هل هناك فلسفة عربية؟
يبدو السؤال في صيغته المبتسرة والمباشرة، وكأنه يحيل على النفي، أي نفي وجود فلسفة عربية، وأظن أن دعوة كهذه التي توجهها “ميسلون للثقافة والترجمة والنشر” للاحتفاء بيوم الفلسفة العالمي، هي دعوة توكّد، ولو نسبيًا، على وجود اهتمام عربي بالفلسفة، وعلى أهميتها، خصوصًا أن الأعوام التي تلت الربيع العربي تحمل أسئلة كبيرة للبشر الموجودين في المنطقة العربية، من مجتمعات وأفراد.
أميل عبر التجربة الشخصية إلى التعريف الذي يمنحه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1872- 1970)، حيث يرى أن “التبحّر في الفلسفة لا يرمي إلى بلورة إجابات نهائية عن الأسئلة، بل تكمن الغاية في الأسئلة نفسها التي من شأنها أن توسّع آفاقنا حول الممكن”.
منذ مطلع القرن التاسع عشر وإلى اليوم، ثمة أسئلة كثيرة يطرحها العرب على أنفسهم، وهي تأخذ صيغتها الفكرية/ الفلسفية عند عدد لا بأس به من المشتغلين في الحقل الفكري العام، أو الفلسفي المحض، المرتبط بالمفاهيم المجرّدة، كما فعل المفكر المغربي عبد الله العروي، في كتبه المخصّصة لمفاهيم “الحرية”، و”الأيديولوجيا”، و”الدولة”، و”التاريخ”، و”العقل”، وهذا فقط مثالٌ من بين أمثلة.
أما إذا قورنت المساهمة العربية بما أُنجز فلسفيًا في القرن الأخير غربيًا وعالميًا، وهو القرن الذي استقلّ فيه العرب في دول، بعد انهيار السلطنة العثمانية، فإن هذه المقارنة، لأسباب تاريخية موضوعية، ليست منصفة، فقد أدت عوامل كثيرة في الغرب، منذ القرن السادس عشر، إلى نشوء تواصلية في الإنتاج الفلسفي، خصوصًا مع الثورة الصناعية الأولى، وتطوّر نظام الإنتاج الرأسمالي، وصولًا للثورة الرابعة، في التقانة والاتصالات.
ومع ذلك، فإنه قياسًا على الشرط التاريخي العربي المعاصر، وهو شرط معلوم بأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن عددًا من الدول العربية قدّمت مفكرين وفلاسفة لهم إنتاج أصيل، خصوصًا في المغرب والجزائر ومصر وسورية، اشتبكوا مع المفاهيم والواقع، وطرحوا أسئلة عميقة، وقدّموا إجاباتهم الخاصّة، التي لا يزال الكثير منها يعمل في آليات تفكير الكتّاب والباحثين والمهتميّن بالشأن العام.
هل انتهى دور الفلسفة؟ هل للفلسفة دور في هذا العصر الذي يوصف بأنه عصر العلم؟
يشير تعبير/ مصطلح “عصر العلم” إلى أن عصرنا هو عصر العلم فحسب، بينما يمكن إطلاق اصطلاحات أخرى على هذا العصر، مثل “عصر السوشيال ميديا”، أو “عصر الكوارث المناخية”، أو “عودة الشعبوية”، وإلى ما ذلك، وكلها قد تكون صحيحية بدرجة ما، لكن في هذه الاصطلاحات كلها هناك وجود قوي للأسئلة الميتافيزيقية، مثل قضية الخلود التي ينشغل بها العلم، لإطالة عمر الإنسان، وهي قضية قديمة قِدم وعي الإنسان بمحدودية وجوده المادي.
في العقود الثلاثة الأخيرة، برزت مسألة التعددية الثقافية في حقل الفلسفة السياسية، وقد أخذت زخمها، بشكل خاص، نتيجة العولمة، وبروز أسئلة حول الحقّ في التعدد الثقافي، ويمكن عدّ هذا الحقل جديدًا نسبيًا على الفلسفة، لطرحه أسئلة عن مشكلات حقيقية، في البلدان التي تعيش حالة تعدّد قومي، ففي فرنسا (كمثال) ثمة نقاش حول الآخر، خصوصًا العربي والمسلم، وهو نقاش في صلب فلسفة التعدّدية الثقافية.
طرحت العولمة/ العلم أيضًا مسألة المواطن العالمي، هذا المفهوم الذي يتأسّس للمرة الأولى على معطيات حرية التواصل عبر الإنترنت، واتساع إمكانات السفر بين البلدان، والقدرة على الاستثمار المالي في البورصات المالية خارج الحدود القومية، والتجارة الإلكترونية.
أيضًا، هل يمكن للإنسان أن يتخيّل نفسه من دون الحوار مع الآخر، أو من دون التأمل بينه وبين ذاته، أو التنكّر للأسئلة الوجودية الكبرى، مثل مصير الإنسان، ومعنى حياته، وما هي علّة الوجود، وغيرها من الأسئلة الذاتية، أو الميتافيزيقية؟
في السياسة هناك فلسفة الحقّ، ونحن نواجه يوميًا أسئلة في صميم هذه الفلسفة، فمع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، برزت فلسفة الحقّ في الكثير من الكتابات، ووجدنا استدعاءً قويًا لهذه الفلسفة، من زوايا مختلفة، وأحيانًا متناقضة.
ودعونا نتذكّر، كيف أقبل الغربيون وغيرهم على إعادة قراءة كارل ماركس، في أثناء الأزمة المالية العالمية في عامي 2007 و2008، وكان من اللافت أن بعض كبريات الصحف عنونت أخبارها عن مبيعات كتب ماركس بـ”يحيا رأس المال”، و”فيلسوف الحرية”، فقد أرادت فئات عديدة فهم ما يجري، وطبيعة الأزمة، وكان ماركس الملاذ الفلسفي لمعرفة أسباب الأزمة، وفهم الآليات التي أنتجتها.
ما يسمى “عصر العلم”، يحمل معه الكثير من المشكلات والأزمات على الصعد كافة، ولا يمكن التعاطي معها من غير مساءلتها وتفنيدها، واقتراح حلول لها، والتوسّع في الإجابة، ومن ثم نقد الإجابات، وهكذا. وهو ما تقوم به الفلسفة.
في النظر الى المشكلات الثقافية والسياسية العديدة التي تعانيها مجتمعاتنا في المنطقة العربية، هل يحتاج حلّ هذه المشكلات فعلًا إلى الفلسفة، أم أنّ الممارسة الواقعية وحدها كافية لإنتاج الحلول؟
لدينا مشكلات كبيرة في العالم العربي، خصوصًا تلك التي نشأت بعد الربيع العربي، فقد انخرط مثقفون وكتّاب وباحثون وأكاديميون ومفكرون وحتى مواطنون عاديون، في نقاش مفاهيم مثل الدولة والهوية والحرية والعلمانية وعلاقة الفرد بالجماعة وحقوق الأقليات وغيرها، وهذا النقاش بحد ذاته هو نقاش فكري/ فلسفي، نظرًا إلى طبيعته المفاهيمية، ويعكس هذا النقاش مشكلات وأزمات حقيقية تعيشها مجتمعاتنا، ومحاولة بناء تصوراتها حول طبيعة الخيارات الأمثل لمستقبلها الخاص والعام.
وإذا كان السؤال هو هل تستطيع الممارسة الواقعية وحدها أن تجيب عن هذه الأسئلة/ المشكلات، فهذا السؤال يبدو، فلسفيًا، من لزوم ما لا يلزم، وكأن الممارسة الواقعية منفصلة عن تصوّرات البشر، فالإجابة عن هذه الاسئلة مرتبطة بمسائل عديدة، ذات صلة بالموقع الاقتصادي الاجتماعي للأفراد، ومستوى الوعي، والانتماء السياسي، والمرجعية الأيديولوجية.
كلّ ممارسة واقعية، سياسية أكانت أم اقتصادية، تنطوي على فلسفة/ تصوّر، وفي واقع معقّد كما في بلادنا العربية (مع الأخذ بالحسبان تفاوت مستوى التطور)، تصبح الحاجة إلى الفلسفة أكثر إلحاحًا، ليس على مستوى الناس العاديين فحسب، بل أيضًا على مستوى النخب نفسها، وخصوصًا النخب السياسية، من أفراد وأحزاب، إذ يتعذّر حدوث تحوّلات مهمّة في سلوك النخب من دون الفلسفة، أو في ممارسة واقعية لا سند فلسفيًا لها.
الممارسة الواقعية من دون الفلسفة/ النظر، هي أقرب إلى التجريب الذي يمكن أن يعيد التجارب الخاطئة نفسها في كل محاولة، من دون أن يعرف أصحابها أين أخطأوا ولماذا.
لكن في المقابل، القول بأهمية الفلسفة/ المعرفة من أجل العمل، لا ينبغي أن يكون لدينا وهم بأن الوعي منفصل عن حركة الواقع، فالبشر وهم ينتجون شروط حياتهم ينتجون أيضًا وعيهم، وهذا هو جدل التاريخ الاجتماعي، أي الجدل بين الواقع والفكر، أي حالة عدم الانفصال، لكن أيضًا عدم التماهي، إذ لا يمكن إنتاج وعي بالواقع من دون أخذ مسافة منه، ومساءلته، وطرح أسئلة حقيقية عليه.
إذا كان لا بد من إجابة قاطعة، فهي عندي: لا تصوّر لحياة ومجتمع وإنتاج وعلم وأخلاق من دون فلسفة، فكيف الحال إذا كان الواقع والتاريخ يطرحان مشكلات كبيرة ووجودية كما في منطقتنا.
نعم، لا حل لمشكلاتنا من دون جدل المعرفة والممارسة العملية.