كيف نحسن تصويب أسئلتنا عن الفلسفة؟
انبثقت الفلسفة من القدرة على طرح السؤال. والسؤال فلسفيًا يتبرّم من عشوائية المصطلح فيحدّده، ومن شعبوية المفهوم فينقّيه من شوائب الاستعمال اليومي والتوظيف المغرض. وهو لا يقصد الإجابة في حدّ ذاتها، بقدر ما يرمي إلى تصحيح وجهة التفكّر وكيفية استخدام العقل بعيدًا عن كسل التفكير واجترار توافقات الحس المشترك المقيّدة إلى استقراءات مختومة وجاهزة. السؤال في الفلسفة تصويب للسؤال وتنبّه إلى كيفية طرحه، واستهداف يتغيّا استنفار قدرات الذهن، واستحضار الحيوية الفكرية، واستثارة الحس النقدي اليقظ، بعيدًا عن التسرّع والسهو والادعاء. ولعلّ أكثر ما يعطب السؤال في الفلسفة أو عنها، هو رهنه إلى ثنائيات قسرية تتطلّب إجابة مربوطة إلى خانات موصدة ضمن حدود تفسد على العقل التحليق في الآفاق الواسعة غير مقطوعة الظل مع الواقع. فالسؤال مثلًا عن العلاقة بين العلم والفلسفة، وتصويرهما كندّين متخاصمين، والتخيير بين أفضلية صلاحية كلّ منهما، هو تعويق وتثبيط للسؤال نفسه كما للإجابة وحدّ لممكناتها، وهو بالتالي إعطاب لغنى المقاربات التي يمكن أن تتناول شكل العلاقة بينهما وطبيعتها بعيدًا عن منطق الثنائية والتقابل. كما أنّ توجيه السؤال عن وجود فلسفة عربية يقود منطقيًا وبديهيًا إلى طرح مواز عن فلسفة غربية تقابلها، خاصة إذا استحضرنا الاشتغالات الفكرية العربية، التي ارتهنت منذ ما سمي بعصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر إلى قطبين هما الشرق والغرب (مع ما في هاتين التسميتين من اعتباطية وتعميم وأحكام مسبقة)، والتي انحشرت في منحى المقارنة بين تطور الغرب حضاريًا وتقدمه، وتعثًّر الشرق وتأخره أو فواته الحضاري بالنسبة إلى الحداثة والتحديث الغربيين. ربّما يبرّر الانقياد إلى تينك الثنائيتين؛ علم- فلسفة، فلسفة عربية- فلسفة غربية، السياق الزمني لكلّ منهما. فإشكالية العلاقة بين العلم والفلسفة انحكمت بلحظة زمنها، ابتداء من القرن السابع عشر، عندما صار العلم براديغمًا لشكل المعرفة موضوعًا ومنهجًا، مبدّدًا ما كان للفلسفة من سطوة استحكمت بسبب علاقتها الوثيقة والمتواطئة مع الدين. وكذلك فإنّ تقابلية الفلسفة الغربية مع الفلسفة العربية تنتمي هي الأخرى إلى زمنيتين؛ الأولى بعد تعرّف العرب والمسلمين على الفلسفة اليونانية في العصر العباسي، وأشكال اقتبالها من تطويع وتعديل وتوفيق وتأصيل أو رفض وتبيئة، واللحظة الثانية كانت جراء الصدمة الحضارية وما استتبعها من اطلاع النهضويين العرب على معين الفلسفات الغربية الدافقة والغزيرة حينذاك. هذا الاحتكاك الممزوج بالدهشة والإعجاب حثّ المنهمّين بالشأن الفكري والفلسفي العربي وحفّزهم على اجتراح رؤى نظرية وتنظيرية تجتهد لإخراج العرب من مآزمهم الكثيرة. فكان أن انكفأ البعض يعبّ من مناهل الفلسفة الغربية الكثيفة الطروحات، بينما انكبّ آخرون عائدين إلى موروثهم، بحثًا عن ملامح فلسفة عربية يمكن الارتكاز عليها لمضاهاة الغرب في نتاجه الفلسفي المزدهر. وبالطبع لا يمكننا الإجابة عن سؤال: هل توجد فلسفة عربية؟ من دون الوقوف عند محطات تشكّلات هذه الفلسفة تاريخيًا. فالفلسفة تتولّد من تراكم التاريخ، وتحايث الواقع لتعتمل معانيها داخله، وتتبلور مفاهيمها من خلال التفاعل معه. فإذا نحن اقتنعنا بجدوى الفلسفة كونها تمدّنا بالنماذج التفسيرية لواقعنا العربي، دون أن تأخذنا الحماسة لنصبو نحو تغييره، عملا بتفاؤلية ماركس: الفلاسفة ما فتئوا يفسرون العالم، لكن الأهم هو تغييره”، نستطيع أن نجيب عن السؤال الثالث حول حاجة مجتمعاتنا العربية للفكر الفلسفي أو استخدام العقل فلسفيًا، لإيجاد حلول لمشكلاتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية…
حول البحث في سؤال الفلسفة العربية
إن معيار الفلسفة أداتها. ونقصد بالأداة هنا ما يجعل الفلسفة في انهماك حيوي يقيها الجمود، ويدرأ عنها التشرنق في قوالب جاهزة. والعقل المتحصّن بالنقد هو الشريان الذي يضخّ في الفلسفة قدرتها على القيام بوظيفتها التفسيرية، بحيث يقحمها في علاقة جدلية متوترة مع الواقع، لترفع حجبًا وتفضح أضاليل، وتكشف سرابات، من شأنها أن تمنع الحقيقة عن العقل وتنسج واقعًا مزيّفًا يغترب الفرد داخله. والعقل في عالمنا العربي مكبّل إلى أصفاد الدين ومعطّلاته، والسياسة واشتراطاتها. حدّ هذان العاملان المتشابكان والمتداخلان من انطلاقة العقل العربي وتمفصلا في بنيته، كما في التكوين البنيوي للمجتمع والثقافة والتربية. عيّنت السلطة السياسية-الدينية سقوف العقل وأطلقت الشريعة مرجعية واحدة مطلقة ونهائية، وخيّر الأوصياء على المعرفة ذات المنبع الأحادي الإنسان العربي بين العقل والنقل، بحيث تمّ الانتصار للأخير، وأما التأويل والاجتهاد فكانا ضمن الأطر نفسها للثقافة الواحدة، ما أدى إلى إفراز علوم من منبع وحيد هو الإسلام؛ كعلم الكلام والفقه والتصوّف والشريعة، بينما سمّيت العلوم اليونانية أي علوم العقل وعنينا بها الفلسفة والمنطق والعلم الطبيعي، بالعلوم الدخيلة، ولم يتوان رجال الدين من نعتها بالعلوم الشيطانية. أمر آخر منع من تأثيرات انتشار الفلسفة في المجتمع العربي وهو انتفاء إنشاء مؤسسات علمية تعليمية تقيم اعتبارًا للعلم والعلماء، كما حصل في أوروبا. فبقي العلم والفلسفة محصورين في فئة ضيقة من المريدين الأفراد الطالبين للعلم رغبة به والساعين نحو الفلسفة حبًا بالاطلاع عليها. والأمر نفسه في القرن التاسع عشر، حيث اقتصر الفكر النهضوي على أفراد ولم يتجذّر في الفكر المجتمعي، بسبب غياب المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات. فهل يعني أنّ الفكر العربي عقيم عاجز عن الإنتاج الفلسفي؟ وهل بقيت الفلسفة بما هي صنف من النتاج المعرفي يترعرع في الأفق المفتوح على حرية النقد والتجاوز والقطيعة مع الأطر الجامدة والراكدة والساكنة للمعرفة، غريبة عن الإنتاج الفكري العربي؟
لا يمكننا أن نقلّص العقل العربي ولا الحضارة العربية إلى العنصر الإسلامي فنختزلهما فيه. فالدين هو واحد من مكوّنات الحضارة ولا يستوعبها كلها أو يختصرها فيه. والمفكرون العرب الذين اهتموا بالواقع العربي ووعوا عمق مشكلاته، انتبهوا إلى أنّ المشكلة الأساس تتمثّل في احتباس العقل العربي المكتوم، وليس بحكم طبيعته، أو بسبب سياقات وظروف موضوعية أشرنا إليها. لكن العرب المشتغلين بالفلسفة، والمفكرين من خارج عباءة الدين، والسّاعين لحلول لمآزق مجتمعاتنا من خارج كهوف الماضي، استعاروا من الفلسفة الغربية نماذجها النظرية، وثابروا على ابتكار نظريات منبثقة من صميم مجتمعاتنا ومحاكية لها. لا ضير أن نستمدّ من الفكر الفلسفي الغربي نظرياته ومفاهيمه وفلسفاته، لكن شرط أن نحسن توطينها وأن نكون حذرين في توظيفها لمقاربة واقعنا لنستطيع الإفادة منها. فالفلسفة كونية إنسانية وإن شبّت في مناخ تاريخي خاصّ، إلا أنها تحوز على إمكانية التحليق خارج حدود نشأتها. والفلسفة قبل أن تكون نظريات واتجاهات ومدارس، تبقى تلك القدرة على النجاة بالعقل من الضمور والانكماش والتصحّر، إنها طريقة قيادة العقل نحو الحفاظ على طاقته الحيوية والمتقّدة والمتمثّلة بالنقد. وهذا ما يمتاز به العقل الفلسفي الغربي، الذي يظلّ صاحيًا وبكامل جهوزيته لتوجيه سهام المساءلة والانقلاب على كل ما يتحوّل إلى نمط إطباق ومصادرة للعقل وللمعرفة، وهذا ما قام به النقد الغربي كدينامية مستمرة في الفكر الغربي عندما بدأ يسائل مؤديات الحداثة وصيرورتها، ونتائجها، هذه الحداثة التي كان عنوانها الأبرز هو العلم والمعرفة العلمية. فهل بالعلم وحده يحيا الإنسان؟
عن الحاجة إلى العلم والفلسفة
العلم والفلسفة هما شكلان من أشكال المعرفة أنتجهما العقل الإنساني في محاولة منه لإيجاد حلول لاستعصاءات الوجود المضطرب بالألغاز. فكَّكت المعرفة العلمية أحجيات العالم الطبيعي المادي ومكّنت الإنسان، بالمعرفة النظرية من ناحية والتطبيقية من ناحية أخرى، من امتلاك الطبيعة واستثمارها. منح العلم الإنسان سطوة وجعله سيّد الطبيعة والكون ومالكهما كما تنبّأ ديكارت Descartes. استفحل نهج السيطرة وطغى ليبتلع الإنسان أيضًا، وزحف باتجاه مناطق كينونته الأكثر حميمية ليغزوها، وتحوّلت التقنية إلى أسلوب حياة شوّه الطبيعة البشرية. وعلى العكس من الوظيفة التحرّرية للتنوير الذي شكّلت المعرفة العلمية إحدى أهم ركائزه، انحرف المسار منقادًا بنزوعات السيطرة نحو التسبب بأمراض نفسية-اجتماعية ووجودية أصمّت عمق الطبيعة البشرية، فشيّأتها، وعمّقت غربتها واغترابها، وزيّفت حاجاتها، وحرفت المطلب الوجودي الأصلي للإنسان من الحرية نحو العبودية الطوعية، وخدّرت قدرات العقل الإنساني وصيّرته إلى عقل قطيعي جماهيري مسلوب الإرادة والمبادرة، ومجرّدًا من مخزونه النقدي. واستفحل الاستخدام السيء للعلم ليجتاح الواقع ويغيّبه، وينقل الإنسان والمجتمع بأكمله على بساط التطور الرقمي من العالم الواقعي إلى الميتا-واقع، حيث العالم صار افتراضيًا، ما زاد من انسلاخ الفرد عن واقعه ليخضع لهوامات الأكوان المصطنعة والمكسوّة بالصور وبثقافة السريع والمتلاشي والسائل والمندثر. وها هي البيئة تدقّ جرس الإنذار وتتفاقم مشكلاتها جراء سوء استخدام التكنولوجيا. وفي حين كان من المفترض أن يؤدي الخط التطوّري والتقدّمي للتاريخ إلى عالم أكثر عدالة، فها هي اللاعدالة تطالعنا في الغذاء والبيئة والاقتصاد والتعليم والسكن والأجور. لقد أطال التطوّر الطبي من عمر الإنسان، لكنّه لم يجعله أكثر سعادة. فمسبّبات الشقاء والبؤس والموت والحروب والقهر وإشكالية الشر لمّا تزل تقلق البشرية. لذا فليس بالعلم وحده يحيا الإنسان. تبدو الفلسفة بوصلة تعتصم بحبل الحكمة لتحدّ من جموح السيطرة الممتطية للتطوّر العلمي والتقني، ولإعادة تصويب السلوك العلمي نحو الاعتدال الموجّه بإرادة الخير. تمثل هنا أمامنا إشكالية الأخلاق والقيم والمعايير الأخلاقية التي دافع سقراط عنها، وجعلها الهمّ الأول للفلسفة. ومنذ اللحظة السقراطية ستراوح القيم والأخلاق مكانها، وستكون في كل زمان ومكان عرضة للفوضى والانتهاك والتزييف والتقنّع والتشويه والتمييع، فالخير بالذات والعدالة بالذات والفضيلة بالذات والجمال بالذات التي نثرها أفلاطون نجومًا متلألئة في سماء عالم المُثُل المفارق المتعالي، ستبقى مكانها حيث علّقها، فلا هي تنازلت وتدرّجت إلى عالمنا الأرضي، ولا الإنسان استطاع أن يخترع مركبة آلية ليطالها.
يدرك الفلاسفة والمشتغلون في حقل العلوم الإنسانية في الغرب أبعاد نشوز الانفلات العلمي وتوظيفاته المدمّرة، من هنا يعمل هؤلاء على ابتكار حقول معرفية نقدية من شأنها أن تنذر وتوجّه وتنبّه وتصوّب، إيمانًا منهم بجدوى الفلسفة وبأهمية دورها على المستويين الفردي والجماعي. فهل نحذو حذوهم في عالمنا العربي ونقتنع بأهمية الفلسفة، فنفسح لها هامشًا للتفكّر في حلول لمشكلاتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية و…؟ أم أنه لا حلّ أمامنا سوى الرضوخ للأمر الواقع؟
في الحاجة الملحّة والضرورية إلى الفلسفة: أمل لا بدّ منه
لسنا عقولا ممنوعة من التفكير، ولسنا نفوسا محرّم عليها التوق إلى الحرية. هكذا أثبتت لحظات توثّبنا العاثرة والمتعثّرة فيما سمّي بالربيع العربي. لا ولن نقبل بالصور النمطية الدونية والتبخيسية التي يجرّعنا إياها الغرب الاستعماري عن قصورنا وعجزنا وعدم جدوانا. لن نستبطن قسرًا، قهرنا وذلّنا وجوعنا الذي تحاول الأنظمة العربية حليفة الاستعمار الغربي أن تطبّعنا عليه. نحن جديرون بالحرية لأننا وفي لحظات صحونا صرخنا ضد الاستبداد الذي نئنّ تحت وطأته. الصحوة لم تكتمل ولم تتبلور وتمرّ في لحظات الإنضاج، لتصير يقظة وتنويرًا يُبنى عليها لاستكمال مسار التحرّر السياسي والاجتماعي والفكري. وهنا علينا أن نخضع الثورات أو الحراكات، بعيدًا عن الإحباط وجلد الذات للنقد والفحص والتمحيص والتفكّر. هل فحصنا كفاية مفاهيمنا التي شكّلت مضامين الشعارات التي طالبنا بها؟ هل تحلّينا بالمقدرة النقدية الصلبة بعيدًا عن الانفعالات الآنية والشعبوية الاعتباطية؟ هل انطلقنا كنخب من واقع مجتمعنا، لننسج خطابًا يحاكي أفهام العامّة من الناس بعيدا عن النخبوية؟ هل تصدّينا بالحس النقدي اليقظ للمدّعين المتسلّقين الممتطين المتهافتين لقطف ثمار الثورات وتوظيفها لمشاريع شخصية؟ هل شخّصنا بدقة وعلمية آفات الكل المجتمعي كلّ من حقله وبحسب تخصصه، لنقترح حلولا متعيّنة ومحدّدة ومباشرة بعيدًا عن التعميم والادّعاء؟ هل سألنا عن مؤسساتنا التربوية التعليمية وعن مناهجها التي تلعب دورا في تجذير نهج الطاعة وإعادة إنتاج النسق السلطوي؟ وهل فحصنا عناصر خطابنا لننقيه من العناصر المنفّرة للناس والتي مثّلت فجوات استطاعت السلطة أن تنفذ من خلالها لتشيطننا وتخلع عنا كل مشروعية؟
هذه الأسئلة تساهم الفلسفة التي تزوّدنا بالجهوزية النقدية ليس للإجابة عنها، بل لفتح حوار بينذاتي بعيدًا عن الذاتية والشخصنة، لنحاول تعيين أسباب تعثّرنا المشروع والطبيعي. هذا الحوار برعاية الفلسفة، يحوّل ربّما الحراكات الشبابية إلى صولات خسرناها، لكنّها قادرة على النهوض من كبوتها والمراكمة والبناء، لتهيئ للحظة ننفض عنها ثقل الظلام الرابض على أحلامنا. ورهان الخروج من الظلام إلى النور هو في فتح كوّة للعقل لإقامة مصالحة بين الفلسفة ومناهجنا التربوية، وبينها وبين المجتمع العربي الذي لمّا يزل التفلسف فيه مثارًا للسخرية والاستهزاء.