لا حلّ لمشكلاتنا من دون التنظير والتفلسف

بداية أريد التنويه إلى أني لستُ متخصصة بالفلسفة؛ ولكنني مهتمة بها، وسأورد لاحقًا بعض المآزق الشخصية التي دفعتني إلى البحث في الفلسفة عن كثير من الإجابات وفك الخلط، إبان الثورة السورية، بل إنها قوّضت أسئلتي نفسها وخلقت لديّ أسئلة جديدة في تجربة وجودية لا أظن أن سوريًا كان في مأمن منها.

 

هل هناك فلسفة عربية؟

إن السؤال ملتبس جدًا! هل المقصود به تفلسف ذوي الأصول العربية؟ إن كان كذلك فهو في رأيي سؤال خاطئ، أم المقصود به ما كُتب في الفلسفة باللغة العربية وما تُرجِمَ إلى اللغة العربية، وما تم فيه تناول المشكلات العربية؟ فهذا سؤال في إمكاني الإجابة عنه بنعم، ذلك أن الفلسفة ملكية بشرية عامة، والنص كائن مستقل عن كاتبه، والترجمة أيضًا هي ترجمة العقل، وهذا يعني بالضرورة خلقًا جديدًا وفهمًا خاصًّا.

تحتفي المناهج الدراسية العربية بـ ابن رشد والكندي وابن خلدون والفارابي، وبعض المتصوفة كـ السهروردي، على أن هذه الأسماء تشكل حقبة العرب الذهبية الأولى للفلسفة، من دون أن ننسى الصفة (الإسلامية) التي خضّبت الفلسفة في تلك الآونة بما نشطت في ظله، ولربما أفضل مصطلح يدلل على هذا الخضاب مصطلح ” فقه الفلسفة” وهو عنوان كتاب لـ طه عبد الرحمن، في إشارة صريحة لتمرير الفلسفة تحت وصاية الفقه الديني.

لم يكن من السهل إذًا الاشتغال بالفلسفة، ولا طرح سؤال: (ما الفلسفة؟) بدليل إجاباته: الفلسفة علم الكلام، الفلسفة مناهج أهل الحديث، الفلسفة هي الوحي …إلخ

لم يمض وقت طويل على رحيل د. محمد شحرور الذي حاول جاهدًا التوفيق بين الفلسفة والنص الديني، لمنح الفلسفة جواز عبور ضمن أسلاك النصوص الإسلامية الشائكة، فما كانت النتيجة سوى ليّ عنق الفلسفة لخدمة تأويل النص الديني؛ هذا الأخير الذي ابتلعها فلم يتبقّ منها سوى ما يثبّته وينفيها! من دون أن تدخل الفلسفة في أي صراع معه!

فهل الفلسفة فقه؟ تأويل؟ وهل هي بالضرورة في صراع مع النص المقدس؟

بالنظر إلى النتائج التي حصدتها تجربة د. محمد شحرور وسواه، والتي لم ترضِ حتى الإسلاميين، أجدني أوكّد على ضرورة القطيعة بين الفلسفة والنص الديني، وترك الدين برمته لشؤونه الخاصة؛ فالدين دعوة جاهزة ومنجَزة، والفلسفة سؤال مفتوح لا وسادة شافية له، والاشتغال في الفلسفة يقتضي الخروج من هذه المخلوطة.

لا يمكن أن نقول فلسفة عربية حديثة من دون أن نشير إلى ما سمّي بعصر النهضة الأولى، الذي برزت فيه أسماء اشتغلت في الفلسفة، كـ الأفغاني ومحمد عبدو وعلي عبد الرازق وطه حسين وعبد الله العروي؛ مع السؤال الكبير الذي برز آنذاك: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ والذي كانت إجاباته تفلسفًا خاصًّا لكل واحد من هؤلاء، من موكّدٍ على ضرورة العودة إلى خصوصيتنا، أو جازم بضرورة القطيعة مع التراث، إضافةً إلى طرح أسئلة كثيرة عن العلم، الديمقراطية، الإسلام، الدولة …إلخ.

وحين ذكر الماضي القريب نستحضر أسماءً كـ الجابري الذي تفلسف في (العقل العربي)، والياس مرقص الذي أرّقه المطلق والنسبي، ولا ننسى الإشارة إلى الأيديولوجيا القومية، والحمّى اليساريّة الماركسية التي أصابت بعض من عملوا في الفلسفة، مع أسئلة فلسفية عن الأنا، الآخر، الغرب، الهوية، الانتماء، العلمانية، الاستشراق …إلخ.

 

هل انتهى دور الفلسفة؟

لقد فاجأنا العالم ستيفن هوكينغ بإعلانه موت الفلسفة! هذا الإعلان يعيدنا حتمًا إلى السؤال: ما الفلسفة؟ فإن نظرنا إليها على أنها بديل العلم، أو أنها أسئلة العلم نفسه، قد نميل لموافقة هوكينغ، لكن العلم لم ولن يستطيع تقديم الإجابة المطلقة عن التساؤلات: من أنا؟ ما الهوية؟ ما الوجود؟ ما الواقع؟ ما الحب؟ العلم نظرة أحادية إلى العالم ويقدم إجابات هي غالبًا تاريخ تصحيح أخطائها. لكن إعلان العالم هذا يذكرنا بارتباط الفلسفة بالعلم، حتى أن الكثير من الفلاسفة هم علماء بالفعل في الرياضيات أو الفيزياء أو علم الاجتماع أو علم النفس، وهذا يعيدنا إلى مقولة: الفلسفة أم العلوم التي تسعى جاهدة للانفصال عن هذه الأم أو إماتتها. إلا إن سؤال العلم لعقل العالم يحتاج إلى منظار فلسفي ينظمه، لقد أوجعت الفيزياء الكمومية المنطق الأرسطي وقوضته وأيقظت الفلسفة من غفلتها على ضجيج أسئلةٍ عتيقة: ما الوجود؟ ما الواقع؟ هل الوجود موجود؟ أم موجود وغير موجود؟ هل هو احتمالي؟ موجيّ أم جسيميّ؟ هل أنا من أخلق الواقع؟ من أنا؟ هل أنا موجودة من دون أن تراني؟

لقد علق آينشتاين العبقري في السببية وفي الإعدادات المسبقة للكون، علق في المنطق الأرسطي: إما-أو، ما منعه من تفهم الاحتمالية والعشوائية واللحظية، كان إذًا من شأن نظرته الفلسفية نحو العالم أن تعيق العلم نفسه! وإن قوضت الفيزياء الكمومية المنطق الأرسطي وأخلاق آينشتاين فهذا لا يعني أن الفلسفة ماتت؛ الفلسفة ليست منطق أرسطو وحسب! ما زال السؤال موجودًا وعالقًا، وبدل أن أكون إما موجودة أو غير موجودة، صرتُ موجودة وغير موجودة في آن، أو صار وجودي موجة من الاحتمالات، وما زلتُ أسأل نفسي: من أنا؟ ما الوجود؟ وما زالت طريقة عقلي للكون هي كون عقلي، ما زلتُ أحتاج إلى الفلسفة!

وهنا سأصل إلى مآزقي الشخصية التي دفعتني نحو الفلسفة، حين انهارت في رأسي ثوابت أخلاقية وتصورات مسبقة، إذ وجدت نفسي في لحظات حدية لقصف طائرات النظام السوري للمناطق الثائرة، حيث كنت أسكن في مناطق سيطرته أو المسماة (حاضنته)، وجدتُ نفسي في تراكب شعوري مخيف، حزينة وقلقة على من يموتون هناك، وأتنفس الصعداء هنا لأن المناطق الثائرة توقفت عن إلقاء صواريخها نحوي، لقد كنتُ أنا وغير أنا في آن! هنا وهناك في آن! مطمئنة وخائفة في آن! ولكثرة ما تكرر هذا الموقف صرت أجد نفسي بلا أخلاق، لأني سعيدة وتخلصتُ من خطر الموت على حساب من أظن أني أقف في وجداني وعقلي معهم، ثم أسعفني كتاب الأخلاق لـ سبينوزا، وأنجدني من أخلاق أرسطو (إما-أو)، ومن تقسيمات المفكرين السوريين المانوية (حاضنة النظام وحاضنة الثورة)، صارت أخلاقي محايثة لي، فيّ، الآن وهنا، وليست وصايا خارجية أو وصايا تحوم فوقي كما طائرات النظام السوري أو صواريخ المعارضة! وعادت لي الأسئلة: من أنا؟ فرد أم عضو في جماعة؟ موالية أم معارضة؟ حاضنة للنظام أم مأسورة بالقوة؟ أم هذا كله في آن؟ وعاثت بي كما جميع السوريين غيلان من الكلمات غير المحددة: النظام، الدولة، الثورة، المكان، الواقع، الهوية، الانتماء …إلخ، مع توصيفات شتى أكلت موصوفاتها في مخلوطة توكّد على عوزنا الشديد للفلسفة بوصفها بداية، وقبل أي شيء تحديد المفاهيم وتعريفها.

 

 

وأخيرًا هل نحن في حاجة إلى الفلسفة؟

بكل تأكيد نعم؛ إذ يقلل الشعبويون على الدوام من شأن التنظير والتفلسف! ومن دونهما لا يمكننا رؤية الطريق ولا المشكلات ولا إيجاد حلول، إني أكاد أجزم أن غياب التنظير أحد أهم عوامل غياب الإرادة، ذلك أن الإرادة تحتاج بالضرورة إلى وعي الضرورة لبناء مقاربة مشتركة لتفكيك الواقع وتوصيفه وتجاوزه. نحن في أمسّ الحاجة إلى التفلسف في الأخلاق، والدولة، والسلطة، والمجتمع، والسياسة، فإن كان الإنسان لا يحتاج إلى الفلسفة ليأكل ويشرب وينام فهو يحتاج إليها للإبداع كما يقول غاستون باشلار، والإبداع ضرورة للتقدم والمضيّ، نحن في مأزق وجودي خطِر، لا يمكننا فيه حتى أن نأكل ونشرب وننام ونخطط ليوم واحد مقبل.

ظلال عثمان

كاتبة سورية، مواليد حمص ١٩٧٨، تكتب الشعر والقصة القصيرة، قارئة ومهتمة بالأدب والفلسفة.

مشاركة: