نظرًا إلى القمع الوحشي الذي لحق بالناشطين الإسلاميين العلمانيين، حدث أن احتل رجال الدين السُّنّة مكانة مهيمنة على الساحة الدينية في سورية. وكان بعض من رجال الدين هؤلاء (العلماء)، ومن خلال دعمهم الفعال للنظام، قادرين على احتكار الوصول إلى المؤسسات الرسمية ووسائل الإعلام، على غرار المفتي أحمد كفتارو والعلامة كُردي المولد سعيد رمضان البوطي. وفي سعيه إلى الحصول على الشرعية، اضطُرّ نظام الرئيس بشار الأسد البعثي إلى توسيع قاعدة دعمه من خلال إفساح الحرية بشكل أوسع للاتجاهات الدينية المعادية، لكن الشعبية. وبالاعتماد على سنتين من العمل الميداني بين الأوساط الإسلامية السورية1، تهدف هذه المقالة إلى ملامسة موضوع «الإسلام الرسمي» وتسليط الضوء على اللاعبين الأقل شهرة، والذين من المرجح أن يزداد دورهم في المستقبل.
ويقتصر نطاق هذه المقالة على أشخاص عادة ما يعتبرون علماء. ففي سورية المعاصرة، يعتبر تعريف هذه الفئة فضفاضًا، إذ إنه لا يفترض التعيين الرسمي ولا التخرج في إحدى الجامعات الإسلامية. بل على العكس، فإن البنية الاجتماعية لهذه المنزلة هي عملية معقدة تنطوي على معايير دينية رسمية وغير رسمية، وتوجه مهني، إبراز للذات وخلفية عائلية. وبناء على ذلك فإنها تتداخل أحيانًا مع مجموعة الناشطين والمثقفين الإسلاميين العلمانيين الذين لم يتم تضمينهم في الدراسة الحالية.
وفي غياب ميدان عام موحد، ينقسم علماء سورية إلى عدد من المشاهد المحلية المترابطة بشكلٍ هامشي. ولا تزال الهويات الإقليمية قوية جدًا، كما يتضح من العداء الذي يُضرب به المثل بين دمشق وحلب، والذي لا يزال الشعور به موجودًا بعمق في العلاقات بين النخب الدينية للمدينتين. ولم يكن اختيار التركيز هنا على أكبر مركزين مدينيين في البلاد نتيجة لاعتبارات عملية فحسب، بل أيضًا نتيجة لحقيقة أن الرقابة المشدَّدة للأجهزة الأمنية في المدن والبلدات الأصغر، بما فيها حمص وحماه، تقيِّد كل من دينامية رجال الدين وإمكانات البحث الميداني.
شبكات غير رسمية
معظم العلماء السوريين يلتزمون نسخة الإسلام الصوفي الموجهة نحو النص2، لأن قمع الدولة ساعد هذا الاتجاه على تهميش منافسه السلفي الأكثر تطرفًا. والسادن (الحارس) الرئيس لهذا المعتقد هو محمد سعيد رمضان البوطي3، والذي يعد أيضًا كبير الوسطاء بين النظام ورجال الدين السُّنّة. ونتيجة لذلك، كان أن احتل منزلة «بابوية» من نوع ما. وهذه المنزلة الأخيرة تعني ضمنًا أنه لا يُحسب على أي شبكة خاصة، ما يجعله مختلفًا عن الأغلبية العظمى من رجال الدين السُّنة في البلاد، والذين ينتمون عادة إلى الطرق الصوفية والجماعات الأكثر تأثيرًا المعروفة باسم «الجمعيات أو الجماعات».
الجمعيات والطرق الصوفية
في النصف الثاني من القرن العشرين، كان علماء سورية السُّنيون ينتمون بشكلٍ أساس إلى إحدى الطريقتين الشاذلية والنقشبندية4. وكثيرًا ما يطلق على الجماعة الأولى اسم الهاشمية نسبة إلى محمد الهاشمي (توفي عام 1961)، وهو شيخ جزائري نشر الطريقة في جميع أنحاء البلاد5. وبفضل الكاريزما التي تمتع بها الأخير، وفضلاً عن التوجه النخبوي الواضح للشاذلية، أصبحت هذه الطريقة الصوفية مفضلة بين العلماء المحليين والطبقة الوسطى المدينية. وفي العاصمة كان خليفتا الهاشمي المعاصران البارزان هما هشام البرهاني، وهو فقيه حنفي معروف عاش في المنفى في دولة الإمارات العربية المتحدة حتى عام 1995، وكذلك عبد الرحمن الشاغوري (توفي عام 2004).
وكان الشاغوري أكثر شيوخ الشاذلية هيبة في عصره، وقد أقرَّ العديد من العلماء الدمشقيين بأنه معلم روحي. وكان ممثلوه يوجدون حتى في حلب، وأبرزهم محمد الحسيني، نجم صاعد في الساحة الدينية المحلية؛ أي أنه على الجانب الأخر من الانقسام الحاد عمومًا بين الشمال والجنوب. وفي وسط وشمال سورية، كان ممثل الهاشمي هو عبد القادر عيسى (توفي عام 1991)، الذي نُفي خلال انتفاضة أواخر السبعينيات. وما زال خليفته أحمد فتح الله جامي يعيش في تركيا، غير أن العديد من مريديه وتلامذته هم من علماء السُّنة البارزين في حلب (نديم الشهابي، بكري الحياني) وفي حمص (سعيد الكحيل، إمام الجامع الكبير في المدينة [جامع خالد بن الوليد]، وعدنان السقا الذي أصبح الشخصية الأبرز بين رجال الدين في المدينة بعد عودته من المنفى في عام 2000).
وقد حافظت الفروع السورية لجماعة الطريقة الشاذلية دائمًا على هياكل «تقليدية»، وهي شبكات لا مركزية تنقسم بشكلٍ محتوم تقريبًا بين البارزين من تلامذة الشيخ بعد وفاته. وبالمقابل، وبإضافة معنى المهمة الاجتماعية إلى انتقال المعرفة الدينية، تمكَّن العديد من العلماء – معظمهم من أتباع النقشبندية – من خلق حركات أكثر تماسكًا عُرفت باسم الجماعات. وقد ظهرت هذه الأخيرة في منتصف القرن العشرين في سياق ما سمي بأثر رجعي «صحوة الشيوخ»، وهي ردّة فعل، متمسكة بالتقاليد، على انتشار الأفكار العلمانية. وفي دعوة إلى «إعادة المجتمع إلى مسار الإسلام» ركّز بعض من هؤلاء الشيوخ على إنشاء مدارس رسمية لتعليم النخبة الدينية المستقبلية؛ ومن بين هؤلاء الشيوخ حسن حبنكة (توفي عام 1978)، وصالح الفرفور (توفي عام 1986)، في دمشق، فضلاً عن عبدالله سراج الدين (توفي عام 2004) في
حلب. ولكل من هؤلاء العلماء انتماءاتهم الصوفية، وسلطتهم تعتمد على الروابط الروحية الرأسية أكثر من الهياكل الوظيفية التي أقاموها. واشتهر اثنان من أقرانهم، أحمد كفتارو (توفي عام 2004) في دمشق، ومحمد نبهان (توفي عام 1974) في حلب، باعتبارهما أقاما مؤسسات تعليمية ناجحة، وبوصفهما رئيسيّ جماعات الطرق النقشبندية الكبيرة التي امتدت إلى بيروت (تحت إشراف رجب ديب تلميذ كفتارو)6، وإلى محافظة الأنبار العراقية.
أما قيادات الجماعات الأخرى فقد اعتمدت بشكلٍ حصريٍّ أكثر على النموذج التنظيمي المستوحى من الصوفية، ولم يقوموا بتطوير أي هياكل رسمية. وبدلاً من ذلك أسندوا عملهم بشكلٍ كليٍّ إلى الروابط الروحية، والحلقات غير الرسمية والدروس اليومية في المسجد. ولم يكن هدفهم تدريب متخصصين دينيين، وإنما تثقيف العلمانيين من الناس لتحويلهم إلى نماذج للتقوى. وأكبر هذه الجماعات كان يقودها اثنان من الشيوخ ذوي الانتماء النقشبدي، عبد الكريم الرفاعي (توفي عام 1973) في دمشق (جماعة زيد)، وأحمد بيانوني (توفي عام 1975) في حلب (جماعة أبي ذر)7، وقد جذب كلا الجماعتين مئات من الشباب من الطبقة الوسطى المتعلمة.
وتطورت المواقف السياسية للجماعات بطرق مختلفة جدًا. فالجماعات التي أسسها كفتارو، والفرفور، وسراج الدين والنبهان حافظت على علاقات جيدة – أو على الأقل مرضية – مع السلطات، وكانت النتيجة أنها بقيت حتى تاريخه المزود الخاص الرئيس للتعليم الإسلامي الرسمي في البلاد. ومع ذلك، وفي حين تم تعيين كفتارو في منصب مفتي الجمهورية في عام 1964، أصبح منافسه حبنكة (سميت جماعته بجماعة الميدان على اسم الحي الذي يشكل معقل الجماعة) رأس الحربة في المعارضة الدينية ضد حزب البعث. وقد سُجن مدة وجيزة، وأُغلق معهد التوجيه الإسلامي الخاص به. وأما بالنسبة إلى جماعتي زيد وأبي ذر، فقد انجرتا وراء انتفاضة 1979-1982 الإسلاموية، بعدما استسلم أتباعها من الشباب لدعوات الجماعات المتشدِّدة. وقد أُبيدت جماعة أبي ذر، والقليل الذي تبقى منها أصبح بقيادة أحمد البيانوني نجل أبي الفتح، وهو أكاديمي بارز في المملكة العربية السعودية، سُمح له بالعودة والاستقرار في حلب في عام 2006، وسرعان ما استعاد وضعه السابق بوصفه عضوًا مميزًا في النخبة الدينية المحلية.
وأما بالنسبة إلى جماعة زيد، فقد عانت بشدة من القمع الذي مارسته الدولة خلال فترة الثمانينيات، واضطُرّ قياداتها إلى اللجوء إلى جدة. وكان بقاؤها بفضل شيوخ الصف الثاني من كبار السن الذين سُمح لهم بالبقاء في سورية. ولتخفيف استياء القاعدة الشعبية الواسعة لجماعة زيد، والتي تشمل جزءًا مهمًا من تجار الطبقة الوسطى في دمشق، سُمح لأبناء الرفاعي أسامة وسارية بالعودة في منتصف التسعينيات وتدريجًا أُعيد بناء الحركة. وبعد التوريث الرئاسي في عام 2000، اتجه النظام «الجديد» إليهم لتحسين شرعيته المتداعية، وسُمح لجماعة زيد بالتوسع في أنشطتها الخيرية. ومع عشرين إلى ثلاثين مسجدًا، وشيوخ ذوي شعبية واسعة جذبوا آلاف الأشخاص إلى حلقاتهم الأسبوعية، وعلى الأخص إخوة الرفاعي ونعيم العرقسوسي، أصبحت جماعة زيد إلى حدٍّ بعيدٍ التيار الديني الأكثر شعبية في دمشق اليوم.
سياسة المسجد
نظرًا إلى افتقار الدولة للموارد الاقتصادية والرمزية، بقيت عملية بقرطة (أي إضفاء الطابع البيروقراطي) رجال الدين السوريين جنينية. وبطبيعة الحال، فإن القوة الاقتصادية والسياسية لوزارة الأوقاف كبيرة، فهي تمتلك ممتلكات ضخمة ومسؤولة عن تعيين – وفصل – موظفي المسجد8. وفي الوقت نفسه، فإن عزلتها النسبية عن النخبة الدينية الفعلية تحدُّ كثيرًا من قدرتها على تنصيب رجال دين ذوي صدقية برعاية الدولة. وفي الحقيقة، لم يحاول النظام البعثي أبدًا أن ينتج علماء دين بوسمه الخاص: فلا يوجد في سورية مؤسسات كالأزهر في القاهرة، والكلية الوحيدة المملوكة للدولة للدراسات الإسلامية العليا هي كلية الشريعة في جامعة دمشق، والتي لم تكن أبدًا، كما سيتضح أدناه، حاضنة ملائمة لبيروقراطية إسلامية. ولا يزال معظم العلماء السوريين يظهرون نتيجة عمليات معقدة وغير رسمية من الاعتراف الاجتماعي التي تجري داخل «البنية التحتية» للمشهد الديني، وليس بتعيينات إدارية.
ونتيجة لذلك، كانت إستراتيجية النظام المفضلة لإدارة النخبة السُّنية هي استقطاب الشخصيات البارزة التي تمتلك قاعدة اجتماعية حقيقية، بدلاً من مجرد تصنيع «شيوخ بعثيين» من الفراغ. وأفضل مثال على هذه السياسة هو التحالف الذي دام عقدًا من الزمن، بين السلطات والشيخ أحمد كفتارو الذي سبقت شعبيته – واستمرت بعد – تعيينه المفروض من جانب النظام بمنصب المفتي عام 1964. وتمثل الشراكة غير الرسمية مع محمد سعيد رمضان البوطي مثالاً آخر جيدًا، فقد تمكَّن هذا الأخير من تحقيق التوازن بين دعمه الصريح للأسدين، والحفاظ على صدقيته بين الأوساط الدينية المحلية. وحتى رجال الدين الموالين للنظام، المعزولين حاليًا، مثل عضو البرلمان الإسلامي محمد الحبش، يتحدَّرون من جماعاتٍ أكبر، وقد حققوا شعبية كبيرة قبل أن «يحرقوا أجنحتهم» بالاقتراب كثيرًا من الدولة.
ولم تأتِ هذه الإستراتيجية سوى بنتائج محدودة، إذ إنه حتى شبكة كفتارو الكبيرة لم تتمكن أبدًا من ترسيخ نفسها بقوة خارج معقلها التاريخي في شمالي دمشق. وعليه، كان على النظام الاعتماد على الفاعلين الدينيين الذين يمكن تسميتهم بالمهادنين أكثر من المؤيدين المتحمسين، مثل جماعتي الفرفور في دمشق والنبهان في حلب، اللتين شغل شيوخهما جزءًا من الفراغ الناجم عن قمع انتفاضة الثمانينيات. ولعل الاتجاه الأول هو الأكثر انتشارًا في ضواحي العاصمة، بينما قام الاتجاه الثاني بتدريب أكثر الدعاة شهرة اليوم في حلب، وهم: محمد الحوت، وعبد الهادي بدلة، ونبيه سالم. وفي دمشق، حتى الجماعات المتمردة، مثل جماعتي زيد والميدان، لم يكن لهما من تأسيس خارج إقطاعياتهما التقليدية مطلقًا.
ولفهم عدم قدرة النظام على «تصميم» المشهد الديني وفقًا لمصالحه الخاصة، فإنه من الضروري التأكيد على حقيقة أن سلطة الإدارة المركزية في تعيين هيئة أساتذة المسجد محدودة؛ فليس للحكومة من مرشحين خاصين بها لشغل المناصب، وهي تقدم المرتبات الاسمية فحسب، في حين يمكن للشبكات الدينية القائمة تقديم رجال دين مدربين وموارد اقتصادية ضخمة. وبفضل رأسمالها الاجتماعي وحوافزها المالية، كانت رابطة التجار والعلماء تمارس ضغطًا كبيرًا على الإدارة والأجهزة الأمنية على حد سواء.
المؤسسات الرسمية
في عُقب تحرير السياسة الدينية المحدود الذي بدأه النظام في أوائل الألفية الثالثة، أصبحت المؤسسات التعليمية، الجمعيات الخيرية ووسائل الإعلام، تمثل وبشكلٍ متزايدٍ الاتجاهات المختلفة التي يمكن إيجادها على الساحة الإسلامية في سورية. وتنطوي هذه العملية اليوم على هياكل إدارية وسياسية أيضًا.
المدارس الرسمية
يتمثل التعليم الإسلامي الرسمي بشكلٍ أساس بمعاهد الشريعة الثانوية. وفي المدن الكبرى، كان إنشاء هذه المدارس يعود إلى ما قبل عام 1963، وكانت تخضع لسيطرة الجماعات والعائلات التي رسَّخت دعامة في الساحة الدينية في منتصف القرن الماضي: في دمشق، الأنصار (كتفارو)، الفتح (الفرفور)، الفرقان (زيد)، الغراء (الدقر) والتهذيب والتعليم (الخطيب)9؛ وفي حلب، وإلى جانب مدرسة الخسروية التابعة للحكومة، كانت المدرستان الرئيستان هما الكلتاوية للنبهان (والتي يرأسها اليوم الداعية الشعبي محمد الحوت)، والشعبانية لسراج الدين (بإدارة نور الدين عتر، صهر سراج الدين وعلامة بارز في دراسة الحديث وعلومه).
وفي السنوات القليلة الماضية، أدى انفراج العلاقات بين النظام والنخبة الدينية إلى افتتاح معاهد جديدة للشريعة في دمشق بمعدل لم يُشهد منذ ثورة آذار/مارس عام 1963. ولتسوية الخلافات مع تلامذة حسن حبنكة ذوي الشعبية لكن المريبين، بدأت السلطات بطرح احتمالية السماح بإعادة فتح معهد التوجيه الإسلامي لحبنكة الذي أغلق في أواخر الستينيات. ويرى بعض المراقبين المحليين خطوة مُنسقة في تعيين حسن، نجل مصطفى البغا، رئيسًا لكلية الشريعة في جامعة دمشق. إذ نال مصطفى البغا، وهو أبرز تلامذة حبنكة الذين لا يزالون على قيد الحياة، شرف زيارة الرئيس بشار الأسد له مرتين، وهو شرف في النادر جدًا ما يناله علامة سُنِّي. ويحتل البغا اليوم وبشكل روتيني مواقع المستويات العليا في الاحتفالات الدينية الرسمية.
وكذلك تدير الجماعات التقليدية المعهدين السوريين الخاصين الوحيدين للدراسات الإسلامية – مجمع الشيخ أحمد كفتارو (الذي كان يعرف سابقًا بمجمع أبي النور، ويرأسه اليوم صلاح الدين نجل كفتارو)، ومعهد الفتح (بإدارة حسام نجل صالح الفرفور) – واللذان سمح لهما بفتح قسمٍ أكاديميٍّ في عام 1991.
أما بالنسبة إلى كلية الشريعة في جامعة دمشق، فإنها لم تشكل يومًا وسيلة موثوقة لتدريب نخبة دينية موالية للدولة. وبذلك تكون مُنتِجًا هامشيًا لهيئة أساتذة المسجد، حيث المرتبات الهزيلة لا تجعل هذه المهنة جذابة جدًا بالنسبة إلى المتخرجين في الجامعات. وإلى جانب الوظائف الأكاديمية في سورية والخارج، يختار العديد من المتخرجين العمل في تعليم مادة التربية الدينية في المدارس الثانوية، أو الانخراط في الأعمال التجارية. وللأسباب الاقتصادية نفسها، ينخرط أولئك الذين انتهى بهم الأمر إلى خطباء مساجد، أو معلمين، أو في الأعمال التجارية؛ فالتخرج في الكلية ليس إلا وسيلة لتحسين المؤهلات الأكاديمية، إذ
ليس من الضروري، كما أنه ليس كافيًا، أن تمتلك مؤهلات كهذه للحصول على وظيفة في أحد المساجد. وعادة ما يكون دعم أحد العلماء المعروفين أمرًا ضروريًا كذلك.
والمشكلة التي تطرحها الكلية هي سياسية أيضًا. فعلى الرغم من محاولات البعثنة الفاشلة في الثمانينيات10، اشتملت هذه المؤسسة التي أسسها في عام 1954 الإخوان المسلمون، وباستمرار، على أساتذة معروفين إما باستقلالهم السياسي (مثل مفتي حلب الحالي، إبراهيم السلقيني)، أو بتعاطفهم مع الإخوان المسلمين مثل (وهبة الزحيلي). كما اجتذبت أيضًا علماء ينتمون إلى تيارات متمسكة بالتقاليد قُمعت سابقًا، مثل مصطفى البغا تلميذ حبنكة، وشيخ الشاذلية هشام البرهاني الذي انضم إلى هيئة التدريس مباشرة بعد عودته من المنفى في منتصف التسعينيات. ويَدين بعض هؤلاء العلماء بتعيينهم غير المتوقع، إلى حد ما، لدعم الشيخ البوطي النافذ، الذي درَّس هناك مدة نصف قرن تقريبًا. وعلاوةً على ذلك، تبدو الكلية وكأنها حضانة أو موطن تنشئة فكرية للمثقفين الإسلاميين الإصلاحيين وذوي النزعة السياسية، مثل عماد الدين الرشيد، نائب عميد الكلية الشاب الذي تأثرت آراؤه حول «المسلم الديمقراطي» علانية بتجربة حزب العدالة والتنمية التركي.
الجمعيات الخيرية
جعلت ثورة عام 1963 من تأسيس الجمعيات الخيرية الإسلامية أمرًا في غاية الصعوبة، كما حُظر العديد منها في عُقب انتفاضة 1979-1982. ونتيجة لذلك، فإن معظم الجمعيات الخيرية الإسلامية في سورية تعود إلى حقبة ما قبل البعث، وغالبًا ما تسيطر عليها الجماعات التي برزت خلال تلك الفترة. ولكن منذ التسعينيات، نمت الجمعيات الخيرية في عددها ونطاقها نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية11.
ونظرًا إلى مشكلته الأساس في الشرعية، لم يكن النظام في وضع يسمح له باستدرار تبرعات عفوية من المجتمع. وعلاوةً على ذلك، عادة ما كانت الشبكات الإسلامية ذات العلاقة الودية مع النظام، مثل شبكة كفتارو، تعتمد على قاعدة اجتماعية ضيقة جدًا لتحمّل عبء خصخصة الرعاية بنفسها. ونتيجة لذلك، سمح النظام باستيلاء حركة زيد على القطاع الخيري في دمشق، وذلك بسبب شعبية هذه الأخيرة [الحركة] بين تجار الطبقة الوسطى، وقدرتها على جذب أموالٍ من القطاع الخاص. وبالاعتماد على شبكة من جمعيات الأحياء التي أنشئت في الخمسينيات، أطلقت حركة زيد مشروع حفظ النعمة الذي يعمل على جمع الفائض من الأغذية، والأدوية، والملابس، والأثاث والكتب لمساعدة أكثر من 6000 عائلة. وفي عام 2006، سُمح لرجال الأعمال المرتبطين بحركة زيد بالسيطرة على اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق، والذي ينسق ويمثل الجمعيات الخيرية في المدينة. وكان الاتحاد، منذ عام 1997، قد أنشأ مشاريع ضخمة، مثل صندوق العافية الذي يغطي نفقات العمليات الجراحية، وصندوق المودة والرحمة الذي يقدم إعانات مالية للزواج.
وسائل الإعلام
تعد سورية إحدى أقل الدول العربية ترحيبًا بوسائل الإعلام الإسلامية. وفي الصحافة اليومية الرسمية المملوكة للدولة، العمود الديني الوحيد هو عمود محمد حبش، الذي ينشر كل يوم جمعة في صحيفة الثورة الرسمية. وفي بداية الألفية الثالثة، ظهر حبش بوصفه شخصية بارزة في وسائل الإعلام السورية والعالمية، فضلاً عن السياسة البرلمانية المحلية. وحبش هو صهر كفتارو، الذي أخرج من دائرة الأخير بسبب مواقفه الليبرالية في ما يتعلق بوضع المرأة والعلاقات ما بين الأديان12. ومنذ ذلك الحين، كان إبعاده من النخبة الدينية المتحفظة قد توازى مع تقاربه مع النظام، وبدأ يظهر بشكلٍ متزايدٍ وكأنه موظف حكومة غير رسمي للإعلام العام.
وأما بالنسبة للمجلات الشهرية، فقد كانت مجلة نهج الإسلام التابعة لوزارة الأوقاف هي المجلة الوحيدة التي تم ترخيصها منذ أوائل الثمانينيات. وبدت في البداية سلاحًا ضدّ الإخوان المسلمين، غير أن نهج الإسلام خففت من لهجتها في ما بعد، وأصبحت الآن ترحب وبشكلٍ متزايدٍ بكُتّابٍ من خارج الدائرة الضيقة لرجال الدين المعروفين بموالاتهم للنظام، مثل سارية الرفاعي من حركة زيد. وفي مجال القطاع الخاص، سعى مريدو أحمد كفتارو بجد إلى تجاوز القيود المفروضة على الصحافة الإسلامية، إذ كانوا بين عامي 1996 و2002، يصدرون مجلة صدى الإيمان الشهرية في بيروت، وفي عام 2006، حصلوا على ترخيص لإصدار مجلة عامة باسم «الاجتماعية»، وهي مجلة تُعنى بشكلٍ واسعٍ بالقضايا الدينية. غير أن هذه المجلة حُظرت في العام التالي، بعد أن دعت إحدى افتتاحياتها القرّاء إلى «التبوُّل» على المثقف العلماني الراديكالي نبيل فياض13.
وحتى بداية الألفية الثالثة، كان ظهور العلماء السُّنة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة مقتصرًا على مجموعة صغيرة مختارة من رجال الدين الموالين للنظام مثل البوطي واليد اليمنى لكفتارو، مروان شيخو (توفي عام 2001). وخلال العقد الحالي، كُسر رسميًا احتكار الدولة في هذا المجال، وذلك بفضل البرامج الدينية الشاملة التي تبثها إذاعة القدس التابعة لأحمد جبريل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، والتي تتضمن دروس راتب النابلسي ذات الشعبية الاستثنائية. ويمثل هذا الأخير ظاهرة فريدة من نوعها على الساحة الدينية المحلية، فهو شيخ مستقل، ولا ينتمي إلى أي جماعة؛ أتت شهرته حصرًا من أدائه الإعلامي.
وأما بالنسبة إلى التلفزيون، فكان محمد حبش مسؤولاً عن البث الديني الذي كانت تبثه قناة الشام السورية الأولى الخاصة، والتي لم تدم طويلاً (2006-2007)، والتي تعود إلى رجل الأعمال الإدلبي وعضو مجلس الشعب أكرم الجندي. ومنذ عام 2007، وقناة الرسالة الفضائية التي تبث من الكويت دروس المسجد لعشرات من علماء السُّنة السوريين الذين اختيروا وفقًا لشعبيتهم، مثل زياد أسامة الرفاعي ونعيم عرقسوسي.
رؤساء الإدارة الدينية
تعتبر السلطة الدينية البحت لكبار موظفي الخدمة المدنية الدينية في أحسن أحوالها هامشية. فمن النادر أن يُصدر المفتي والتابعون له ذلك النوع من الفتاوى المعلنة على نطاق واسع الشيوع في مصر. وبدلاً من ذلك، تتوقف معظم أعمال رأس الإسلام السُّنة السوري عند «الدبلوماسية القائمة على الدين» من خلال الرحلات المتواصلة إلى الخارج واستقبال الوفود الأجنبية. وفي غياب أي استقلالية حقيقية، التي من شأنها أن تسمح للشخصيات الدينية الرسمية بالتعبير عن ذواتها في القضايا السياسية والاجتماعية، فإن الأساس المنطقي الوحيد لإصدار الفتاوى هو تلبية رغبات النظام. وقد تجنبت السلطات، باستثناء الحالات التي تكون فيها في أمس الحاجة – خلال انتفاضة 1979-1982 مثلاً – طبع قراراتها في إطار إسلامي معياري قد يكون مُقيِّدًا لها على المدى الطويل.
وتعكس السياسة الحالية في تعيين المناصب الدينية الرسمية كلاً من اعتماد السلطات المستمر على شركائها الأكثر ولاءً، وانفتاحها البطيء المتعمد على أولئك الأكثر بعدًا عنها. ومن الواضح أن خلف كفتارو يتبع الاتجاه الأول: فعندما توفي كفتارو في شهر أيلول/سبتمبر من عام 2004، أُثيرت شائعات حول احتمال استبداله بشخصية دينية دمشقية غير كفتارية بارزة، مثل البوطي أو وهبة الزحيلي. غير أن النظام كان يدخل لتوه في فترة أزمة عميقة داخلية وخارجية، ونتيجة لذلك لم يكن راغبًا بتعزيز مؤسسة العاصمة الدينية، والتي هي بالفعل قوية جدًا. ووجدت الحكومة المسألة حساسة جدًا حتى أنها انتظرت ما يقارب العام لتتجاوز في نهاية المطاف الإجراء القانوني للانتخاب من جانب المجلس الأعلى للإفتاء، لتقوم بدلاً من ذلك بتعيين مفتٍ جديد بمرسوم رئاسي. وكان المستفيد من هذا مفتي حلب الشاب، أحمد حسون، وهو نجل أديب حسون (توفي عام 2008)، ممثل محمد النبهان البارز بوصفه معلمًا للصوفية. وكان أحمد حسون، الشخص الأول غير الدمشقي الذي يشغل المنصب منذ إحداثه في عام 1947، ويشتهر بصفته عضوًا في البرلمان أكثر من مؤهلاته كعلّامة14. وكانت التعيينات في منصب وزير الأوقاف مثالاً واضحًا للحذر نفسه، إذ استُبدل زياد الأيوبي، وهو أحد مريدي كفتارو، بمساعده محمد السيد في عام 200715، وهو مفتي طرطوس السابق ونجل عبد الستار السيد، أحد مؤيدي النظام لمدة طويلة، والذي ترأس الوزارة ذاتها بين عامي 1971 و1980.
ولكن على المستوى المحلي، كانت الصورة أكثر دقة. ففي دمشق، سُلّم الإفتاء الشافعي والحنفي على التوالي لممثلي الاتجاه الكفتاري (بشير الباري، منذ عام 1986)، ومعهد الفتح (عبد الفتاح البزم، منذ عام 1993). ومنذ أوائل عام 2008، ترأس الاتجاه الأخير أيضًا إدارة الأوقاف الدينية في المدينة (أحمد قباني)، لكن لاعبًا جديدًا ظهر من خلال تعيين شيخٍ من شيوخ حركة زيد (زياد الموصلّي) ليكون مدير أوقاف ريف دمشق. وأما بالنسبة إلى الساحة السياسية في حلب، فكان يهيمن عليها حتى وقت قريب أبناء اثنين من مريدي النبهان البارزين، وهما محمد الشامي (توفي عام 1980)، وأديب حسون [والد أحمد حسون المفتي الحالي]. وعند اغتيال الأول من قِبل المتشدِّدين الإسلاميين خلفه في رئاسة الأوقاف نجله صهيب. ثم أُقيل هذا الأخير [صهيب] في عام 2005 بعد أن ترك منافسه اللدود، أحمد حسون، منصبه مفتيًا لحلب ليصبح المفتي العام للجمهورية. واستُبدل الشامي بأحد أعضاء حزب البعث، غير أنها كانت خطوة انفتاحية أن يُعهد بإفتاء المدينة لإبراهيم السلقيني المستقل سياسيًا. ولذلك، فإنه من غير المستغرب
أن يطوَّق ذاك الأخير بمفتٍ ثانٍ أكثر «موثوقية» مجسّدًا بشخص محمود عكام، وهو رجل دين بارز آخر على الساحة الدينية المحلية ما بعد عام 1980. إذ حصل عكام، وهو عضو سابق في جماعة أبي ذر، على درجة الدكتوراه في باريس تحت إشراف محمد أركون. وما إن أصبحت شعبيته كبيرة بين الشباب المتعلم، حتى بدأ يتلقى لومًا متزايدًا بسبب علاقاته الوثيقة مع السلطات واهتمامه بالإسلام الشيعة. وفي عام 2006، عُهدت إليه مسؤولية الإشراف على كلية الشريعة المؤسسة حديثًا في جامعة حلب.
وكانت الخطابة في المسجد الأموي الكبير في دمشق عادة من مسؤولية مريدي كفتارو، فضلاً عن أفراد عائلة الخطيب، التي أُقيل أكثر ممثليها جرأةً، معاذ وشقيقه عبد القادر، في عامي 1995 و2003 على التوالي. وفي أوائل عام 2008، عُيِّن البوطي كبيرًا لخطباء المسجد، ومديرًا للتعليم أو النشاط العلمي. وشكَّل هذا القرار تحولاً مهمًا في العلاقات بين النظام والعلماء الأكراد، إذ كانت المرة الأولى التي يقبل فيها البوطي منصبًا بارزًا في الإدارة الدينية. وسرعان ما ترك البوطي بصمته في المؤسسة من خلال إعادة تنظيم كامل لجدول الدروس الزمني، وتعيين علماء بارزين من جماعات كانت ممنوعة سابقًا من التعليم في أكثر أماكن العبادة هيبة في العاصمة، مثل كريم راجح ومصطفى البغا (الميدان)، وكذلك أسامة الرفاعي ونعيم العرقسوسي (زيد). وفي المقابل، كانت ترقية البوطي على حساب شريك النظام الإسلامي المتمتع بالامتيازات تاريخيًا، إذ لم يُدرج أي من شيوخ الكفتارية في القائمة السابقة لتجديد تفويضه16.
التمثيل السياسي
في نظامٍ استبداديٍّ كالذي في سورية، تبقى النصيحة هي المدخل الرئيس للفاعلين الدينيين إلى السلطات، أي تقديم النصيحة الخاصة للحاكم. إذ قام البوطي بهذا الدور بشكلٍ رئيس منذ أن أعلن دعمه الصريح للنظام خلال انتفاضة 1979-1982. فكان لمساعدة البوطي أهمية حاسمة، بسبب مكانته الشخصية، المتأتية من حقيقة أنه كان من بين الكُتّاب العرب القلائل الذين جمعوا بين المؤهلات العلمية الأزهرية، وسمة الأسلوب الأدبي «الحديث» للأدب الإسلامي المعاصر، بطريقة لا تشوبها شائبة. وبعد عام 1980، ولأن معظم هذا النتاج الأدبي كان ممنوعًا في سورية، كان البوطي الكاتب الرئيس الوحيد للصحوة الإسلامية المعاصرة الذي كانت كتبه متاحة من غير ريب في مكتبات البلاد.
وبعد تصريحه بتأييد النظام علانية، أشاد البوطي مرارًا بالقيادة السورية مقابل تخفيف تدريجي للقيود المفروضة على الناشطين الإسلاميين من غير السياسيين، وإصدار عفو عام عن بعض علماء السُّنة المنفيين. وفي الوقت نفسه، تمكَّن من الحفاظ على صدقيته من خلال رفض أي مكافأة مادية أو منصب رسمي، على الأقل حتى تعيينه في عام 2008 كبيرًا لخطباء المسجد الأموي.
وبقدر ما كانت السياسة الرسمية معنية، دخل العلماء السُّنة إلى مجلس الشعب نوابًا «مستقلين» منذ السنوات الأولى في عهد الأسد. ومنذ عام 1980 وما بعده، اختير كلٍّ منهم بعناية من بين رجال الدين الموالين للنظام، على غرار مروان شيخو تلميذ كفتارو، والمفتي العام الحالي أحمد حسون، وعبد العزيز، شقيق صهيب الشامي (توفي عام 2007)، وزكريا سلواية من اللاذقية.
وكثيرًا ما كانت ائتلافات رجال الأعمال التي تسيطر بشكلٍ ساحقٍ على الحملات الانتخابية للحصول على المقاعد المستقلة تتضمن علماء مسلمين، كما يتضح من القائمتين الفائزتين في دمشق في نيسان/أبريل عام 2007. ففي حين أدرج محمد حمشو، الصديق الحميم للعائلة الحاكمة، عبد السلام راجح عميد كلية الشريعة في مجمع كفتارو، في قائمته، تحالف منافسه هاشم العقّاد مع محمد حبش. وقد تمكنت قائمة حمشو من الحصول على دعم المؤسسة الدينية في المدينة غير أن ذلك، وفي معظم الحالات، لم يكن سوى تعويض عن التبرعات الدينية المعلنة، أكثر من كونه علامة على المشاركة السياسية الحقيقية.
وفي عامي 2004-2005، استغل محمد حبش، وصلاح نجل أحمد كفتارو، ضعف النظام لإطلاق دعوات من أجل الإصلاح الديمقراطي الذي، وفقًا للنمط الشائع من الاستبدادية التحررية، قد يفضل عملاء النظام. ومع ذلك، وبسبب الحذر من السياسات البرلمانية في ظل الحكم البعثي وعدم الثقة بها، كان معظم رجال الدين يرى في إنشاء نقابة للعلماء طريقة أكثر ملائمة لزيادة النفوذ السياسي. وكانت جمعية علماء برئاسة حبش موجودة بالفعل، غير أن هذه المنظمة الخيرية والثقافية كانت تتألف من رجال دين من الصف الثاني، ولا يمكنهم القيام بدور كهذا.
وفي عام 2006، دفع عاملان اثنان بالنظام إلى تصوُّر إمكان إيجاد تمثيل أكثر إقناعًا لرجال الدين: إذ أنه كان يجب مكافأة النخبة الدينية لولائها خلال أزمة عامي 2004-2005، كما أن هناك شعورًا بالحاجة إلى الاستجابة من أجل تأسيس رابطة علماء سورية من جانب مجد مكّي، وهو رجل دين حلبي من المنفيين، وذو علاقات قوية مع الإخوان المسلمين، سوى أن خطابه المعتدل كان يهدف بوضوح إلى جذب علماء الدين المستقرين في سورية. ونتيجة لذلك، تم تأسيس رابطة علماء بلاد الشام في نيسان/أبريل عام 2006، والتي لم يكن مقرها وقيادتها محط استغراب في الواقع (مجمع كفتارو، مع وهبة الزحيلي رئيسًا، والبوطي «عقلاً مدبرًا»). ومع ذلك، كانت المنظمة ممثلة حقًا لجميع الشبكات الإسلامية الكبرى في دمشق17. وبالتالي، كان للرابطة أن تكون لاعبًا مؤثرًا للغاية، لو لم تؤدِّ القيود السياسية والتناحر الداخلي إلى شللها النهائي بعد بضعة أسابيع.
الخاتمة
لم يمتلك النظام السوري يومًا الوسائل الاقتصادية الكافية، ولا الشرعية الدينية، لإعداد أدوات مؤسساتية كانت لتمكِّنه من إنتاج رجال دين سُنَّة متعاطفين مع التوجه الأيديولوجي لحزب البعث. وبناء على ذلك، بقي العلماء خارج جهاز الدولة، ولم يكن لما يشبه «البيروقراطية الإسلامية» الرسمية من ظهور أبدًا. وعلى العكس، فقد تعاملت السلطات مع الشبكات الدينية القائمة، والتي كان رأسمالها الاجتماعي نتيجة آليات بعيدة في معظمها من متناول الدولة. ولذلك، لم يكن من وسيلة للتعبير عن السياسية الدينية الرسمية سوى ما يتعلق بالاختيار: إذ كوفئ الفاعلون المذعنون، وسومح أولئك المحايدون وقُمعت الاتجاهات المعادية. لكن من الصعب الحفاظ على مسار عملٍ كهذا على المدى الطويل، إذ إن الشركاء أنفسهم الذين كان ولاؤهم ذا أهمية حاسمة خلال الانتفاضة الإسلامية في أواخر السبعينيات أصبحوا
يستخدمون صلاتهم مع النظام أكثر فأكثر للتشفع للاعبين الدينيين المقموعين سابقًا. ونتيجة لذلك، كان الدعم الحصري لحفنة من الشخصيات المذعنة قد مهد الطريق تدريجًا أمام سياسة إدماج أكثر تعدّدية.
وكانت قيادة بشار الأسد تمر في مرحلة انتقالية حساسة في علاقاتها مع رجال الدين السُّنّة، عندما بدأت بالتخلي ببطء عن السياق القمعي الذي أعقب الانتفاضة، عائدةً إلى الموقف الأكثر تساهلاً الذي كان سائدًا في السبعينيات. وفي غضون ذلك، كان التحول الثقافي والاجتماعي الجذري قد حوَّل العلماء إلى قوة ذات تأثير أكبر بكثير مما كانت عليه سابقًا. ولم يعد الفاعلون المهمشون سابقًا يرضون بمجرد التساهل، بل طالبوا بدلاً من ذلك بالتطبيع الكامل على أساس الشراكة الحقيقية. ولم يكن ذلك يعني مزيدًا من حرية العمل في مجال التعليم، والأعمال الخيرية ووسائل الإعلام فحسب، بل مدخلًا أوسع إلى المناصب الإدارية والتمثيل السياسي أيضًا. وأدت هذه العملية إلى تحسين استقرار النظام على المدى القصير من خلال توسيع قاعدته الاجتماعية. ولكن في المستقبل، قد تتحول موازنة مطالب رجال الدين السُّنّة، مقابل تحفظات الأجهزة الأمنية علمانية التفكير وذات الهيمنة العلوية، ونخبة الدولة المثقفة، إلى لعبة معقدة أكثر فأكثر.
1- تعتمد هذه المقالة في الأغلب على مقابلات مع مصادر سورية مجهولة الهوية، ما يفسِّر العدد المحدود من المراجع.
2- Itzchak Weismann, «Sufi Fundamentalism between India and the Middle East,» in: Martin van Bruinessen and Julia Howell, eds., Sufism and the ‘Modern› in Islam (London: I. B. Tauris, 2007), pp. 115-128.
3- Andreas Christmann«, Islamic Scholar and Religious Leader: A Portrait of Shaykh. Muhammad Sa’id Ramadan al-Būti,» Islam and Christian-Muslim Relations, vol. 9, no. 2 (1998), pp. 149-169.
4- لإلقاء نظرة عامة من الناحية النظرية على الطرق الصوفية في سورية، انظر: Paulo Pinto, «Sufism and the Political Economy of Morality in Syria,» Interdisciplinary Journal of Middle Eastern Studies, vol. 15 (2006), pp. 103-136.
5- Itzchak Weismann, «The Shadhiliyya-Darqawiyya in the Arab East (19th-20th Century),» in: Eric Geoffroy (ed.), La Shadhiliyya-Une voie soufie dans le monde (Paris: Maisonneuve & Larose, 2004).
6- Annabelle Böttcher, «Official Islam, Transnational Islamic Networks, and Regional Politics: The Case of Syria,» in: Dietrich Jung, ed., The Middle East and Palestine: Global Politics and Regional Conflict (New York: Palgrave, 2004), pp. 125-150, and Leif Stenberg, «Young, Male and Sufi Muslim in the City of Damascus,» in: Jørgen Bæck Simonsen, ed., Youth and Youth Culture in the Contemporary Middle East (Aarhus: Aarhus University Press, 2005), pp. 68-91.
7- البيانوني هو والد مرشد الإخوان المسلمين الحالي صدر الدين البيانوني. وقد خلفه في رئاسة جماعة أبي ذر أحد أبنائه الآخرين، أبو النصر (توفي عام 1987).
8- Annabelle Böttcher, «Le Ministère des Waqfs ,»Maghreb – Machrek, no. 158 (1997), pp. 18-30.
9- والاستثناء المهم هو معهد بدر الدين الحسني الذي تم تنظيمه بشكلٍ أكثر بيروقراطية، وهو منفتح على مختلف الاتجاهات العقائدية.
10- Bernard Botiveau, «La Formation des Oulémas en Syrie: La Faculté de shari’a de l’Université de Damas,» dans: G. Delanoue, ed., Les Intellectuels et le pouvoir: Syrie, Égypte, Tunisie, Algérie (Le Caire: Cedej, 1986), pp. 67-91.
11- Soukaina Boukhaima, «Le Mouvement associatif en Syrie,» dans: Sarah Ben Nefissa, ed., Pouvoirs et associations dans le monde arabe (Paris: CNRS Editions, 2002), pp. 77-94.
12- Paul L. Heck, «Religious Renewal in Syria: The Case of Muahmmad al-Habash,» Islam and Christian-Muslim Relations, vol. 15, no 2. (2004), pp. 185-207.
13- الراية (الدوحة)، 17/10/2004.
14- الإمارات اليوم (أبو ظبي)، 16/4/2005، وأخبار الشرق (لندن)، 17/7/2005.
15- شام برس (دمشق)، 8 كانون الأول/ديسمبر 2007. 16 الثورة، 15/2/2008. 17 الرأي العام (عمّان)، 28/4/2006.