Search

السياسة والشأن العام؛ حُفر الأيديولوجيا وهضبات البراغماتية

يُروى عن الرئيس شكري القوتلي (1891-1967)، أحد أبرز أعضاء الكتلة الوطنية ضد الانتداب الفرنسي، ورئيس سورية لثلاث مرات، قوله: “كل سوري يعتقد نفسه سياسيًا، وواحد من اثنين يعتبر نفسه قائدًا وطنيًا… فكيف يمكن أن تحكم بلدًا كهذا”، وبصرف النظر عن صدقية الرواية من عدمها، إلّا أن مضمونها كان يشير إلى اهتمام السوريين الواسع بالسياسة والشأن العام في ذلك الزمان.
عمل النظام السوري طوال عقود، وبوسائل متنوعة، على إلغاء هذا الاهتمام ونزع السياسة من المجتمع إلى أن أصبحت السياسة عملًا خاصًّا بالسلطة الحاكمة. ومع ذلك، استمرت بعض القوى السياسية في الحياة على الرغم من ضمورها عددًا وأداءً، إلى أن انطلقت الثورة السورية، لتعود السياسة وتصبح زاد السوريين وخبزهم. مع هذا، لم تنتج السياسة إلى يومنا هذا، في شطريها السلطوي الحاكم والمعارض، فعلًا فارقًا في حياة السوريين!
السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيًا: ما الفعل السياسي الذي يمكنه أن يصنع فرقًا في سورية، ولدى مجتمعها وشعبها؟ تُجيب السلطة القائمة بقولها إنها حاربت الإرهاب وقضت عليه، وتسعى لاستكمال عملها باجتثاث بقاياه الراسبة في قاع المجتمع، وذلك حماية لـ “الديمقراطية والعلمانية”، بحسب فهمها السلطوي لهما، اللتين تعيش سورية في ظلّهما! السلطة مقتنعة بأن القوة تصنع الحكم والسياسة، ولا مشكلة في أي شيء آخر بعدها، على الرغم من أن حصيلة عملها كانت تحوّل الوطن إلى مزرعة تديرها أو تؤجِّر أراضيها وممتلكاتها وفق ما تقتضي مصلحتها في البقاء، مستدعيةً صنوف الاحتلال كلها، إلى جانب تفتيتها النسيج الوطني الاجتماعي وإثارة كل ما من شأنه تمزيق الوطن والشعب!
تُجيب المعارضات السياسية، القديمة أو التي تشكّلت بعد 2011، عن السؤال بأنها بنت أحزابًا وتحالفاتٍ عديدة لتكون بديلة عن السلطة الحاكمة، وتشير بطريقة أو أخرى إلى أنها إذا ما حكمت البلاد فسيعمّ الخير وتنتهي المأساة! لكن الواقع يقول، بعد أكثر من عقدٍ من الزمن، إنها لم تتفق بعد على أرضية مشتركة لإدارة المرحلة الانتقالية، ولا على طرائق تجاوز التداعيات والانكسارات، ولا على كيفية الخروج من دائرة الشروط الدولية والإقليمية، بل إن أطرافها تتباين إلى درجة الخصام والتنافر بين رؤىً أيدولوجية وسلوكاتٍ نفعية براغماتية، وبفعلها هذا تكاد تلتهم ما تبقى من آمال السوريين في إمكانية التغيير السياسي وبناء الدولة المأمولة.

السياسة بوصفها شأنًا عامًا
يُنظر إلى السياسة في السياسات السائدة، السلطوية والمعارضة، بوصفها فعل سلطة وحكم فحسب، انسجامًا مع جذرها في اللغة العربية، أي فعل “سوس” البشر وترويضهم. فيما السياسة بوصفها فعلًا في الشأن العام ومن أجل المصلحة العامة غائبة، وإلّا لأنتجت النماذج القائمة، السلطوية أو المعارضة، فعلًا مختلفًا في حياة السوريين. فالمرء الموصوف بالسياسي، كما هو الحال واقعيًا، يركِّز اهتمامه على مصالحه الشخصية أو قناعاته الأيديولوجية أو على مصلحة و/أو قيم جماعته المختارة أو التي ينتمي إليها طائفيًا أو إثنيًا، من دون أي اعتبار لمنفعة ومطالب الكلّ المجتمعي، أو الصالح العام، ومن ثمّ سينتج بالضرورة حكمًا مستبدًا حتى وإن حقق مصلحة جماعته. كلُّ السياسات القائمة لا تنتج فعلًا سياسيًا يتماشى مع السياسة بوصفها فعلًا حضاريًا وفاعلية مجتمعية يقومان على تلاقي مثلث: القيم الفكرية والأخلاقية، المصالح المشتركة/ الصالح العام، مضافًا إليهما روح الأمة.
يبدأ الفعل السياسي بإحداث الفرق في المجتمع حين يركِّز اهتمامه على العمل من أجل المصلحة العامة، وهذا ليس فعلًا أخلاقيًا أو هبة أو صدقة تُقدَّم إلى الآخرين، بل هو أساس ومنطلق السياسة من جهة، والمعنى الوحيد الذي يتوافق مع معنى الشأن العام من جهة أخرى.
اشتُقّ مصطلح “الشأن العام” من الكلمة اليونانية “Res- publica”، أي الجمهورية؛ وهي الحقوق المادية والمدنية والأخلاق والقيم في آن معًا. الشأن العام عملٌ يتعلق بالجميع، وتنعكس صورته بشكل جليٍّ أمام الكلِّ المجتمعي، وهو الوصف اللصيق بالفعل السياسي القادر على تجاوز ضيق أفق كلٍّ من الأيديولوجيا التي تعتقد أنها الأصلح، والنفعية التي ترى نفسها صاحبة الواقعية المنتِجة أو الفاعلة.
الشأن العام هو عمل في الفكر والأخلاق والقيم والمصالح في آن معًا، وأي ابتعاد عن مرتكزاته هذه هو عمل في الشأن الخاص، سواء أكان حزبيًا أو أيديولوجيًا أو نفعيًا، حتى وإن حقق مصلحة فريق ما، لأنه لا يقم وزنًا للكلِّ المجتمعي والمصلحة المجتمعية. أطلق ماكس فيبر على طرائق العمل المؤسّساتي التي تعمل على إدارة الفعل السياسي، تعبير “السياسة كمهنة واحتراف”، وفق القوانين والدستور التعاقدي على آلية الحكم، مدته، تداوله السلمي، تحقيقه للمصلحة العامة وحفاظه على القيم العامة من حيث احترام الاختلاف والتنوع المجتمعي سياسيًا وفكريًا وثقافيًا واقتصاديًا. تلك التي تشكل جميعها أرضية العقد الاجتماعي للدولة، وهذا يختلف كليًّا عن فرض شروط وبرنامج حزب ما أو قوة عسكرية ما أو هيئة سياسية ما طرائقها وأيديولوجيتها على المجتمع. الأولى عمل في السياسة بوصفها شأنًا عامًا وحرفة، والثانية عمل في السياسة بوصفها احترابًا. الأولى قادرة على البناء والديمومة والاستمرار وتحقيق الاستقرار والأمان، فيما الثانية، حتى وان استمرت لزمن، ستعمل على هدم المجتمع والدولة، وسورية في حاضرها اليوم مثال لا تخطئه عين!

في المصلحة العامة والقيم
إن الجمع بين المصلحة العامة والأفكار التحرّرية والإبداعية هو الميزة الفارقة في السياسة والعمل في الشأن العام. لقد حقق نشوء الحضارة الأميركية مثلًا نوعًا من الجمع بين المصلحة العامة القائمة على حرية الاستثمار والانفتاح على حاجات السوق المحلية والعالمية اقتصاديًا، وبين الأفكار التحررية المتمثلة بالحرية الفردية وقيم العدالة والتسامح الديني والمجتمعي، الفعل الذي تجسِّده مقولة أبراهام لنكلولن، أبرز مؤسسي الحضارة الأميركية: “جميع الناس خلقوا متساويين، ولهم حقوقٌ معينة من خالقهم غير قابلة للتصرف، ومن بين هذه الحقوق هناك الحياة والحرية والسعي وراء السعادة. ولضمان هذه الحقوق، يتم إنشاء الحكومات بين الناس، وتستمد عدالة سلطتها من موافقة المحكومين.”
الفعل السياسي الذي قام به المؤسسون الأميركان هو الجمع حقوقيًا وعمليًا بين الاستثمار والعمل والعلم بوصفها مصالح عامة، وبين الفكر التحرري التنويري لـ “جون لوك” في التعاقد المجتمعي وأساسه الحرية الفردية وحق الفرد في الدفاع عن حقوقه. فيما كان فهم أفكار “كارل ماركس” الثورية في تحرير فضل القيمة وإقامة العدالة الاجتماعية، يقوم على تأكيد مصلحة الطبقة العاملة والنفي الكلي للاستثمار والحريات الفردية، خصوصًا في مناطق الشرق التي بُنيت فيها “دول” استبدادية تستند إلى جذور قوموية أو شيوعية؛ ارتكزت على مسألة التأميم والحزب الواحد وإنشاء الجمعيات والنقابات التابعة لسلطة مركزية قابضة على شؤون الدولة ومؤسساتها، وبدلًا من أن تقيم العدالة الاجتماعية بحسب ما تصورها ماركس أنتجت السحق الاجتماعي والفصل الجزافي بين القيمة والمصلحة.
في الوضع السوري الراهن
تتعامل المعارضات السورية اليوم، القديمة والجديدة، في معظمها، مع المسألة السورية من بوابة التنافس على السلطة فحسب، طامحةً إلى أن تكون بديلًا من السلطة القائمة، ما أفقدها استحقاق الثقة العامة، كونها تعمل في الشأن السياسي وفق برامجها الخاصة من دون الاكتراث لأهمية العمل في الصالح العام، خصوصًا في ظل ما حدث في سورية ولشعبها خلال العقد الماضي.
تكاد الخلافات الحادة بين الأحزاب المحمولة على الأيديولوجيات الكلاسيكية المتقادمة سواء “القوموية” أو “الماركسوية” أو “الإسلاموية”، من حيث نظرتها إلى سورية ومستقبلها، وتنازعها على الأحقية والمشروعية، تودي بسورية وشعبها. فالتحالفات القائمة بينها هشّة، ولا تعمل جميعها وفق برنامج وطني عام، على الرغم من أن بيانات تشكيل هذه التحالفات تؤكد أصلًا على هذا البرنامج. كلها تؤكد على التساوي في المواطنة لكنها في الواقع الحقيقي ليست كذلك.
هذه القوى والأيديولوجيات في صراع حاد ضمن المكونات النفعية السياسية المتمثلة ببعض هيئات المعارضة المستحدثة (هيئة التفاوض، الائتلاف الوطني، اللجنة الدستورية… إلخ) أو في صراع مع هذه الهيئات من خارجها لكن على الأرضية ذاتها، النفعية أو الأيديولوجية.
تشترك جميعها في أنها لا تقيم وزنًا للمصلحة العامة ولشؤون السوريين عامة والعمل السياسي بوصفه عملًا في الشأن العام. هل يمكن قبول هذه الأنماط من العمل السياسي بعد أن باتت المسألة السورية محطّ نزاع إقليمي دولي، ودخل كل طرف من الأطراف السورية في أتون معتركها طوعًا أو قسرًا؟! غنيٌ عن القول إن الدول القائمة على الملف السوري لا تنظر إلا إلى مصلحتها، فماذا يمكن أن نسمي تمفصل هذه القوى مع الدول أو تراكبها مع الانقسامات الإثنية والطائفية؟ ليس من اسم للعمل السياسي السائد سوى “التغميس” خارج الصحن.
بين طيات هذه التباينات الحادة المولِّدة للتشظي السوري، تكاد تضيع تلك الحقبة المنيرة في تاريخ سوريا السياسي؛ لحظة اقتران الفكر التنوير والتحرري مع الحقوق المادية والحياتية والدينية التي تمثلت بلقاء الكتلة الدمشقية الوطنية وممثليها في البرجوازية الوطنية السورية بفكرها التحرري والتنويري مع رجال الثورة السورية المتمثلة بعامة الشعب السوري من خلال سلطان الأطرش ورفاقه الفلاحين الشعبيين! هذه اللحظة التي أسّست للدولة السورية قبل أن تقضمها سلطات العسكر القائمة. أما اليوم فلا يزال المثقفون ورجال الاقتصاد السوري غائبين أو مغيَّبين عن ساحة العمل السياسي الوطني، مع التكاثر المفرط للنفعيات العوراء والأيديولوجيات المتكورة على نفسها.
لا بدّ من النظر إلى السياسة والشأن العام بوصفهما لحظة اقتران تاريخية بين القيمة والفكر والمصلحة العامة؛ فما يمكن أن يصنع الفارق أمام التشظي العام هو الإدراك العميق لضرورة القران التاريخي بين العقلانية السياسية التي يحملها مفكرو النخبة المنفتحون على الواقع ومعطياته وممكناته، وينظرون إلى المستقبل بكليته من دون الضياع في التفاصيل، والواقعية السياسية متمثلة برجال الاقتصاد السوري الوطني من جهة، والتيارات المدنية الشبابية حاملة المستقبل الممكن من جهة أخرى، الذين يعايشون الواقع تفصيليًا ولا يجدون البيئة العامة المستقرة والآمنة للعمل فيها أو دخول المعترك الحقوقي والسياسي.
ثمة فعل ممكن راهن وضروري اليوم، تقوم به هذه الفئة المسماة رجال الدولة، أي الذين لا يغرقون أيديولوجيًا أو نفعيًا بهوى كسب السلطة؛ فعلٌ يقوم على تفعيل العمل في الشأن العام بوصفه عملًا فكريًا وأخلاقيًا، وعملًا في مصلحة الكل المجتمعي، يحمل بين طياته منصات واضحة للقيم والأفكار التحررية والتنويرية وكيفية الوصول إلى الحقوق والحريات والمنافع العامة والشخصية. وهذه السياسة هي السياسة بوصفها شأنًا عامًا، وأي انفكاك بين أواصرها هو استمرار لحفر الأيديولوجية وهضبات النفعية الحصرية والضيِّقة، والتي لم تنتج إلى اليوم سوى المزيد من التشظي والهدر على المستوى الوطني العام.

وحدة المقاربات السياسية

تقدِّم وحدة المقاربات السياسية دراسات وقراءات ومقالات سياسية تتناول الواقع السياسي والحوادث السياسية في منطقة الشرق الأوسط بصورة خاصة، والمنطقة العربية عمومًا، إضافة إلى الأوضاع والسياسات الإقليمية والدولية المؤثرة، فضلًا عن تقديم تقرير شهري يرصد تغيرات واقع وأوضاع المنطقة، السياسية والعسكرية والاقتصادية، ويمكن لوحدة المقاربات السياسية أن تستقبل إسهامات من خارج ميسلون تُنشر بأسماء أصحابها في حال كانت متوافقة مع معايير النشر المعتمدة. وتسعى وحدة المقاربات السياسية أيضًا لتقديم مبادرات سياسية إلى القوى والتيارات السياسية وأصحاب القرار في المنطقة، تهدف إلى تقديم مقترحات لحلّ إشكالات سياسية محدّدة، وإلى تعزيز الحوار والعمل الديمقراطي. تجتمع وحدة المقاربات السياسية بشكل دوري مرة كل أسبوع، للتشاور حول الوضع السياسي في المنطقة، ولتكليف أحد أعضائها بكتابة المسودة الأولى للدراسة التالية، وبعد إنجازها توزّع على بقية الأعضاء لوضع ملاحظاتهم، ومن ثمّ تصدر في صيغتها النهائية.

مشاركة: