Search

“صار بدها فلسفة”

احتفاءً بيوم الفلسفة العالمي الواقع في 17 تشرين ثاني/ نوفمبر 2022، طرحت ميسلون للثقافة والترجمة والنشر ثلاثة أسئلة اعترافًا بمكانة الفلسفة، وتأكيدًا على أهميتها وارتباطها بالحياة اليومية.

 

السؤال الأول: هل هناك فلسفة عربية؟

يشي هذا السؤال بثلاث مشكلات فلسفية على الأقل:

الأولى مشكلة العنصريّة في صفة العربية أو العنصر العربي. فالفلسفة تتعلق بالعقل. وعليه، فإنّ عدم وجود فلسفة عربية يعني عدم وجود العقل العربي. وهذا حكم عنصري تجاه أي شعب كان، ومن ضمنهم الشعوب العربية. مع العلم أنه من نافل القول السؤال عن وجود فلسفة ألمانية أو فرنسية أو إنكليزية. في حين أن السؤال عن وجود فلسفة عربية يتحول إلى مشكلة، والجميع مطالب بإبداء رأيه، من دون التساؤل عن مفهوم الوجود بحد ذاته، وماذا يمكن أن يعني وجود أو عدم وجود فلسفة عربية.

انتقلت الفلسفة -بمعية العمل البشري بتنوعه- من الموجودات إلى التحولات processes (من الوجود إلى التحول أو العملية أو السيرورة)؛ ولذلك أصبحنا مطالبين بالانتقال، في تفكيرنا، من التقابل الصنمي والعقيم بين وجود فلسفة عربية، وبين عدم وجودها، إلى العملية بين وجودها وعدمها وفي الاتجاهين معًا. وهذا يوكّد على واقعية الفلسفة العربية الفرديّة، إيجابًا وجدوى. فالوجود والعدم صارا لعبة عقل ورياضيات. والتحول بينهما قد تفسَّر وانشرح ولم يعد مسألةَ كونٍ وفساد مانوية. ولم نعد أمام مجرد صيرورة تقدِّس التغير مع الدوران صوفيًا من دون “وحدة الدائرة والخط المستقيم”، بل صرنا مع التحوليّة، وبات البقاء عند الصيرورة فحسب موقفًا ضدّ العقل. وبهذا المعنى، إن “السيرورة مفتاح الصيرورة، والتحوليّة مفتاح التحول”. والأفضل لنا إذًا، مغادرة الوجود بمعنى الحضور، والعدم بمعنى الغياب، والانتقال إلى الراهنية والفعلية والإمكانية. وبما أن الفلسفة تقدِّم الحلول الجمالية والأخلاقية والمنطقية وتدفعها إلى نهاياتها، فلا يكفي أن نوكّد على وجود الفلسفة العربية الموضوعي أو أن ننفيه، بل يجب تأكيد فكرة الحل بينهما، وذلك بنفي النفي، لا بالنفي فحسب.

الثانية مشكلة المبالغة في تضخيم الفلسفة كونها بنت العقل، وما يصاحب هذا التضخيم من شعور بالفوقية تجاه شعوب لم تتفلسف؛ فوجود الفلسفة العربية هو وجود للعقل، أما غيابها فهو مؤشر على غياب العقل وتعميم الحماقة. ولكن هكذا مبالغة وقفت عقبة أمام معرفة العرب للواقع الآن، واكتفاءهم بـ ابن رشد وابن سينا والفارابي والكندي والغزالي من جهة، وستعيق طريق إنتاج تصورهم للعالم والاكتفاء بتقليد التراث أو تقليد الغرب من جهة أخرى. وساعتها سيقول لسان حالهم: “عندنا فلسفة وكفانا الله شرّ الفلسفة، أو ليس عندنا فلسفة ومن المستحيل أن يصبح عندنا”.

الثالثة مشكلة الشعور بالدونية تجاه الفلسفة الغربية بما فيها اليونانية. وتحويلها إلى مثالٍ صعب المنال ليس أمامنا سوى تكرير القول بالمعجزة الأوروبية. ولكن بإمكاني أن أستعير تعريفًا ما للفلسفة، ثم أشتقّ منه وجودًا لفلاسفة عرب أو لفلسفة عربية. كأن أقول: الفلسفة هي “إبداع المفاهيم” بحسب دولوز مثلًا، أو “علم الوجود بما هو موجود” بحسب أرسطو، أو كما حددها مرقص بأنها “طريق فكريّ أوله المفهوم وغايته الواقع، مع تصور للإنسان وتاريخه ومصائره الآن”. ثم أبحث عن فلاسفة عرب أبدعوا مفاهيم، أو فكروا في ماهية الموجود أو فهموا الواقع وتصوروا مصير الإنسان. وبعد ذلك استنبط وجود فلسفة عربية أو عدم وجودها. وهذا ما فعله كثيرون مثل طيب تيزييني ومحمد عابد الجابري لإثبات وجود فلسفة عربية، أو بالعكس، مثلما فعل جورج طرابيشي ونفى وجود فلسفة عربية، بل أكد استحالتها اليوم، لأن الفلسفة عقل، والعرب ليس لديهم عقل، بل مجرد عقلية، ولأن الفلسفة بنت الحداثة، والعرب لم يدخلوا الحداثة بعد. إلّا أن هذا المنهج التحليلي لا يقدّم جديدًا؛ لأن الإجابة عليه تكون متضمنة فيه مسبقًا، وتطرح مشكلة القياس الظني والمعيار المتعالي والإجابة بنعم أو لا، وكأننا في امتحان أتمتة. ولهذا أجد أن السؤال زائف.

 

السؤال الثاني: هل انتهى دور الفلسفة في عصر العلم؟

لا لم ينتهِ. فإذا كان للعلم دور مهم جدًا فإن للمعرفة الفلسفية دور مهم أيضًا. وبما أن “المعرفة -أي معرفة- سلطة”، فإن أهمية دور الفلسفة نابع من هنا مثله مثل دور العلم. وحدها الفلسفة تخبرنا أن الكل هو واحد، ضرورة وكليّة وإمكانًا. بينما العلم تمثيلٌ للواقع. حتى في أكبر فروعه تجريدًا ورمزية ومعادلات، وأقصد الرياضيات ثم الفيزياء. ولكن الفلسفة حدس بالواقع، وليست تمثيلًا له أبدًا، بل إنها اختراع له. ومع ذلك، فإن العلم من دون فلسفة أعمى، والفلسفة من دون علم فارغة. وعلى الرغم من التشابه بين الفلسفة وبين الأدب والفن، إلّا أن الفلسفة تهتم بالكلي والضروري والممكن (من الممكن أن يكون الواقع بخلاف ما وقع عليه) ولا تعمل بالتجربة مثل بعض الفروع العلمية. بينما يهتم الأدب بالكلمة والنص لا بالمفهوم والنسق الفلسفي، ويهتم الفن باللون والخطوط والشكل والنغمة والصوت والتجسيد والمحاكاة والصور والمشاهد …إلخ، وما هذا إلّا لخلق واقعٍ موازٍ أو واقع بديل؛ أي غير تمثيلي بالمآل الأخير. وما أن يمثل الفن والأدب والفلسفة الواقع كما هو، حتى تنفر الذائقة منهم، وتعدّه فنًا أو أدبًا رديئًا أو فلسفة واقعية. وبالعكس فكلما مثّل العلم الواقعَ كلما كان أجدى وأحقّ.

 

السؤال الثالث: هل تحتاج المشكلات العربية إلى الفلسفة أم أن الممارسة العملية والواقعية كافية لإنتاج الحلول؟

بادئ ذي بدء، من أين ستأتي الممارسة الواقعية بالحلول؟ إن الممارسة الواقعية تقود إلى اعتياد الأمور والتكيّف معها وإعادة تطبيعنا بطبائع مكتسبة جديدة، وتفرخ المشكلات من جديد. وتحتاج الممارسة الواقعية إلى الملاحظة والتعلم والمحاكاة والمقارنة والتحليل والتركيب والحدس والاستقراء والاستباق، وهذا كله فلسفة وليس ممارسة. وبخلاف الممارسة الواقعية، تعمل الفلسفة بالمفاهيم، وتعي أنها تعمل بها. كما يمكن تقسيمها إلى فلسفة نظرية تتناول قضايا العقل والعلم، وأخرى عملية تتناول قضايا الأخلاق والجمال والأمل. ولذلك وبالنسبة إلى مشكلات العالم العربي اليومية، فإن الفلسفة العملية تساعدنا في تعيين ما يجب أن تكون عليه الحلول. بينما تساعدنا الفلسفة النظرية في تحديد وتعيين المشكلات بما هي عليه وصفيًّا. ومثل هذا التعيين الأخلاقي والجمالي لا نجده في العلم، وإن كنا نجد فيه تحديدًا وصفيًّا دقيقًا للمشكلة. أَلَا تحتاج حلول المشكلات العربية إلى بُعدٍ أخلاقي وآخر جمالي وثالث ميتافيزيقي ورابع إبيستمولوجي وخامس منطقي؟ بالطبع تحتاج؛ ولذلك من نافل القول تأكيدنا على قدرة الفلسفة على معالجة المشكلات اليومية. خذ مثلًا مشكلة التقنين في سوريّة والتي تطال الكهرباء ومشتقات النفط والمواد التموينية والماء والخبز، وهي مشكلة عملية يومية يعاني منها السوريون، وتبدو بعيدة كل البعد عن التناول الفلسفي. لكن من تطبيق سياسات التقنين وممارستها الواقعية تظهر مشكلة الظلم في توزيع المخصصات المقنَّنة، والتي تستدعي بدورها على الفور الفلسفة السياسية؛ أي فلسفة الأخلاق والعدالة. فالتقنين فضلًا عن كونه مشكلة سياسية اقتصادية، إنه مشكلة وجودية وأخلاقية وجمالية أي بكلمة واحدة: مشكلة فلسفية.

وأخيرًا أتقدم بجزيل الشكر لمؤسسة ميسلون لاحتفائها بالفلسفة في يومها، متمنيًا أن تتحول طريقتها إلى نموذج إرشادي ينمّي ظاهرة الاحتفاء بالفلسفة والفلاسفة.

شوكت كمال غرزالدين

كاتب وباحث سوري، يحمل إجازة من كلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة دمشق عام 2002، شهادة دبلوم فلسفة من جامعة دمشق عام 2003، ماجستير في الفلسفة اختصاص إبيستمولوجيا عن أطروحة “الفرضية في الفيزياء الكمومية” عام 2012 جامعة دمشق.

مشاركة: