تناول العدد السادس من مجلة (رواق ميسلون) موضوعًا محوريًا وحاضرًا في حياة شعوب المنطقة العربية هو “السلطة والعنف”، فعلى الرغم من كونه موضوعًا مطروحًا بكثافة إلّا أنه اكتسى أهمية إضافية بعد انطلاق الربيع العربي في أواخر عام 2011 بحكم الحضور الكثيف للعنف السلطوي وردّات الفعل العنفية من الجماعات الدينية والمذهبية أو الإثنية أو الأيديولوجية، فضلًا عن دخول العنف الخارجي على خط الصراعات السياسية في بلدان عربية عديدة، سواء أكان عنفًا موجهًا من الدول أو من الجماعات المرتبطة بها مذهبيًا أو قوميًّا.
كانت افتتاحية العدد التي كتبها راتب شعبو بعنوان (سلطات العنف، أو الشرعية المستمدة من العنف)، طرح وناقش فيها عددًا من الأسئلة المهمة المتعلِّقة بالسلطة والعنف: “كيف يمكن لسلطةٍ تأسَّست على العنف أن تؤسِّس لسلطةٍ تقوم على الإرادة العامة؟ أو بالأحرى هل يمكن لسلطةٍ تأسَّست على العنف (أي استلمت مقاليد السلطة بالعنف) أن تتحول إلى سلطةٍ خاضعةٍ للإرادة العامة؟ هل لمن حاز السلطة بالعنف أن يتنازل عنها لمصلحة آليةٍ سلميةٍ لإنتاج السلطة يمكن أن تفضي إلى إقصائه هو نفسه عن السلطة؟ بكلامٍ آخر، كيف يمكن كسر حلقة العنف المتوالدة، وهل يمكن كسرها بالعنف؟”، وانتهى إلى أن “المسار الذي يجب على مجتمعاتنا السير فيه هو مسار قطع العلاقة بين الشرعية والعنف، فلا تبقى القوة وامتلاك وسائل العنف مصدرًا للسلطة وللشرعية. هذا يعني إعادة الاعتبار للجدوى السياسية للأفكار والبرامج والتوجهات ولمدى تمثيلها الشعبي.” لأن أولئك “الذين يغلقون باب السياسة والفكر السياسي” إنما “يفتحون باب العصبيات من كل الأصناف، ويفتحون باب تفتت المجتمع وضياع طاقاته وبؤس أهله.”
وفي باب الدراسات والبحوث، كتب محمد بن الطيب بحثًا بعنوان “السلطة الروحية للتصوّف في مواجهة العنف والتطرّف”، حاول فيه تأكيد دور التصوف في مواجهة أدواء التطرّف، والإبانة عن وجوهٍ من السلطة الروحية للتصوف تؤهّله لمقاومة العنف، وذلك ببيان قيمة التصوف وعظيم منزلته، وأنّه ليس كما يظنّ كثيرٌ من الناس عزوفًا عن الدنيا وفرارًا من أهلها واعتزالًا لشؤونها، وعنوان جهلٍ وتخلّفٍ وخرافةٍ ودَرْوشة.
وقدَّم شوكت غرز الدين دراسة بعنوان “العنف السلطوي والأخلاق”، أكّد فيها أن للعنف السلطوي منطقٌ داخليٌ قابلٌ للوصف. فهو “ممارسةٌ منظمةٌ قوامها وسائل وأهداف وإرادة ونتائج. ولهذا، فإن منطقه الداخلي محكومٌ بالوسائل المُستخدمة أساسًا من جهةٍ أولى، وبالنتائج المتحققة من جهةٍ ثانيةٍ. ومن جهةٍ ثالثةٍ بالممارسين له كالسلطات أو الأنظمة المستبدة أو الدول، أو (الهويات المُتخيّلة) الطائفية والقومية والإسلامية. إلّا أنه متعلقٌ من جهةٍ رابعةٍ بأخلاقيات كلٍّ من تماسك (الهوية المُتخيّلة)، ومركزية (الولاء)، والطاعة العمياء (البيروقراطية). وأما بالنسبة إلى ارتباطه بالغايات والإرادة والنيات والنزعة العدوانية الطبيعية والنفسية، وكأنه مجرد عنفٍ طبيعي، أو مرضٍ نفسي أو جنونٍ، أو غاياتٍ نبيلةٍ تبرِّر لا أخلاقية الوسائل، فهو ارتباطٌ ضعيفٌ.”
فيما كان بحث الزهراء سهيل الطشم بعنوان “السلطة والعنف في الفكر الغربي؛ نماذج من المرحلة المعاصرة: فوكو وبورديو”، تعرّضت فيها إلى مسار التناول الفكري النقدي لموضوعة العنف والسلطة في الفلسفة الغربية المعاصرة، سواء أكانت فلسفةً سياسيةً أم اجتماعيةً. ويتوخّى البحث بصورة رئيسة “إظهار علاقة التلازم والوحدة بين السلطة والعنف عبر التاريخ، وتوضيح صيغ العنف اللامرئية”، بالارتكاز على ما قدّمه كل من ميشيل فوكو وبيير بورديو من أفكار، لأن دراسة أي ظاهرةٍ في سياقاتها التاريخية يساهم في توضيحها وإجلاء الغموض عنها.
أما آندي فليمستروم، فكانت دراستها بعنوان “العوامل التفسيرية لإرهاب الدولة والجماعات والأفراد”، حاولت فيها استكشاف ظاهرة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط بوصفها المنطقة الأقل استقرارًا على مستوى العالم، وبحكم أنها اليوم في صدارة المناطق الموسومة بإنتاج الإرهاب، وفي هذا السياق تناولت عددًا من النقاط الأساسية؛ إيجاد تمييز واضح بين الإرهاب وحركات التحرر الوطني على مستوى العالم، استكشاف العلاقة بين الإرهاب والدين، الحركات اليسارية في العالم وعلاقتها بالإرهاب، الإرهاب الفردي والإرهاب الجماعي وإرهاب الدول، أسباب الإرهاب: الحروب والاستعمار والتفرقة العنصرية، أسباب اقتصادية منتجة للفقر ولاختلال موازين العدالة الاجتماعية، وأسباب سياسية تؤدي إلى غياب الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، وأسباب ثقافية اجتماعية، وأسباب نفسية. ووضعت في نهاية دراستها بعض المقترحات والتوصيات العامة التي تهدف إلى تحديد الكيفية الأمثل لمعالجة ظواهر الإرهاب، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو الدول.
وفي باب مقالات الرأي، كتب سائد شاهين مقالة بعنوان “ما بين الصراع السياسي والعنف السياسي؛ سورية نموذجًا”، ركّز فيها على ضرورة البحث في مفهومَي الصراع السياسي والعنف السياسي، وفك الالتباس الذي يشوبهما في لحظاتٍ محددةٍ، وذلك عندما يدخل الصراع السياسي إلى مرحلةٍ عنيفةٍ، وتعجز أطراف العملية السياسية ونخبها عن الوصول إلى تسوياتٍ للمشكلات المطروحة، أو عندما تنقلب سلطةٌ على الوضعية الدستورية والقانونية القائمة التي تنظم علاقة السلطة مع المجتمع وتمثيلاته، مع الأخذ في الحسبان أن ما يجمع بين العنف السياسي والصراع السياسي، أن كليهما يسعى لتحقيق هدفٍ سياسيٍ محدَّد، ورأى في سورية ما بعد الاستقلال مثالًا نموذجيًا للبحث في المفهومين، إذ عايشت الحياة السياسية السورية النمطين بالحيثيات التي يأتلف عليها كل مفهومٍ.
وكتب إلياس البراج مقالة بعنوان “عنف السلطة الموازي”، اهتمّت تحديدًا بعنف السلطة الذي تضخّم ظهوره في السنوات الأخيرة وتحديدًا منذ 2011 في العالم العربي، وركّز بصورة خاصة على العنف الظاهر العلني الذي قامت وقد تقوم به مجموعاتٌ محسوبةٌ على السلطة خلال الثورات والانتفاضات، وهو ما دعاه بـ “العنف الموازي” الذي تمارسه السلطة عن طريق مجموعاتٍ محسوبةٍ عليها، ولكنها غير مرتبطةٍ بها رسميًا، بأسماء تختلف من بلدٍ إلى آخر، لكنها تتمتع بخصائص متقاربة.
بينما كتبت كوثر الردّادي مقالة بعنوان “العنف بين النَّبذِ المجتمعي والتّشريع السياسي: أيُّهما الواقع في تونس؟”، سلّطت فيها الضوء على عددٍ من المفاهيم المركزية مثل الدولة والسلطة والانتقال السياسي/ الديمقراطي، وناقشت مسألة تضاعف وتيرة العنف مجتمعيًا وسياسيًا بعد الربيع العربي، خصوصًا في ظل انتقالٍ ديمقراطيٍ تمرّ به عدة دولٍ في المنطقة العربية مثل تونس.
وفي باب تجارب نسوية، كتبت بشرى البشوات مقالة بعنوان “في العنف السياسي ضد المرأة/ هوامش”، رأت فيها أن “العنف ضد المرأة عامة والسياسي منه بوجه خاص هو الشكل الأكثر تعقيدًا باعتباره عنفًا أولاً، وهو موجه ضد المرأة لأنها امرأة، أي لأنها شخص متمايز جنسيًا…. ما يعني أننا في صدد نوع من العنف المركب الذي ينطوي على التمييز فضلًا عن كونه عنفًا مع فهمنا بأن التمييز هو أيضًا شكل ناعم من العنف.” وقدّمت آلاء المحمد في مقالتها “العنف السياسي.. السياسيات ومحاولات الإقصاء” ركّزت فيها على أن حياة النساء السياسيات أو العاملات في الشأن العام “لا تخلو من التحديات والعقبات، وغالبًا ما يقعن في صدامات مع أفراد مناهضين لوجودهن، لا يتوانون عن استخدام أي تكتيك أو أسلوب من شأنه أن ينفر النساء من هذه المجالات ويدفعهن للانسحاب منه.” ولخّصت هدى أبو نبوت رؤيتها في مقالتها “أنا امرأة.. زوجة وأم.. وأحلم بأن أكون رئيسة الجمهورية السورية”، بقولها “عندي إيمان راسخ بأن جذور العنف الذي نتعرض له كنساء يبدأ من الجهل، جهل النساء بذواتهن وحقوقهن وقدرتهن على التغيير، تطبيع النساء مع العنف ومع التصغير ومع الأدوار النمطية، عدم المساواة في الوصول إلى الموارد، إبعاد النساء عن الحياة العامة.” وأكّدت على أن “المعرفة هي الطريق الوحيد للتمرد على كل المسلّمات التي سجنتنا داخل أجسادنا، فإما نحن أدوات جنسية أو أمهات تقف الجنة تحت أقدامنا.”
وفي باب الحوارات، أجرت نور حريري حوارًا حول “السلطة والعنف” مع الدكتور سمير ساسّي، وهو كاتب وباحث وروائي تونسي تحصّل على الدكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربية من جامعة تونس الأولى، من مؤلفاته: مشروعية السلطة في الفكر السياسي الإسلامي، خيوط الظلام (رواية)، بيت العناكش (رواية)، وصدر له مؤخرًا في حزيران/ يونيو/ 2022 كتاب (الدعاء والسياسة؛ تحرير الفضاء العام في الإسلام) عن مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.
في هذا الحوار المهم، يتساءل الدكتور سمير ساسّي “كيف يمكنك إقناع مجتمعٍ أو جزءٍ منه بأنّ اللاعنف الغاندي مثلًا يصلح لتغير نظامٍ يقتل شعبه بالبراميل المتفجرة، أو يعدم الناس من دون محاكماتٍ عادلةٍ، أو يتبع سياسة العقوبات الجماعية ضد خصومه، وأن الفعل المدني والحقوقي كفيلٌ بخلق سلطةٍ مضادةٍ لسلطة القمع القائمة، ويمكنه خلخلة بنية هذه السلطة بممارسة نشاطٍ مدنيٍ خالصٍ خالٍ من العنف؟!”، لكنه يجيب عن هذا السؤال/ المشكلة الذي يفكِّر فيه معظم أبناء المنطقة العربية “يبدو هذا من باب الخيال السياسي، نعم هو كذلك، وهذا مهمٌ، لأن الخيال بابٌ رئيسٌ لإبداع الحلول، وأعتقد أن نقص الخيال لدى نخب الفعل السياسي في مجتمعاتنا هو ما أفقر المنطقة، وحرمها من حلولٍ خارج حلول العنف.” ويؤكِّد أننا “نحتاج إلى عملٍ ثقافيٍ وإعلامي كبيرٍ، بهدف تخليص قادة المجتمع المدني والفاعلين عمومًا من رواسب العنف في أنفسنا.”
أما في باب الدراسات الثقافية، فقد ضمَّ العدد دراستين؛ الأولى بعنوان ” الدين ودور الرموز الغريزية في اللاوعي الجمعيّ”، كتبها فادي أبو ديب، وناقش فيها آراء عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل من خلال كتابه “بحث الإنسان عن المعنى الأسمى”، وانتقاداته إلى نظرة كارل يونغ للدين، إذ إن فرانكل يباين بين وجهة نظره الشخصية القائمة على “اللاوعي الروحي” أو “الله اللاواعي” ونظرة يونغ القائمة على “اللاوعي الجمعي”، والتي يمكن ردها بحسب فرانكل إلى رؤية فرويد للدين بوصفه شكلًا من الأشكال الجمعية للسلوك الغريزيّ عند الإنسان.
أما الدراسة الثانية فكانت لـ ماركوس القسّام بعنوان “المثقفون السوريون والغرب”، وتكمن أهمية هذه الدراسة في أنها من جهة أولى تناولت مفاهيم ومصطلحات تُعدّ بديهية ومتكرِّرة في الثقافة العربية مثل “الحضارة العربية” أو “الحضارة الإسلامية”، أو “الحضارة العربية الإسلامية”، والإسلام الحقيقي أو الإسلام الصحيح، ومن جهة ثانية في مناقشة علاقتنا بالغرب الأوروبي، خصوصًا بعد تزايد أعداد المثقفين العرب/ المسلمين المهاجرين في أوروبا، وفي هذا السياق نوَّه إلى فروقات بين المثقفين باستحضار ما كتبه هشام شرابي في هذا الشأن، وأشار إلى خاصية “الشلف التأويلي” التي تميِّز تعاطي كصير من المثقفين مع المشكلات الفكرية والسياسية المطروحة عليهم مستحضرًا ما كتبه ياسين الحافظ في أوائل سبعينيات القرن العشرين.
وفي باب الإبداعات والنقد الأدبي، قدّم حسام عتّال قصة قصيرة بعنوان ” الرمز”، وكتب شفيق صنوفي قصة قصيرة بعنوان (حر طليق)، وكتبت شيرين عبد العزيز قصة قصيرة جدًّا بعنوان (وحيدة وأسماء كثيرة)، وقدَّم سامر عباس أيضًا قصة قصيرة بعنوان (تاريخ الحجوم).
وفي باب الترجمات، ترجمت فاتن أبو فارس دراسة مهمة بعنوان Robespierre or the “Divine Violence” of Terror (روبسبير أو “العنف الإلهي” للإرهاب) بقلم الفيلسوف سلافوي جيجك Slavoj Zizek، تتناول المكانة التاريخية للثورة الفرنسية، وموقع العنف فيها.
وفي باب مراجعات وعروض الكتب، قدَّمت ليلى عبد الحميد قراءة في كتاب “العنف السياسي؛ العوامل المادية والأيديولوجية والسيكولوجية” لمؤلِّفه طارق رشاد محمود. وقدَّم حواس محمود قراءة في كتاب “الانتقال الى الديموقراطية، ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين؟” لمؤلِّفه الدكتور علي الدين هلال. وقدَّمت خولة سعيد قراءة في كتاب ” العنف السياسي” من تأليف نشوى محمد.
وفي باب الوثائق، نُشر تقرير “المراجعة الدورية الشاملة للملف السوري لحقوق الإنسان أمام الأمم المتحدة”، الذي أصدره مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بالتعاون مع رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، ورابطة عائلات قيصر، وتحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية – داعش، وعائلات من أجل الحرية، ومبادرة تعافي ، وهو تقرير حقوقي قُدِّم إلى الأمم المتحدة حول حالة حقوق الإنسان في سوريا، وذلك في سياق المراجعة الدورية الشاملة للملف الحقوقي للجمهورية العربية السورية أمام الأمم المتحدة، ونُشر التقرير في موقع مركز القاهرة في 12 شباط/ فبراير 2021.
هذه هي موضوعات العدد السادس من مجلة (رواق ميسلون) التي حاولت أن تتناول مسألة السلطة والعنف من جوانب وزوايا متنوعة كونها أصبحت مسألة مركزية وحاضرة بقوة، ولأن مصير المنطقة سيكون مفتوحًا على الخراب والمجهول إذا ما استمرّت السلطات بالتعبير عن نفسها من خلال العنف فحسب، ويمكن لمعالجتها بصورة عقلانية، من جانب النخب الثقافية والسياسية في المنطقة خصوصًا، أن تؤدي إلى فتح الباب أمام نمو تيارات سلمية ديمقراطية تضع خطوة أولى في طريق التخلّص من الاستبداد بأشكاله كافة، والدفع باتجاه تقدم شعوب ودول المنطقة.