Search

الفلسفة؛ الإشكال وسؤال العصر

توطئة

الفلسفة اليوم مناهج وطرائق من دون نظرية المعرفة! وهذا القول في المبدأ ليس قولًا تهكميًا ولا يحمل قيمة اختزالية، بل محددات معرفية اجتهدت الفلسفة في إجلاء صورتها المفهومية أولًا. وتحديد لهوية الفلسفة كونها ذات قدرة على تحديد المفهوم وإشباعه قيمة وجمالًا وفكرًا. وليس هذا فحسب، بل طريقة في الكشف عن معنى الوجود وإجاباته المتعددة ثانيًا. فالفلسفة ما قبل القرن العشرين، وفي أعلى درجاتها في القرن التاسع عشر، كانت ذات قدرة على أن تُقوّم وتحدّ معرفيًا نظريات العلوم وتحاورها، وتخلق أحد جناحَي سير مركب سيل الحياة الإنسانية: القيمية معرفيًا وفلسفيًا جناحها الأول، والمادية الحياتية ونظريات العلم العلوم ثانيهما.

منذ بداية القرن العشرين، والفلسفة تتعثر وتتراجع أمام فورة العلوم العصرية متعددة الجوانب والامتداد، والتي كان جذرها الاكتشافات المذهلة لثورة العلوم المدهشة في الكشف عما وراء الطبيعة، عن غير المرئي والمحسوس بشريًا، والذي فتح بوابات التقدم العلمي على اتساعه، سواء في طرائق التفكير والمناهج خارج حدود المألوف والعادة بشريًا، أو تكاثر التطبيقات العلمية التي باتت تفرض شروطها على الحياة على سطح الكوكب.

سؤال الفلسفة سؤال القِيَم، سؤال المعرفة والوجود والصير والسيرورة، سؤال بات عاجزًا عن حدّ ولجم شطط العلم والعلوم وسطوتها الرقمية والتقنية والمادية. وهذا ليس تحيزًا للعلوم أو للفلسفة، بل محاولة لفتح بوابة النقد مثنويّ الاتجاه: نقد تأخر الفلسفة عن التأثير في الحدث العالمي ومشهد الكون العصري، ونقد شطط العلوم وانحرافاتها الهائلة عن خير البشرية وسعادتها وسلامها، وهذه مباحث ودراسات معرفية تتسع باتساع السؤال والنقد.

في الفلسفة العربية

باتت الفلسفة اليوم فلسفات خاصة بمجال ما: كاللغة وعلم الاجتماع والتاريخ والحداثة وما بعدها …إلخ، من دون أن تتكامل أركانها المعرفية كما كانت قبل القرن العشرين. والفلسفة العربية هي الأشد تراجعًا في هذا السياق، خاصة وأن الحضارة العربية وأطرها القيمية المعرفة للفلسفة، متوقفة عند فلاسفة القرون الوسطى، وقد تأخرت عن اللحاق بركب العصر الحديث الذي فتح بوابات الحرية والعقل والمواطنة، حرية الفكر والرؤية، عقل الكون والبحث علميًا ومعرفيًا، وتجسيد جدلهما في المواطنة حقوقًا ومسؤوليات.

تباينت الفلسفة العربية المعاصرة في محتواها، بين متجهات عدة لم تثمر في أي منها حتى اليوم:

التمسك بالموروث والمحتوى واستدامته وعدم الانفتاح على الثقافات والفلسفات الأخرى، فخلقت قوالب خاصة بذاتها لا ترتقي لمصاف الفلسفات السائدة، والتي هي قاصرة عن اللحاق بركب العلوم بجذرها المعرفي، فكيف المنغلقة منها كحالنا العربي!

تحديث الموروث القائم بدءًا من الموروث ذاته وفق صور مقارنة للقائم والمنجَز في عوالم أخرى، فبدل أن ترتقي به لنماذج قابلة للانفتاح والمقارنة، غرقت في تفاصيله وبحر جزئياته ومفرداته النظرية، مبتعدة عن الواقع الاجتماعي والمادي والسياسي للحياة التي تمس المجموع البشري بعمومه في هذه الرقعة من الأرض.

محاولة حداثية لنقل الفكر الفلسفي الحديث إلى بنى لم تكتمل معها بعد مقوماته المادية. محاولة ما زالت نظرية ومتباعدة ولا تمتلك أدوات الوجوب والتحقق، وقلما تعالج مشكلات الحقوق والحريات والاستقرار والأمان سوى من بوابة سؤال “ما هو”، كسؤال وصفي سهل ويسير نظريًا، فيما سؤال “الكيف والطريقة” سؤال القدرة والفعل ذو عقد وتعقيدات، قد يُخرج الفلسفة، بحسب تصوراتٍ مسبقة، عن سياقها النظري المفترض.

هنا تبدو الحيرة واضحة، ويصبح القلق المعرفي أشد إرباكًا! إذ لم يزل سؤال الفلسفة الأهم غير مطروق بعد من البوابات الثلاث عربيًا. فمهمة الفلسفة لا تقوم على تبرير الموجود وإثبات أحقيته النهائية، ولا على تزيينه بجمل وصفية بدعوى التحديث، ولا الإضافة الحسابية له. الفلسفة تحتكم للقيمة والحكمة والجمال والقدرة على الأثر والتأثير، الامتداد والاتساع والانفتاح، وليس هذا فحسب، بل الإنجاز واستحداث الطرائق العقلية في تجسير مفاهيم الخير والسلام والعدالة وجعلها مفاهيم واقعية وعالمية معاشة. وهذه إشكال فلسفي ومعرفي عصري وسؤال يجب تحديده.

واقع الفلسفة العالمي متأخر عن هذا بعامه، فكيف هي حال الفلسفات العربية المتأخرة عنها في المبدأ. إذ يصعب على نظريات العقل التواصلي لفلاسفة الحداثة أن تشق دربها في بحر الرقمنة والتواصل الأداتي والوظيفي، فيما الأخير يفرض سطوته، مع تراجع عموميّ في المحتوى الإنساني العام والتواصل الاجتماعي والتعاطف الإنساني وإهدار الحقوق وإقامة التمايز بين الشعوب. وفي الضفة الأخرى تنازع المنطقة العربية بمجملها بين تحقيق أولويات الوجود في الأمان والاستقرار المهدَّد سياسيًا، وافتقار أولى مقومات الحياة المادية، ما يجعل سؤال الفلسفة فيها متعدد الأوجه، وذو مهام أكثر منها نظرية مستقبلية أو تكرارية عَودية إلى الماضي:

مهمة إحياء القيم الإنسانية بعمقها الحميمي الذي يكتنزه عالم الشرق، حيث الروح، الإيمان، البعد الحميمي للأسرة والعلاقات الاجتماعية هي محطات وأسئلة فلسفية. وهذا خلاف عوالم الغرب المتقدم تقنيًا وماديًا وثقافيًا.

مهمة فعل الوجود العصري والتغيير في قواعد ومناهج المعرفة. ليست فعل النقل والصناعة، ولا الأتمتة والرقمنة والبرمجيات الذكية، بقدر مهام التصور والفهم الكوني، والنهل من المعرفة التي أحدثتها ثورات العلوم في الطبيعة والكون وتغيير إدراكنا، لا وبل عقل الانسان ورؤيته لها. فوحدة الزمان والمكان، عصر الاتصالات صفرية الزمن ولا نهائية المسافة، تفرض تصورات مختلفة عن التصورات المادية المحضة للكون، أو المثالية أو الدينية الخالصة وحسب. هو عصر تراكب الحاجات المادية والقيم الفكرية فلسفيًا، كما مثنوية المادة والطاقة علميًا، وهذا سؤال الفلسفة العصري وهمّ اشتغالها في القرن الواحد والعشرين.

سؤال الفلسفة العربي ليس عربيًا خاصًا وكفى، بل هو سؤال كونيّ، لكونه فلسفيّ بالجذر، قبل أن يحمل هوية أو صفة. سؤال يبحث في سلام الكون وأمانه، الخير والجمال والحرية، حرية كل فرد في المعمورة، لا حرية الأميركي أو الفيلسوف وحسب، بل حرية المواطن أيًا كان موقعه وزمانه. هو سؤال الكيف والطريقة متعدد الأوجه والمستويات: المعرفة الكونية، الحاجات المادية العصرية، والحقوق المادية والإبداعية والفكرية لأبناء هذه المنطقة من الأرض والمعمورة كلها. فهل ستكتفي الفلسفة بالإجابات النظرية الوصفية وحسب؟ أم ستنتقل إلى حوار شاق في البنى المعرفية العربية من جهة، وحوار واسع في انفتاحات العلوم العصرية، وحوار راهن ومستدام في الحقوق والحريات سياسيًا ومدنيًا واجتماعيًا من جهة أخرى؟

في جذر مشكلة الفلسفة

في القرن الواحد والعشرين، تثبت العلوم العصرية في تعدد جوانبها وتمايز مناهجها، شمولها جوانب الحياة كلها. فحتى وإن اختلفت لغة ومنطقًا وتخصصات من علم اجتماع وهندسة وطب وصناعة وتقنية وتواصل، لكنها تأخذ من بعضها لا بل وتتعاون علميًا، وتمسّ لحظيًا وجود الإنسان من جوانب حياته كلها: علاجًا وتواصلًا وإنتاجًا خيرًا، أو تهديد الكون بالحروب وصناعة السلاح وأسلحة الدمار الشامل والحرب النووية شرًا.

يكمن جذر المشكلة في تأخُّر الفلسفة ونظرية المعرفة عن العلوم العصرية، سؤال عصري ذو شأن إنساني عام. فعودتها إلى مصاف الفعل كقيمة معرفية إنسانية، تحاكي التطور العلمي، وتتمسك بقدرتها الروحية والعقلية الخلّاقة إبداعًا وشغفًا وحبًا وعاطفة، بحيث تستعيد مهمتها الأسمى في سؤال الوجود والقيمة الإنسانية.

مهمّة الفلسفة ونظرية المعرفة الأسمى هي قدرتها على إقامة الحدّ على تطرّف العلوم وشططها المادي التجريبي والرقمي، وقدرتها على الاستجابة المعرفية للحقوق المادية والسياسية، وإثبات قدرتها على تسيير مركب البشرية نحو سلامها وأمانها.

جمال الشوفي

كاتب وباحث سوري، دكتوراه في الفيزياء النووية من جامعة القاهرة 2008، له العديد من الأبحاث العلمية حول الوقاية الإشعاعية والطب النووي نشرت في مجلات متخصِّصة، مدرس محاضر في جامعة الاتحاد الخاصة، كلية الهندسة المعلوماتية من 2012 حتى الآن، مدرس محاضر في جامعة دمشق-كلية الهندسة الميكانيكية والهندسية من 2012 إلى 2015. وله نشاطه أيضًا في الحقل الفكري السياسي، ومن كتبه المنشورة: المسألة السورية ومرايا الجيوبوليتيك الدولي، دفاعًا عن الحرية والوطن المهدور، الجدل التواصلي (سؤال العقل والتقنية)، ونشر عددًا من الدراسات مثل “المعارضة السورية بين بذور الحرية وطعوم الاستبداد- دراسة نقدية بنيوية” المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام، 2016؛ و”المجتمع المدني السوري بين الرؤية والواقع/ مخاض تجربة وهوية تتشكل” في العدد الأول من مجلة (قلمون) للدراسات والأبحاث – أيار 2017، وله العديد من المقالات المنشورة في صحف ومواقع عديدة، نال الدرجة الثالثة في مسابقة جائزة ياسين الحافظ في الفكر السياسي للعام 2017.

مشاركة: