يأخذ هذا الكتاب أهمية خاصة في هذه المرحلة السوداء من تاريخ سورية التي تشهد تدميرًا ممنهجًا من قبل آل الأسد. إذ يلقي الضوء على عقدين من حكم الأسد الأب، أي مرحلة التأسيس ومرحلة مصادرة الدولة السورية والاستحواذ على المجتمع السوري وبناء الآلة القمعية لإخضاع المجتمع مرة واحدة وإلى “الأبد”.
تسهم هذه الدراسة في فهم آلية عمل النظام وأساليبه، للإمساك بمفاصل الحياة جميعها والتلاعب بها، وتسخيرها لخدمة حفنة من النخبة الحاكمة التي باعت ضميرها وأخلاقها، وبرعت في الكذب والفساد والتملق والمدح والتمجيد وتخليق آلهة ممسوخة تعبدها، وتفرض على الشعب السوري أن يعبدها أيضًا.
أسس حافظ الأسد لدكتاتورية غير مسبوقة، بعنفها ووحشيتها وانفلاتها من قيم العالم المعاصر كلها. مارس النهب والسطو المنظم على مقدرات السوريين وثرواتهم، وعمل على إفقارهم لتتضخم حسابات عائلته وأزلامه في المصارف الدولية، على حساب المقومات الأساسية للحياة: من صحة وتعليم وخدمات تليق بالبشر.
لا بد من الإشارة إلى أن كل فعل سابقيه، على الرغم من معتقداتهم، ومن قسوتهم ومن تخبطهم، تركز للحد من نظام القبيلة والتبعية، لكي يتحول كل فرد إلى مواطن حديث في دولة مواطنة. لكي يثبّت سلطته جيدًا، لم يجد الأسد أفضل من إحياء مبدأ استعماري: فرق تسد، أعاد الناس إلى الوراء إلى ما قبل مفهوم المواطنة والوطنية. منذ أربعين سنة كانت الغالبية الساحقة من السوريين تطالب باعتزاز بعروبتها؛ في عهد الأسد، كل واحد يتمترس خلف طائفته الأصلية، ولا يتحدث الناس سوى عن المسيحيين والدروز والشيعة والسنة والعلويين واليهود. كانت إسرائيل التي لها بكل وضوح مصلحة برؤية انبثاق دويلات طائفية عدة في المنطقة، تنظر بارتياح إلى مصادرة الدولة السورية لمصلحة آل الأسد، واستعمال الطائفة العلوية في هذا المشروع، وإضعاف الدولة اللبنانية وإذلالها، والتلاعب بتعميق الانقسامات بين الطوائف وداخل كل منها. هذا ما أوصل النظام السوري إلى النتيجة نفسها التي تنتظرها إسرائيل. وشكل برميل البارود الذي أدى إلى انفجار الثورة السورية منذ حوالى سبع سنوات.
لم يتمكن النظام إدراك الحالة الكارثية التي تحيط اليوم بالمجتمع المدني السوري الذي أفرغه من مقومات الحياة كلها، وحوله إلى مجتمع بوليسي بامتياز. ولم يكن في جعبته إلا العصا الغليظة في مواجهة المطالب الشعبية، المطالب بالانفتاح وإلغاء قانون الطوارئ واحترام الحريات العامة.
تنبأ مؤلف الكتاب بالمستقبل الكارثي لخليفة الأسد، إذ يثبت نظام الأسرة الأسدية اليوم أيضا أن ما يهمه هو البقاء في السلطة. عندما فشل في اخضاع السوريين، بالرغم من استخدامه كل ما لديه من قوة، وضع البلاد تحت الوصاية الاستعمارية الأجنبية، واستقدم الروسيين والإيرانيين وأذرعهم الطائفية، لاستكمال التدمير المنهجي لسورية، ودفع بأهلها إلى التهجير، تحت تهديد القصف المدمر لكل معالم الحياة، وحصار المدن والأحياء المكتظة بالسكان وحرمانها أسباب الحياة كلها.
يتحدث المؤلف عن الطائفة العلوية وتاريخ تطورها وتهميشها ووضعها عبر التاريخ. ويتناول جانب العصبية العشائرية التي استند اليها الأسد في بناء نظامه الأمني. ثم يتناول علاقة العلويين بحزب البعث وعلاقة العشائر العلوية بالسلطة حيث تتضح هيمنة عشيرة المتاوره العشيرة التي ينتمي إليها حافظ الأسد. ثم يتناول مراحل حياة حافظ الأسد وأوضاع التخلص من منافسيه جميعهم ومن زرع أنصاره وأقربائه في أجهزة الأمن والجيش ليستكمل الهيمنة الكاملة على السلطة في عام 1970، انقلب على رفاق الأمس، ووضعهم في السجون ليصبح رجل سوريا الأقوى.
عند تلخيص الوحشية الاستثنائية المروعة للنظام، ومستوى الفساد الذي تجاوز أحيانًا حدود الفهم، لم تر وسائل الإعلام الغربية حيث شجعها موقف القادة الأميركيين أو الأوروبيين، في الجنرال أسد إلا ما يناسبها: فهو يمثل الاستقرار في منطقة تغلي غالبًا، حيث كان شريكًا مقبولًا لأميركا القوية منذ عام 1970 – وافق على قرارات مجلس الأمن 242 و 338 (وهذا لا يقبل بسهولة في سورية)، ثم وقّع اتفاق فصل القوات في عام 1974 مع إسرائيل برعاية كيسينجر، ودخل إلى لبنان في عام 1976 بضوء أخصر من واشنطن، وعاد إلى بيروت عام 1987 ثم أزاح الجنرال ميشيل عون بمباركة أميركية أيضًا.
وبانضمامه إلى التحالف ضد العراق بدءًا من آب 1990 – حافظ الأسد يستحق الكثير من الغرب. ثم، في ما يتعلق بلبنان، بعد كثير من الكوارث -وهنا أيضًا الكثير من الضحايا الأبرياء- انتهى به الأمر إلى تركيع اللبنانيين جميعهم، وفرض “السلم السوري”. أخيرًا، باختياره، منذ بداية اجتياح الكويت، وقف ضد السياسة الانتحارية لصدام حسين بدعمه الغربيين، دعمًا خفيًّا لكنه فعال. في الواقع، فهم الأسد على الفور بأنه إذا لم ينضم إلى التحالف، سيفقد إلى الأبد ثقة الولايات المتحدة والأوروبيين. وهو يعلم جيدًا، بأنه حتى إذا بقي على
الحياد، فالسوريون لن يصفقوا له كذلك. حسم خياراته على وجه السرعة. ذلك كله يبين الأهمية الوظيفية لنظام الأسد في المنطقة بالنسبة إلى الغرب.
في الواقع، القطيعة حدثت في عام 1976 بعد دخول القوات السورية إلى لبنان. لم يفهم السوريون أن جيشهم يمكنه الذهاب لإنقاذ اليمين المسيحي ومقاتلة المقاومة الفلسطينية. والقمع ضد الإخوان المسلمين ومذبحة حماة في 1982 انتهت إلى نزع ما لديه من شعبية، كي لا نقول شرعية.
بعد سيطرته على السلطة، لم يعرف الأسد استثمار حالة التسامح التي أفاد منها، بعدم استجابته لما يريده الشعب، وكذلك كانت حالة الطوارئ قائمة عندما أخذ السلطة، وما زالت دومًا معمولًا بها على الرغم من أنه في كل سنة يطلب منه كثير من الشخصيات رفعها.
لكن الأسد أيضًا فهم أنه كان قد وصل إلى السلطة وبقي فيها دائمًا، ليس بسبب شعبيته، ولكن بفضل الجيش. هذا الأخير كان باستمرار مدللًا من النظام الذي لا يمكنه أن يسمح لنفسه بحمل مشروع مدني لأنه يخشى أن يفقد الامتيازات العسكرية. وهذا أيضًا أحد أسباب عناد الأسد لتثبيت نوع من الاقتصاد المشترك على حساب القطاع الخاص. على الرغم من أن السوريين كانوا تقليديًّا تجارًا ممتازين، وأن البلاد تزدهر في فضاء من حرية التبادل، رفض الأسد دائمًا السماح بتأسيس قدرات اقتصادية مستقلة وقوية. في سورية رجال الأعمال الذين نجحوا عملوا تقريبًا دومًا منذ عشرين سنة مع شريك عسكري، ورأينا النتائج في مستوى الفساد.
أبرز المؤلف في معرض حديثه عن الخصائص الشخصية للأسد عقليته التآمرية، وتعامله الوحشي مع معارضيه، وتصفيتهم جسديًّا. ليس لديه اهتمامات ثقافية خاصة، وليس لديه تفضيل للشعر أو للموسيقى، ولا يتقن اللغات الأجنبية. ثم يتناول طبيعة النظام الدكتاتوري الذي يقوم على عبادة الفرد، يضع صوره في كل مكان، ويتصدر الصحف ونشرات الأخبار ليقول للسوريين لا يوجد إلا سيد واحد إلى الأبد. وألغى أي شكل للتمثيل الشعبي، وتغاضى عن الفساد المروع من حوله، ولم يعرف الامساك بالمحيطين به. لقد بنى سلطة بلا منازع في ظل قانون الطوارئ ودستور 1973 الذي يعطيه صلاحيات مطلقة، وجعل من مؤيديه وجوهًا بلا سلطة وبلا وزن.
كثير من المحللين الغربيين يستمرون في التأثر والانبهار بشخصية الرئيس، لأنهم لم يعيشوا من الداخل القسوة التي لا تطاق للنظام السوري. ينسون مرة جديدة أيضًا، بقصد أم لا، بأن الحكم يكون أكثر سهولة، عندما يسمح الحاكم لنفسه بإغراق أي طيف للمعارضة بالدم. لكن مع امتلاكه وسائل الردع الممكنة جميعها، حاول الأسد محاولات عدة تخفيف حدة الفساد المعمم لتهدئة الشعب السوري الذي بدأ الحراك. هذه “النوايا الحسنة” اصطدمت دومًا بشراسة نظام الفساد وعناده، فساد تأسس بمهارة وتجذر من قبل المحيطين بالأسد.
الدخول إلى لبنان
يتناول الكتاب أوضاع المنطقة بعد حرب 1973 وخروج مصر من حلبة الصراع وخشية الأسد، بعد تحالف اليسار اللبناني مع الثورة الفلسطينية؛ من رؤية قوة تكبر وتتطور يمكنها أن ترفض نفوذه. فانتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على لبنان، وتحقيق الحلم في موقع سياسي إقليمي كبير يكون هو مؤسسه. وتعرض لأهم الأحداث التي عصفت بلبنان منذ 1976 وحتى عام 1991 خصوصًا الغزو الاسرائيلي وحصار بيروت وطرد المقاومة الفلسطينية من لبنان.
سورية البلد الشقيق، لم تفعل أفضل من إسرائيل التي اجتاحت لبنان وقصفته مرات عدة. جاء الأسد، “لضمان التفاهم بين اللبنانيين”، في الحقيقة، أمضى الوقت في تعميق الانقسام بين الطوائف وفي داخل الطوائف ذاتها. في الوقت الذي يقوم جيشه بنهب البلاد وفرض الإتاوات على اللبنانيين، وتضاعف أجهزته الاستخباراتية العمليات الإرهابية وتصفية المعارضين.
حزب البعث
من البعث، لم يبق لدى النظام سوى الاسم. منذ زمن طويل لا يدخل أحد إلى الحزب بسبب من قناعة بل لأن ورقة عضو الحزب تفتح أمامه الأبواب جميعها. بعد أن قسم الفلاحين والعمال إلى شرائح منتظمة ومعلبة جيدًا، منذ عام 1978 بدأ النظام بالهجوم على المثقفين والجامعيين والمهن الحرة. في شباط 1978 تم تأسيس الحرس الجامعي بصورة رسمية، حيث الهدف المعلن هو ضبط الأمن داخل الجامعات. للمرة الأولى في تاريخ البلاد، انتهكت حرمة الجامعات حيث يوجد الجيش بصورة رسمية في كل مكان داخل الجامعات.
في الواقع يمارس القهر في كل مكان، في ظل تطور جامح للآلة البيرقراطية وللتنظير الأيديولوجي. فشل البعث في أن يكون صلة وصل مع الناس وبنى أيديولوجيته على الطريقة الستالينية، واستورد نماذج من أوروبا الشرقية، فلا تفيد الأيديولوجيا إلا لإخفاء إرادة البقاء في السلطة مهما حصل. واجه الأسد الحراك الشعبي بوحشية غير مسبوقة، وارتكب كثيرًا من المجازر، واستخدم مزيجًا من الإرهاب والأبوية والتسلطية الجافة.
في بداية الثمانينيات، وبعد تنفيذها لإضراب، حُلّت نقابات الأطباء والمحامين والمهندسين واستبدلت بها نقابات خاضعة خضوعًا تامًا للنظام. وبذلك يكون تأطير المجتمع السوري قد وصل إلى نهايته، لأنه في الوقت نفسه أخضعت المساجد، آخر فضاء للحرية، بعد تسمية الشيوخ المخلصين للنظام. في هذا الوقت عشرات الآلاف من الأشخاص قتلوا في حلب، وفي حماة وفي تدمر أو في أمكنة أخرى. المعتقلون السياسيون وصل عددهم إلى الآلاف. “في منطقتي الأصلية في حوران، لا توجد قرية، مسلمة أو مسيحية، إلا ولديها واحد أو اثنان أو
خمسة أو عشرة معتقلين سياسيين”، يؤكد أستاذ مسيحي في جامعة دمشق الذي يدين البناء الحديث لسجن كبير جدا على مخرج دمشق على طريق حلب. ما هو صحيح في حوران هو صحيح أيضًا في جبل الدروز، وفي جبال العلويين وفي الغاب ومنطقة الفرات وبكل تأكيد في المدن الكبيرة جميعها.
في معرض تناوله العلاقات بين سورية ومحيطها العربي الإسلامي، يرى المؤلف إن النظام استفاد من بلدان النفط، وتلقى مساعدات بمليارات الدولارات وتمكن إقامة علاقات ودية مع تركيا. في حين اتسمت العلاقات بالعراق بالتناحر والتنافس والعدائية والوقوف إلى جانب إيران في أثناء الحرب بينهما، وتعمقت علاقات البلدين حتى وصلت إلى درجة التحالف، مع استمرار القطيعة العميقة مع العراق ومع مصر.
في لحظة انتهاء المواجهة العراقية-الإيرانية، وجدت سورية نفسها في عزلة كبيرة في الساحة العربية. بالنسبة إلى حافظ الأسد، لا يمكن أن يحدث أفضل من الاجتياح المفاجئ للكويت من قبل العراق للخروج من هذه العزلة.
يبقى حافظ الأسد لغزًا. مثله مثل كبار المتآمرين، ولم يكن أحد يتوقع، مما كان يسميه الطلبة في السبعينيات “البسطار” أن يستمر في السلطة هذا الوقت كله. نظام لا يقبل أي شكل من أشكال المعارضة، الحرية الوحيدة التي بقيت للفرد هي أن يسرق هذه الدولة الفاسدة، ليشكل ثروة شخصية.
في مقابل قدرة الآلة العسكرية ووسائلها القمعية الهائلة، الحديث عن إنجازات النظام لا معنى له. أية مصداقية لنظام لا يتحمل أي اعتراض أو انتقاد، ويضع في زنازينه آلاف المعتقلين سنوات طويلة من دون محاكمة.
يختتم المؤلف كتابه بهذه الفقرة التي تنبئ بما سيحدث: لا أحد يمكنه القول ماذا سيحل بالنظام السوري إذا توجب اختفاء الرئيس، لكن يجب التأكيد أن رئيس الدولة السوري سحق كل شكل لإمكانية المعارضة لدى الناس من مجايليه أو أكبر سنًا منه. هؤلاء الباقون يشكلون أحد أقبح المستنقعات في الشرق الأوسط. إذا تمكن واحد منهم أو حتى ابنه ابن المدرسة القاسية فرض نفسه، حينئذ، حقًا، من الممكن أن يندم السوريون على حافظ الأسد