا.
4- إن الفلسفة ممارسة نظرية، ولكل جيل نظرته إلى الفلسفة والتفلسف، وهي موقف تأسيسي تجاوزي، لكل الجهود الفلسفية السابقة، سواء التراثية أو الغربية المعاصرة، يهدف هذا الموقف الذي انطلق عليه “التأسيس والتجاوز” إلى الانتقال من التلقي إلى اللقاء، التلقي عن التراث القديم والغرب المعاصر إلى اللقاء، ليس فقط لقاء معه، بل مع أنفسنا وعصرنا وقضايانا، بهدف التحول من استضافة المذاهب إلى الإضافة إليها، فالفلسفة في أحد معانيها إبداعًا للمفاهيم والإضافة إليها وعدم الاكتفاء باستهلاك المذاهب الفلسفية، بل إنتاج وإبداع الفلسفة.
هل العقلية العربية قادرة؟ قادرة على التفلسف؟ هذا سؤال نظري واجابته عملية، هي إجابة لا يقدمها مفكر واحد، بل هي إبداع كل جيل يحيا قضايا عصره والجيل الحالي من العرب المعاصرين، هم وحدهم القادرون على الممارسة النظرية، متجاوزين الصور المختلفة التي أنجزها السابقون ردًا على التهمة التي قدمت إلى العقلية العربية على امتداد عصور التاريخ، العقلية العربية قادرة على الاستئناف والتجاوز لا تزال في دور التكوين وهي وحدها تستطيع إبداع الفلسفة العربية التي لا يستطيع البعض أن يبصر ملامحها التي تتشكل أو تشكلت بالفعل وظهرت في مجالات متعددة واضحة أمام اعيننا. وهي ما يمكن أن تتضح في تحليلنا للسؤال التالي.

 

هل انتهى دور الفلسفة؟ هل للفلسفة دور في هذا العصر الذي يوصف بعصر العلم؟

1- الإجابة واضحة تمامًا لكنها تحتاج إلى قليل من التوضيح والإبانة، وذلك لأن السؤال بهذه الصياغة لا يتناسب مع واقع الفلسفة في مجتمعاتنا العربية. يمكن طرح السؤال في المجتمعات الغربية التى يتطور فيها العلم إلى درجة عالية؛ قُدّمت إجابات للمشكلات المختلفة التي تعاني منها هذه المجتمعات، لكن من الصعب طرحه في مجتمعاتنا لسببين: الأول أن العلم لايزال في أوطاننا مهاجرًا، فالعلماء العرب مكانتهم اليوم في المعاهد والمؤسسات والجامعات الغربية أكثر ممن مازالوا يحيون في أوطانهم. والسبب الثاني أن المنافسين أو المنافس للفلسفة في أوطاننا ليس العلم فحسب، بل الدين والسلطة والعامة، وربما لا أجانب الصواب إن ذكرت أن هناك من أهل الفلسفة من يضعها موضع حذر وشك لدى السلطة والعامة والدين. وعليه، ينبغي لنا أن نعيد صياغة السؤال ليكون “هل هناك دور للفلسفة في هذا العصر التى صارت الكلمة العليا فيه للسلطة والدين والعامة؟” وبالطبع، المقصود هو التفسيرات المتعددة والمتضاربة للدين.
2- والاجابة الواضحة أن دور الفلسفة يحتاج توضيحه حتى يمكننا التأكيد على ضرورة وأهمية الفلسفة. فالفلسفة ليست في حاجة إلى الدفاع عنها والتأكيد عليها. وفي هذا السياق، كانت إجابة ميرلوبونتى هي “في مدح الفلسفة”.
إن الفسلفة بوصفها النظر الكلي إلى الوجود والعالم والكون ومكان الإنسان فيه، وهذا النظر ليس موضوعًا لأي علم من العلوم، سواء أكانت الطبيعية أم الرياضية، بل العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو قل الفلسفة بوصفها الأساس لهذه العلوم الاجتماعية والإنسانية، فمن خلالها تتحدَّد نظرتنا الكونية ومكانة الإنسان في هذا الكون.
والمقصود بالفلسفة هنا ليس تيارًا أو اتجاهًا أو مذهبًا فلسفيًا بعينه، بل المقصود هو التفلسف. فالتفلسف هنا هو مطلب إنساني دائم، ذلك لأنه أساس العلوم المختلفة. هنا يرد للذهن كتاب هوسرل الذي يمكن أن نصيغ عنوانه على النحو التالي: “الفلسفة وأزمة العلوم الأوربية” بوصف الفلسفة نظرًا في الواقع المعيش.
3- قدم لنا أحمد لطفي السيد، رائد الليبرالية في مصر، منذ تولي رئاسة جامعة القاهرة في بداية تأسيسها، والذي عرف بأستاذ الجيل، قدم لنا في مقدمة ترجمته لكتاب أرسطو في الأخلاق، وكان أول من ترجم كتب أرسطو إلى العربية، سبب نقله الفلسفة اليونانية الأرسطية إلى العربية في العصر الحديث، وهو أنها كانت السبب في نهضة اليونان وكانت أساس الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط، مثلما كانت وراء النهضة الأوروبية في العصر الحديث.
4- وكما كانت الفلسفة أساس النهضتين العربية الإسلامية والغربية الحديثة، فقد كانت أيضًا كما نجد لدى كانط أساس الثورة والتنوير. ويمكننا التأكيد على ما طرحه كانط، وألقى عليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أضواءً قوية تجعل من الفلسفة تفكيرًا في الحاضر، ويظلّ التفكير في الثورة والتفكير في التنوير هما الفريضة الواجبة على الإنسان خاصة في الفكر العربي.
وليس للفلسفة بديل، بل هي “الروشتة” الضرورية للعقل. وإذا سألت طلبة الفلسفة، فلن يوجد “صيدلي” يستطيع أن يقدم لك بديلًا لها من البدائل التي ذكرتها، وهو ما يتضح إذا ما استعرضنا ما قدمته وما يمكن أن تقدمه الفلسفة من حلول عن الأزمات التي تمرّ بها البشرية اليوم، سواء أزمات البيئة “الكورونا” و “أزمة المناخ”، أو أزمات المجتمعات “الحروب”، أو أزمات الإنسان المتعددة الطبية الحيوية، فإن ما تطرحه العلوم المختلفة سيظلّ جزئيًا مقابل النظر الكلّي الكوني الذي يقدمه الفلاسفة. وهو ما يظهر في إجابتنا عن السؤال التالي.

 

هل تكفي الممارسات الواقعية بديلًا للفلسفة في حلّ المشكلات الثقافية والسياسية؟

تقتضي الإجابة:
1- الوقوف أمام صياغة هذا السؤال التي تؤكد على النظر إلى المشكلات الثقافية والسياسية المتعددة التي تعانيها مجتمعاتنا في المنطقة العربية. فما هي تلك المشكلات، وما هي جذورها التاريخية، وكيف يمكن التعامل معها؟ هنا، علينا مراجعة تفكيرنا في هذه القضايا التي دارت حول الحرية والاستقلال والدستور والمجتمع المدني والديموقراطية وحقوق الإنسان، وهي ما شغلت المفكرين على امتداد القرنين الأخيرين، والتي تبلورت فيما سُمّي المسألة الشرقية والتقدم والنهضة والعمران، ولم تأخر العرب المسلمين وتقدم غيرهم؟
2- طُرِحَت الإجابات من رجال الفكر القومي والإصلاح الديني والكتّاب والنقّاد وتحددت في إطار ظل مسيطرًا وما زال على تفكيرنا، هو سياق الوافد والموروث، الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، الإسلام والغرب، وهو سياق ثنائي الاختيار، حيث ليس أمامنا سوى أحد طرفي الثنائية أو التوفيق بينهما. فمن هنا ظهرت جميع الجهود العربية المعاصرة وانحصرت في سؤال الهوية والغرب، وغاب الواقع بكل قضاياه ومشكلاته وتناقضاته، التي فرض علينا التفكير فيها في ظلّ الخضوع السياسي للمحتل الغربي بمناهج ومذاهب الفكر الغربي المهيمن علينا. بينما الإشكالية التي نحياها ثلاثية وليست ثنائية، فهي بالإضافة للتراث والغرب بكل صوره، هناك الواقع بكل قضاياه، فكيف لنا أن نواجه إشكالياتنا وقضايانا الثقافية والسياسية التي تعانيها مجتمعاتنا.
3- قُدّمت إجابات متعددة نختار منها نماذج معينة في السياسة والاقتصاد والفلسفة والنقد، وهي نماذج للتمثيل وليس للحصر، وسنذكرها بإيجاز للإشارة إلى كيفية التعامل مع قضايانا، هناك ما قدمه أنور عبد الملك في إطار تحليله الاجتماعي للمجتمع المصري وسط عالم متغير. وما قدمه سمير أمين في مجال الاقتصاد عن نمط الإنتاج الشرقي، وأطروحات ناصيف نصار المتعددة منذ طريق الاستقلال الفلسفي ومجتمع جديد حتى منطق السلطة، وهشام شرابي والنقد الحضاري، وإدوارد سعيد والاستشراق. تلك نماذج، مجرد نماذج، والقائمة مفتوحة تفيض بالإسهامات.
علينا، إذًا، في إطار فهمنا لقضايانا في الصيغة الجدلية الثلاثية أن نؤكد ضرورة النظر النقدي لها، وإذا كان المغربي عبد الكبير الخطيبي صاحب “الاسم العربي الجريح” قدم لنا نقدًا مزدوجًا ينطبق علينا وعلى الغرب فنحن في حاجة إلى نقد ثلاثي ينطبق على التراث والغرب وعلى مناهج تعاملنا مع مشكلاتنا الحالية. وهنا ينتقل الحديث من الحاجة إلى الفلسفة إلى نقد الحاجة على الفلسفة؛ أي إلى تفلسفنا المعاصر، الذي وصفناه بالتفلسف الاستهلاكي الذي صار بديلًا عن الإبداع الفلسفي العربي. هنا نكون وصلنا إلى البداية، أي أننا مهّدنا، أو علينا تمهيد، السبيل إلى التفلسف. علينا أن نعبّد طريقًا في صحراء، ونضع بوصلة بأنفسنا لتحديد بداية الطريق ومساره وتفريعات لا نهاية لها، وغايته وكيفية السير ووسيلته. نحن في حاجة إلى جهاز مفاهيمي جديد ورؤية فلسفية واضحة بعد تحديد الغاية والمنهج.
4- الفلسفة العربية حاضرة في التفلسف؛ في الإبداع الفلسفي العربي، في السعي إلى التأسيس والتجاوز، وتطرح مفاهيم الانتقال والتحول من التلقي إلى اللقاء، من الضيافة (استقبال الفلسفة الغربية) إلى الإضافة عبر النقد ونقد النقد. لقد سعى الجيل السابق علينا إلى النقد الذاتي والنقد الحضاري ونقد العقل العربي ونقد العقل الغربي. وصرنا على مشارف نقد الحداثة ونقد ما بعد الحداثة، والنقد يرتبط بما بعد (المابعديات) وتيار ما بعد الاستعمارية ليس بعيدًا وربما كان الأكثر ارتباطًا بما بعد الحداثة، التي تتحقق بجدل مستمر بين العرب والفلسفة، ذلك ما يؤكد حضور الفلسفة العربية أساسًا للعلم والثقافة والسياسة ولحياتنا وعلاقتنا بالراهن الكوني.

أحمد عبد الحليم عطية

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، دكتوراه في الفلسفة «مفهوما الطبيعة والإنسان عند فيورباخ: دراسة نقدية» 1986، كلية الآداب – جامعة القاهرة. أحد رموز البحث الفلسفي بالجامعة المصرية، وعضو في الكثير من الجمعيات الفلسفية العربية والدولية؛ رئيس جمعية الفكر العربي، عضو مجلس إدارة الجمعية الفلسفية المصرية، عضو الجمعية الدولية للفلسفة الإسلامية وتاريخ العلوم عند العرب- باريس، عضو كرسي اليونسكو للفلسفة. ورئيس تحرير مجلة أوراق فلسفية، ألّف العديد من الأعمال الفلسفية في الفكر الغربي المعاصر، وترجم أعمال الفيلسوف لودفينغ فويرباخ من أعمدة الفلسفة الحديث. لديه ما يزيد عن 50 كتابُا منشورًا في الفلسفة ما بين ترجمات ومؤلفات، منها: (الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، 1990)، (الديكارتية في الفكر العربي المعاصر، 1990)، (جالينوس بين الفلسفة والعلم، 1996)، (جدل الأنا والآخر: قراءات فلسفية في فكر حسن حنفي، 1997)، (جالينوس: في الفكر القديم والمعاصر، 1999)، (دراسات أخلاقية، 2001)، (الفلسفة العامة نظرة جديدة، 2001)، (الخطاب الفلسفي في مصر، 2001)، (نقد المجتمع الأبوي: قراءات في أعمال هشام شرابي، 2005)، (نظرية القيمة في الفكر المعاصر، 2004)، (ما بعد الحداثة والأخلاق التطبيقية).

مشاركة: