Search

علاقة جدلية بين الفلسفة والعلم

هل هناك فلسفة عربية؟

بدايةً أقول: إن هذا السؤال إشكالي من حيث المفهوم والأبعاد المعرفية والأنطولوجية والتاريخية والجغرافية. وللإجابة عنه أقول: نعم، توجد فلسفة عربية، من حيث الدلالة المفهومية والقومية التي ينتمي إليها الخطاب الفلسفي العربي اليوم، وبمرجعيته التاريخية التي أسست له هويته المعرفية الكبرى عبر التاريخ، وأدخلته في السياق التاريخي للفلسفة بعامة، من حيث التقسيم الجغرافي لهذا المنجز البشري “الفلسفة”. ولكي لا تكون إجابتنا عمومية من حيث الشكل والمضمون، نحيل على المنجز الفلسفي العربي الراهن، وتنوع خطاباته المعرفية والأيديولوجية عبر بلدان العالم العربي اليوم، إذ تنوّع هذا الخطاب بفعل عوامل عدة أثرت فيه، شكَّلت هويته، منها: حضور المنجز الفلسفي الغربي بحمولته التاريخية اليونانية والوسيطة والحديثة والمعاصرة في منجزه، ومنها: المشكلات العديدة والمتنوعة التي أفرزها الواقع العربي الراهن، وهي مشكلات تتوزع بين السياسة والاجتماع والتقنية والعلوم والتراث الفلسفي العربي الاسلامي في اهتماماته، حتى بتنا نعترف اليوم بوجود خطاب فلسفي عربي معاصر له هوية ظاهرة وملموسة عندما يجيب عن هذه المشكلات الراهنة وفق المنطق الفلسفي لتنوع خطاباته إزاء الخطاب الفلسفي الغربي لتنوع مسمياته المعروفة وأيديولوجياته التي ينتمي إليها. وإن المجال لا يستع لذكر بعض الإسهامات الفلسفية العربية المعاصرة من خلال بعض الشخصيات الفلسفية العربية التي أسهمت في تشكيل هوية هذا المنجز وماهيته المعرفية والأنطولوجية والقيمية.

 

هل انتهى دور الفلسفة؟

للإجابة عن هذا السؤال أقول: عندما ينتهي الإنسان من طرح السؤال عن أصل الوجود والعالم والقيم والمدينة الفاضلة، وصلة العلم والتقنية بالفروض العلمية التي تساهم في المنجز العلمي والتقانة، والاهتمام بالموروث الديني وصلته بالحياة الإنسانية على كافة الصعد، ودور الدين في الحياة الدنيا والآخرة، وغيرها من الموضوعات التي يطرحها العقل الإنساني، عندها نقول: انتهى دور الفلسفة.

 

هل للفلسفة دور في هذا العصر الذي يوصف بعصر العلم؟

نعم، بكل تأكيد، للفلسفة دورها الفاعل والملوس في أي عصر، وليس في هذا العصر فحسب. ويتجلى ذلك في تلمس العلم ذاته للحلّ عن طريق الفلسفة، وما تطرحه من فروض علمية ومنطق يساهم في بناء النظرية العلمية ومفاهيمها الكبرى. ولكن، يبقى لأي عصر وما ينتجه من علوم ومعارف وتقنيات أثره هو الآخر في تشكل الخطاب الفلسفي واهتماماته، فالعلم في العصر اليوناني وما أنتجه أفرز لنا منطقًا وفلسفة يعبِّران عن هوية ذلك العلم؛ فلسفة متعالية ميتافيزيقة كليّة ذات سرديات كبرى لا تهتم بالجزئيات التي يطرحها العلم نفسه، ولا تعير بالًا للدين ولا تهتم بمنطقه ولاهوته. في حين تنوع الخطاب الفلسفي في العصر الوسيط بتنوع وتشكل الخطاب الديني ولاهوته وعلومه التي أنتجها، فأنتجت الفلسفة لنا منطقًا يتماشى مع هذا المنجز ويفيد منه ويفيده. وهكذا ينطلق الحال مع العلم الحديث الذي أنتج لنا منطقًا تجريبيًا يحدد سمات العلم ومساراته. وهكذا الحال مع العلم اليوم وتطوراته المذهلة على كافة الصعد. وهنا أفاد العلم اليوم الفلسفة بأن جعلها ذات بعد كوني جديد ومنطق جديد هو منطق الاحتمالات والنسبية والشك في كل شيء من أجل الوصول إلى الحل الأمثل.

 

في النظر إلى المشكلات الثقافية والسياسية العديدة التي تعانيها مجتمعاتنا في المنطقة العربية، هل نحتاج في حل هذه المشكلات فعلًا إلى الفلسفة، أم أن الممارسة الواقعية وحدها كافية لإنتاج الحلول؟

المشكلات التي يعانيها الإنسان العربي اليوم، على تنوعها، لو كانت تحتاج إلى الفلسفة لاحتاجت، وذلك بسبب سيطرة المشكلات السياسية الفاعلة بشكل سلبي لا يلبي طموح هذا الإنسان، وعداء أصحاب النفوذ من الساسة ورجالات الدين وأنصاف المثقفين للفلسفة، وعدم اهتمامهم بما تطرح من حلول جعل من دورها غير فاعل وغير منجز، ولهذا، حتى الممارسات الواقعية غير كافية لوضع حلول للمشكلات التي يعانيها الإنسان العربي اليوم.

حسن مجيد العبيدي

أستاذ الفلسفة وتاريخها بالجامعة المستنصرية، دكتوراه فلسفة في الفلسفة- جامعة بغداد 1993 عن أطروحته (العلوم الطبيعية في فلسفة ابن رشد)، نائب رئيس الاتحاد الفلسفي العربي، له العديد من المؤلفات في الفلسفة الإسلامية والفكر العربي المعاصر والغربي، من مؤلفاته: (نظرية المكان في فلسفة ابن سينا، بغداد 1987)، (الفلسفة السياسية، شخصياتها ومذاهبها، بغداد 2002)، (الفلسفة والمنطق، كتاب منهجي، جامعة النهرين، بغداد 2004)، (من الآخر إلى الذات -دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة والفكر الفلسفي العربي المعاصر- دار الطليعة، بيروت 2008)، (جغرافية التفلسف، دار المحجة، بيروت 2010)، كتاب الإنجاز الفلسفي في العراق. وله تحقيقات لنصوص الفلاسفة العرب منها تحقيق كتاب الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة، وكتاب ابن سينا التعليقات، وكتاب محمد مهدي النراقي قرة العيون في الوجود والماهية، وكتاب التراث العلمي العربي في أربعة أجزاء، وله موسوعة المكان في ثلاثة أجزاء، وترجمة كتاب ابن رشد تلخيص السياسة. ومن ترجماته كتاب الفكر السياسي في الإسلام الوسيط لروزنثال.

مشاركة: