تكامل العلم والفلسفة

الإجابة عن السؤال الأول

إن وصف فلسفة ما بأنها فلسفة عربية، على غرار وجود الفلسفة الأوروبية، يستدعي منّا التدقيق في مفهوم الفلسفة أولًا ومن ثم محاولة وصفها بأنها عربية، بمعنى محاولة البحث عن خصوصية ما لها، خارج إطار اللغة العربية، فليس هناك لغة أوروبية على سبيل المثال، بل هناك ثقافة وتاريخ أوروبيان ارتبطا مع تطور الحركة الفلسفية في تلك البقعة الجغرافية من العالم.
أما في حالة العرب، نستطيع أن نلاحظ أولًا أن الفلسفة عبر تاريخهم لم ترتبط بتطور العقل الإنساني العربي، ولم تتفاعل مع الحوادث الكبرى أو التحولات الكبرى التي تحدث في المنطقة العربية، إلا على مستوى الصدمات الصغيرة والنقاشات المحلية، كان الدين المحرّك الأول لتفلسف أغلب الفلاسفة العرب، حتى أن فهمهم للفلسفة لم يخرج عن إطار التفلسف ضمن ما يسمى الفلسفة الدينية تحت سلطة الله أو العقل الإلهي، على نحو ما كان تعريف الفلسفة لدى ابن رشد بأنها تعني “النظر في الموجودات التي تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتمّ كانت المعرفة بالصانع أتمّ، وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك”.
هذا النوع من الفلسفة، إن جاز التعبير، يطلق على صاحبه في الفلسفة الأوروبية بالليتورجي وعالم الدين أو المتفلسف في الدين، لذلك يكون الأكاديمي الأوروبي في حالة حذر شديد ودقيق في التفريق بين الفيلسوف وبين الليتورجي، توما الأكويني على سبيل المثال يسمى فيلسوفًا مسيحيًا كاثوليكيًا وسكولائيًا، أي أنه رجل تحدث عن فلسفة الدين أو تحدث في الدين فلسفة، ولا يمكن وضعه أو تدريسه في الجامعات الأوروبية على أنه فيلسوف يمثل حقبة من تاريخ الفلسفة الأوروبية، بل يُقال في أحسن الحالات أنه فيلسوف أوروبي.
لذلك يمكن وصف ابن رشد على سبيل المقارنة، بأنه فيلسوف عربي مسلم مالكي تحدث في الدين وفي موجودات الله للحصول على المعرفة عن طريق العقل تمامًا كما فعل توما الأكويني، وشرح وعلّق على فلسفة أرسطو، كما فعل الأكويني أيضًا الشيء ذاته.
مع ذلك يمثل الاثنان جزءًا من حركة فكرية تدخل في نطاق الفلسفة، ولكن لا يمكن وضعهما في نسق تاريخ الفلسفة، فهناك فلاسفة أوروبيون كثر لم يستطيعوا “دخول التاريخ الفلسفي” على حد وصف جيل دولوز.
إذًا يوجد فلاسفة عرب، ولا يوجد باعتقادي فلسفة عربية، كما أنها لم تتطرق إلى مفاهيم فلسفية جوهرية تستنبط من تفاعلات الإنسان العربي مع محيطه وتطوره الاجتماعي ومحاولة صوغ نظرية للوعي والإدراك والوجود أو وضع أسس للقيم الإنسانية أو محاولة نقدها بشكل حرّ، وهذا مرده إلى عدم القدرة على تحول العقيدة أو الدين إلى ثقافة إسلامية، مثلما نجح الأوروبيون في تحويل العقيدة المسيحية إلى ثقافة، ففُتح المجال للتفلسف الإنساني في الميادين كلها ابتداء من العصور الوسطى.

الإجابة عن السؤال الثاني

إن الفرق بين الفلسفة والعلم هو أنه لا يمكن أن يكون العلم معيارًا، على عكس الفلسفة التي توصف بأنها ثقافة المعايير، فالعلم يصف ما هو كائن، أما الفلسفة فهي تصف ما يجب أو ينبغي له أن يكون، لذلك لا يوجد شيء اسمه علوم معيارية، فهذا يتضمن تناقضًا في المعنى، غالبًا يكون العلم خاليًا من أي فكرة للقيمة، العلم لا يعنى بالأخلاق والحالات الشعورية فهو متخصص في دراسة الشروط الموضوعية والمحددة والتجريبية في زمان ومكان محدد، ثم يعمم نتائج التجارب تحت صِيَغ قوانين وعلاقات رياضية ونظريات قابلة للتطبيق.
في المقابل هناك بعض الفلاسفة الذين اهتموا بالفلسفة العلمية، مثل غاستون باشلار، وحاولوا من خلالها استخلاص فلسفة تتكلم عن تأثير فكرة العلم في تطور عقل الإنسان، لكي ينتجوا مفاهيم قيم عامة قادرة على القبول والنفاذ إلى جميع البشر، كفكرة التشابه والتطابق وفكرة الغيرية أو الفروقات الدقيقة التي يتميز بها العقل الإنساني.
يظل هذا النوع من الفلسفات على أهميته قليل التأثير، فهو لا يستطيع الخوض في مجالات التأمل والخيال وإنشاء نظريات للوعي الإنساني خارج إطار العقل، بل إن العقل في حالات كثيرة مهمته أن يضع نفسه في طريق الحقيقة حتى لو كانت قياسية أو معيارية، فالعقل يتعامل مع المادة ومع عنصر ما، وهو يصنع الحقيقة “حقيقته” عبر التعديلات المستمرة والنقد المستمر والجدل الدائم، كما أن المقولات والقوانين العلمية ذاتها تثبت وجود اللامعقول “المبدأ الثاني في الترموديناميك الحراري” كما يقول مايرسون هو أكبر دليل على وجود اللامعقول في ميدان العلم الذي يقرّ أن التغيير بالنسبة إلى طبيعة شيء معزول لا يمكن إعادته.
باختصار، إن الفلسفة هي “عالم الأفكار” اللانهائية، والتي تقتحم مفاهيم الوعي كلها، الإدراك، القيم ومفاهيم الوجود والمعرفة بجميع صورها، وهي في تطور دائم مع تطور الإنسان وعقله في سياقه التاريخي والجغرافي، وهي القادرة على تأسيس ثقافة الخلق والبناء والإبداع المستمر، سواء للفرد أو المجتمع، أو تنظيم الدول، ثم تأتي المعرفة العلمية لمحاولة تطبيقها عبر تشريعات أو قوانين قابلة للتغير والتطوير كلّما تطوّر عقل الإنسان لتكون الفلسفة هي المعيار المقوم للحركة الإنسانية والسياسية.

الإجابة عن السؤال الثالث

من وحي إجابتي عن السؤالين السابقين، أعتقد أن الفلسفة هي الحجر الأساس للنهوض في المجتمعات العربية، نظرًا إلى ما تعانيه من نقص شديد في محاولة جعل الفلسفة سهلة التداول وفي متناول الجميع، عن طريق الإكثار إما من الندوات والورشات الفلسفية تحضيرًا لجعلها في المستقبل عاملًا أساسًا في التعليم المدرسي والجامعي، ولبناء مجتمع قادر على محاولة الفهم والنقد والتمييز، لنصنع عقولًا حرة أكثر مما نصنع مفاهيم عامة أو مجردة حول العقل الحرّ، وذلك عبر جعل الفلسفة تهبط من عالم الله إلى عالم الإنسان، وبجعلها تهتم أكثر بالأشياء المحسوسة ومحاولة ربطها مع المفاهيم النظرية، وهنا لا بدّ من التذكير بوجوب “محاربة” الأفكار التبسيطية الداعية لعدّ أن كل تغيير يكون سياسيًا أولًا، وأن الثقافة مفهوم ثانوي، وهم بذلك يعدّون أن التخلف نابع من الأنظمة السياسية فحسب، وليس من عوامل أخرى اجتماعية وثقافية يحتاج إليها كل شعب من أجل القيام بتغيير أفضل نحو قيم إنسانية أكثر اتساقًا مع طبيعة الفرد الإنساني، عندها سوف لا يكون للسياسة دور أكبر مما لها، عندما يتعاظم الحس الثقافي عند الشعوب وعند السياسيين أنفسهم، فحيثما تزدهر السياسة تنحدر الثقافة، وعندما تزدهر الثقافة لا بد أن السياسة ستنحدر، ويزدهر بدوره العمل السياسي لمصلحة الشعوب.

كاتب لبناني، ماجستير في الفلسفة وعلم النفس، أستاذ في التعليم الثانوي، متقاعد حاليًا، تولّى إعداد مجّلة "الغلال" المدرسيّة السنويّة في ثانويّة راشيّا الرسميّة في لبنان، له ديوان بالعامّيّة تحت الطبع بعنوان " سلّة شعر."

مشاركة: