لذّة السلطة: عقلانيو المشرق العربي

في الحديث عن التيارات الفكرية والسياسية التي تصدّرت المشهد السياسي العربي في القرن المنصرم، تحديدًا بعد الحرب العالمية الثانية، ابتداءً من القومية مرورًا بالاشتراكية والليبرالية حتى الوصول إلى الأصولية الدينية، يصعب تناول هذه التيارات موضوعيًا أو تحليلها لأسباب شكلية وضمنية عديدة. تنشأ الصعوبة الشكلية الأولى نتيجة خلط كبير شائع بين المصطلحات والمفاهيم، وفقر عظيم في الاطلاع على النظريات والأفكار المبطّنة لهذه التيارات الفكرية وفهمها، وانقطاع معرفي، تحديدًا لدى جيل الانهزامات السياسية عن كل ما هو جديد، أي عن الدراسات الحديثة التي ساهمت كثيرًا في تطوير هذه الأفكار. فغالبًا ما تُتناوَل الليبرالية وكأنها واحدة لم تتبدّل أو يتغيّر طابعها بين مكان وآخر وزمن وآخر، ويُضفى على الديمقراطية طابع جوهري، وتُتناول الماركسية كمرادف للشيوعية، أو تُتناول المادية التاريخية كمرادف للمادية الجدلية، ويُجمع هيغل برواد الرومنطيقية في القرن الثامن عشر، ويُتَّهم بأنه أعطى الأولوية للمثال على الواقع، وهذا كلّه عارٍ تمامًا من الصحة. أما الصعوبة الضمنية الثانية، وهي أشدّ كثيرًا من الأولى، فسببها ركام عظيم من مشاعر الضغينة والكراهية والحقد بين هذه التيارات، أو للدقة بين الشخصيات الأساسية المتنازِعة في هذه التيارات، ركام يورَّث جيلًا بعد جيل ويفرض على المرء إما الخوض في نزاعات الضغينة أو رفع اليد عن النقاش والسكوت تمامًا.
لكن مقالتنا هذه غايتها محاولة حسم بعض الجوانب المتعلقة بهذه التيارات السياسية، بعيدًا عن نزاعات الضغينة والقراءات النظرية السطحية، وبطريقة أخرى مختلفة، غايتها الأساسية النظر، لا في فاعلية هذه التيارات أو قابلية تطبيقها أو منطقية طرحها، بل في مدى عقلانيتها أو عاطفيتها من جهة، وفي كيفية اعتمالها في النفس من جهة أخرى.
نجد آثار ارتباط العوامل النفسية بالتيارات السياسية بصورة واضحة إذا نظرنا في الاتهامات التي غالبًا ما توجَّه إلى هذه التيارات، فكثيرًا ما اتُّهِم الاشتراكيون بالرومنسية والعاطفية، واتُّهِم الديمقراطيون بالعقلانية والبرود، واتُّهِم القوميون بالرغبوية، واتُّهم الأصوليون الدينيون بالانفعالية والاندفاعية. إذًا، نرى أن الأسئلة “النفسية” كانت جزءًا أساسيًا من محاولات تحليل أي تيار فكري سياسي أو نقده، أو حتى محاولات الدفاع عن أي تيار فكري سياسي أو مهاجمته. وبسبب التلازُم الجوهري بين الأسئلة النفسية والأسئلة السياسية، حصلت مزاوجة أكاديمية بين مجال التحليل النفسي ومجالات علم الاجتماع والفلسفة بواسطة مفكّري مدرسة فرانكفورت ومَن جاء بعدهم من مفكّرين ومحلّلين. وهنا تمامًا، تنشأ الصعوبة الثالثة في تناول هذا الموضوع والتي تتمثل بخلطٍ كبيرٍ في المصطلحات النفسية من جانب معظم من حاولوا التعدّي على المجال النفسي من دون دراية أو اطلاع كافٍ واستخدموا المصطلحات بعشوائية. فغالبًا ما يُخلَط بين العاطفة والانفعال، بين الرغبة والإرادة، بين الدافع والغريزة، بين المتعة واللذة، بين الأيديولوجيا والتماهي، وبين العقل والمنطق، وتُتَناول هذه المصطلحات بشكل أعمى وتُوظَّف لغاية النقد أو الهجوم.
ولضبط المصطلحات حتى يستقيم النقاش، ننطلق من التحليل النفسي اللاكانيّ الذي يرى أن هناك متعة نفسية خاصة جدًا jouissance تميّز الذات البشرية عن باقي الكائنات الحيّة، متعة تتجاوز الجوع والشبع، تتجاوز حسابات المنطق، متعة أصيلة هي التي تُكسِب الإنسان صفة الذات، وتُخرِج الذات من إيقاع الحياة اليومية وحاجاتها البيولوجية المباشرة، وتدفع الذات نحو أفعال فائضة عن الحاجة المنطقية البيولوجية (كفعل الحب وفعل الفن وفعل الثورة مثلًا). تحمي الذات هذه المتعة وتضبطها بشكل غير واعٍ، حتى لا تتجاوز حدودًا معينة، من خلال رغبة الذات في شيء معين أو شخص معين أو غاية معينة (سياسية مثلًا). والرغبة، هي أيضًا، جوهرية تميّزنا بوصفنا كائنات لغوية. ولا تتكرّس المتعة في شكل رغبة إلا من خلال الحب. بكلمات بسيطة أخرى، إن ما يقف وراء رغباتنا في الفعل السياسي كثيرٌ من المتع الذاتية الأصيلة، كثيرٌ من الحب (حب الذات، حب الآخر، حب المعرفة، حب التغيير). ولا تُنقص هذه المتعة الذاتية من قيمة الفعل السياسي، بل إن البُعد السياسي للذات لا ينشأ إلا من هذه المتعة الذاتية، وهي تحديدًا ما يُكسب الفعل السياسي قيمته ويجعله صادقًا وأصيلًا.
وعلى الرغم من أن هذه المتعة الذاتية تخضع للخطابات المختلفة السياسية والثقافية السائدة التي تؤدلِجها وتروِّضها بما يناسب رموزها وأجنداتها، فإن هذا الخضوع هو ما يجعلنا ذواتًا، وهو ما يربط واحدنا بالآخر، فينشأ بيننا هذا الرابط الاجتماعي والعاطفي الأصيل. غير أن هذه المتعة الذاتية المرتبطة بالسلطة الرمزية للخطابات، هي وحدها التي تسمح للذات بأن تثور على الخطاب وإخضاع الخطاب لها. إذًا، انطلاقًا من هذه المتعة، وانطلاقًا من هذا الارتباط العاطفي بالخطاب السياسي أيضًا، تنبثق مطالبات الذات بالتحرر من الخطاب نفسه، تنطلق المطالبة بالحرية وبالثورة وبالتغيير وبإسقاط الأنظمة السياسية القمعية، ومن هذا الارتباط العاطفي ينشأ الفن والأدب والشعر والموسيقى، وتبرز الأسئلة الفلسفية الكبرى. يؤكّد الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك أن الذاتية هي عملية تتألف من مرحلتين: “ارتباط عاطفي أولي، أي خضوع للآخر، ثم إنكار لهذا الآخر، أي أخذ مسافة منه، وهو ما يفتح المجال للحرية والاستقلالية”. وعليه، لا يمكن إلغاء البُعد العاطفي الأصيل للذات البشرية، لا يمكن إلغاء الارتباط العاطفي بالآخر، إلا بإلغاء الذات البشرية نفسها، وإلغاء الثقافة كلها، وإلغاء السياسة كلّها بمعناها العميق. وسنعود إلى هذه النقطة في ختام المقالة.
من ناحية أخرى، في المقارنة الساذجة المعتادة بين النزعة العقلية والنزعة العاطفية، أو فلنقل بين الحركة العقلانية والحركة الرومنسية اللتين نشأتا أولًا في القارة الأوروبية، فيَعرِف جيدًا كلُّ مطّلعٍ على إرث الحركة التنويرية والعقلانية الغربية التي نادت بالعقل والمنطق وأنكرت العواطف والمشاعر والأحاسيس، أنها لم تكن خالية، في أي جزء من أجزائها، وأي ممارسة من ممارساتها، وأي ثورة من ثوراتها، وأي خطاب من خطاباتها، من العواطف، وأنها ما كانت لتُحقِّق ما حقّقته من دون مغازلة العاطفة الدينية في بعض الأحيان ومغازلة العواطف الوطنية في أحيان أخرى، بل إنها قامت بصورة أساسية على فجوات في خطاباتها نفسها (ونجد ذلك بصورة واضحة في خطابات الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية) بين ادعاء العلم والمنطق وإنكار العواطف من جهة، واللعب على وتيرة العواطف والمتع الذاتية بصورة ضمنية من جهة أخرى. يقول الفيلسوف السياسي اليوناني يانيس ستافراكاكيس: “إن تحريك المتعة هو الشرط المسبق الضروري لتحقيق التماهي مع الخطاب (من خطابات القومية إلى خطابات الاستهلاكية). وينطبق ذلك أيضًا على الأخلاق الديمقراطية الراديكالية في السياسة.” إذًا، ولتأكيد المؤكَّد من جديد، لم يكن هناك، على مرّ تاريخ، حركة ثورية واحدة أو تغيير سياسي أو اجتماعي واحد خالٍ من العواطف.
وهنا تبرز الأسئلة الحسّاسة الأكثر تعقيدًا وإشكاليةً: ألا يمكن أن تكون العاطفة الذاتية غير أخلاقية؟ أليست هذه العاطفة تحديدًا ما تستهدفه الخطابات السياسية الأيديولوجية من أجل إخضاع الشعوب لأجنداتها؟ ألم يكن الاندفاع العاطفي السبب الأساس وراء هيمنة أنظمة الحكم الشمولية؟ وألم يقف فرط العاطفة كمحرّك أساس للتيارات الدينية الأصولية أو للدعوات الطائفية والعنصرية؟ ألا يُمكن أن يُوظَّف البُعُد العاطفي البطولي الأصيل لدى الذات البشرية من أجل تكريس فكرة القائد أو الزعيم المقدّس الذي لا يُمسّ؟
نعم، كل ما سبق ذكره صحيح. نعم، يمكن أن تكون العاطفة الذاتية غير أخلاقية، ويمكن أن تصبح العاطفة عمياء وغير نبيلة. لكن، شأنها شأن أي شيء آخر، شأنها شأن العقل نفسه الذي يمكن أن يسوّغ لنفسه ما هو غير أخلاقي، يمكن أن تصبح العاطفة غير أخلاقية. إذًا، العقل والعاطفة في الوزر سواء.
وهنا يمكننا أن نطرح أسئلة مقابلة على العقل: ألم تتحوّل العقلانية إلى أداتية غايتها السيطرة على الإنسان والطبيعة؟ ألم تساهم العقلانية الحداثية التي جاء بها التنوير بصورة أساس في ظهور الاستعمار والعنصرية والذكورية التي تستند إلى البراهين العقلية والعلمية؟ حين نزيل البُعد العاطفي البطولي من الذات البشرية، ما الذي يحلّ محله؟ ألا يحلّ بُعد التخاذل والتقاعس والمصلحة الذاتية الفاقعة في الفعل السياسي؟ ومهما جمّلنا هذه المصلحة الذاتية وزيّناها بكلمات التعددية الثقافية والنزعات الفردانية يبقى السؤال: ما حدود هذه المصلحة الذاتية وهذه الفردانية؟ ومَن يضع هذه الحدود؟
ليست الإجابة عن الأسئلة السابقة التي طرحناها على العاطفة أو على العقل ضرورية. ما يُهمّنا في هذه المقالة أن نوضّح أن فظائع وجرائم القرن المنصرم أو أي جرائم أخرى لا تتحمل العاطفة والرومنطيقية مسؤوليتها، كما يدّعي بعض الكتّاب. بل إن مساءلة العقل أو العاطفة تحرِفُ السؤال عن وجهته الأساسية والتي يجب أن تكون الأخلاق. بكلمات أخرى، تنبغي إعادة توجيه السؤال من العاطفة أو العقل إلى الأخلاق.
لكن، هنا يبرز سؤال جديد، أيّ أخلاق؟ ما طبيعة هذه الأخلاق المطلوبة؟ وما الذي يحول دون أن تتحول هذه الأخلاق إلى خطاب سياسي جديد غايته الإخضاع والسيطرة؟ هنا تمامًا ينبغي التمييز بدقة شديدة بين مفهومين للأخلاق، فهناك خلط بين الأخلاق Morals والإيطيقا Ethics، وفي هذا الشأن يقول جيجيك: “تهتم الأخلاق Morality باتساق العلاقات مع الآخرين؛ حيث تتمثّل قاعدتها الصفرية في المقولة (لا تفعل بي ما لا تريد أن يُفعَل بك). أما الأخلاق Ethics، على النقيض من ذلك، فإنها معنية باتساق علاقتي مع ذاتي، بإخلاصي لرغبتي الخاصة”. وعليه، الأخلاق الأولى Morality هي التي يشعر المرء بأنها تأتي من الخارج، لا من داخله، هي الأخلاق الكانطية، التي تضع نموذجًا مثاليًا وتعتقد بأنه يجب استخدام العقل لتحديد كيفية تصرف الناس، ويجب إخضاع العالم إلى المثال العقلي، وتجب إطاعة الأمر الأخلاقي المطلق، الخالي من العواطف. في هذا الشأن، يقول المنظّر الأدبي البريطاني تيري إيغلتون: “إن جرّدنا الأخلاق من العواطف كلها، فسينتهي بنا الحال إلى رؤية رجل مثل كانط […] لقد أخطأ كانط في تصوّره أن التفكير المجرَّد وَحْدَهُ يمكن أن يأخذنا إلى ما هو أبعد من عواطفنا الداخلية […] الذين يؤمنون بأن القيمة الأخلاقية يجب أن تكون مجرَّدة، لا يرون أن العقلانية والفوضى متلازمان”. وفي ذلك، تتشابه الأخلاق الكانطية مع الأخلاق الدينية وأخلاقيات الأنظمة الشمولية والقيم والعادات الاجتماعية التي تحاول الخطابات الثقافية والسياسية المختلفة أن تقدّمها لنا وأن تفرضها علينا بأشكال هوياتية مختلفة بحيث لا يبقى لنا سوى قدر زهيد من الحرية. وليس غريبًا هنا أن الضابط النازي أدولف أيخمان الذي يُعرَف بأنه الوحش الذي أشرف على إحراق ملايين اليهود في أفران الغاز قد أشار بنفسه إلى كانط أثناء محاكمته حيث قال: “كنت أقوم بواجبي وأطيع الأوامر ليس إلا”. وليس غريبًا أن حنّة آرندت قد عدّت هذا النوع من الجرائم بالـ “تافه”، فكل من يطيع الأوامر الخارجية العقلية بهذا الشكل لا يمكن أن يكون عقليًا أو منطقيًا حقًا، ولا يمكن أن يعوّل على فعله، وإن بدا الفعل أخلاقيًا أو عقليًا في الظاهر. يقول إيغلتون: “هذا هو القانون الأخلاقي الشهير لإيمانويل كانط، الذي يخضع له الناس جميعًا بالصورة نفسها، والذي يتمتع بقوة الأمر الإلهي الكاملة بينما يظل شأنًا دنيويًّا خالصًا، فهذا القانون من المسَلَّمات؛ لا يمكن اختزاله إلى أي مبدأ أكثر أولية ولا يخضع للتفسير المنطقي”.
ويترتب على ذلك، دمار الذات والذاتية نفسها. وسبب هذا الدمار ليس تجاهل العاطفة والرغبة الأصيلة للذات البشرية وما يرافقها من متع فحسب، بل السبب بالأحرى هو الصراع الذاتي الذي ينشأ بين رغبات المرء الداخلية الأصيلة والأوامر الأخلاقية العقلية الخارجية، والذي ينتهي بفناء الذات، وانحلال البُعد العاطفي الأصيل للذات، والارتباط العاطفي الذي يربط الذات بالآخر، فتحلُّ اللذة الفردية السطحية، النفسية أو الجسدية، محلّ المتعة الذاتية، والأهم من ذلك كله، يفقد المرء أيضًا البُعد الذي من خلاله تحدث الثورات ويُطالَب بالحرية. وعليه، لم تكن أخلاق أنظمة الهيمنة الشمولية والتيارات القومية والنازية والأصولية الدينية أخلاقًا قائمة على الرغبة وعلى العاطفة والرومنطيقية، كما يُزعم، بل كانت قائمة على نقص في الرغبة ونقص في العاطفة ونقص في الرومنطيقية، كانت قائمة على العقل (على العقل الحداثيّ بصورة خاصة، حتى لا نسيء إلى العقل كما يسيئون إلى العاطفة) وحده، على العقل المثالي الكانطي، على العقل منزوع العاطفة والمتعة الذاتية الأصيلة، كانت قائمة على الرؤى العقلية الطوباوية، وفناء الذات وتفكيك ارتباطاتها العاطفية الاجتماعية بالآخرين بحرمانها من رغباتها وحريتها الأصيلة، فتحلّ اللذة محلّ العاطفة المفقودة، لذّة السيطرة الفوضوية ولذة الإخضاع السلطوية المدمِّرة من خلال الأوامر الأخلاقية والمثالية العليا. أي أن العاطفة الذاتية، بصورة كبيرة، لا تصبح غير أخلاقية وغير منطقية ومدمّرة، ولا تتخذ أشكالًا منحرفة (كالعاطفة الطائفية والعاطفة العنصرية العمياء وغيرها) إلا حين تُقمَع بأوامر خارجية تتناقض مع الرغبات الأصيلة للذات. يفتقر مجتمع الحداثة للمتعة الذاتية، للرومنطيقية الطيبة، للوعي الذاتي الذي لا ينشأ إلا من خلال علاقة انعكاسية مع الذات، ولتعويض هذه السلبية، عادةً ما يُلجأ إلى الأفكار الطوباوية حول مجتمعات سعيدة خالية من الشرور لإبقاء الشعوب تحت سيطرة الوهم والهويات المتخيّلة. وهذا أحد أسباب ظهور ما بعد الحداثة التي لا تخلو هي الأخرى من مشكلات، إلا أنها كانت على حق في ثورتها من هذا المنطلق على العقل الحداثي.
لم يكن هيغل مسؤولًا عن محاولات رفع الواقع إلى مستوى المثال، لم يجعل هيغل الأولوية للفكرة على الواقع، أو للرومنطيقية على العقلانية، كما تدّعي كل قراءة ساذجة وزائفة لهيغل pseudo- Hegelian reading، أكانت القراءة يسارية أم يمينية، وهذا ما سيأخذنا إلى النوع الثاني من الأخلاق وهو الإيطيقا، Ethics، هو النوع الذي يَخرُج من الذات نفسها، ويقصد اتساقها مع نفسها، علاقتها مع نفسها، ومع رغباتها الأصيلة في الحب والعمل والإبداع والحرية وأشياء أخرى كثيرة. حيث يدعو هذا النوع من الأخلاق إلى الإخلاص للرغبة الذاتية، ويكون التخلّي عن الرغبة الذاتية، من منظور التحليل النفسي اللاكاني أيضًا، هو ذنب لاأخلاقي. في هذا النموذج الأخلاقي، لا يتصرف المرء بالاعتماد على مرجع أو شخص آخر، أو ما يسميه التحليل النفسي بـ “الآخر الكبير”، ليُملي عليه الصحيح والخاطئ، بل يكون المرء هو، برغبته الجوهرية ومتعته الأصيلة، مرجع نفسه. (وبسبب الخلط الكبير والشائع بين المصطلحات، تجدر الإشارة هنا من جديد إلى أن المتعة الذاتية jouissance تختلف عن ما يُسمى بمذهب اللّذة Hedonism، الذي يَعتقِد أن اللّذة هي قيمة جوهرية، وغايته تحقيق أكبر قدر ممكن منها، وهنا يؤكّد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: “إن اللذة انقطاع في تدفّق الرغبة”).
كلّ قراءة جيدة وعميقة لهيغل تعرف أن نموذج هيغل ليس عاطفيًا خاليًا من العقل، وليس عقليًا خاليًا من العاطفة، ليس تصوريًا يجنح إلى الأفكار والتصوّرات وحدها، وليس واقعيًا يسمح بمقاربة الواقع من دون فكر، ليس عقلانيًا يستثني التجربة الحسية، وليس حسيًا تجريبيًا يعتمد على المحايث فحسب لاستنباط المعرفة، وليس مثاليًا، كما يُفهَم عادة، بل إن ماديته تكمن في أن التركيب synthesis لا يتحقق إلا ماديًا، ويصبح أكثر ماديةً مع كل إخفاق جديد. إن فلسفة هيغل هي فلسفة في الإخفاق، في تبدّل الوعي والوقوف من جديد بعد كل إخفاق، إلا أن الذات في كل إخفاق جديد تقف بطريقة جديدة، وهنا يكمن البُعد العاطفي البطولي والأصيل للذات. هي ليست فلسفة خطية غائية في المُثُل العليا. فلا تُختَزَل السلبية القائمة (نقص في العاطفة وظهور اللذة السلطوية مثلًا نتيجة الواقع السياسي وتأثير الخطابات السياسية المؤدلِجة) في مطلق إيجابي (فرط في العقلانية والدعوة إلى إنكار العاطفة والتوجّه نحو الواقع الفج بمعزل عن كل تصوّر وكل فكر)، بل على العكس، يظهر الواقع الإيجابي كنتيجة لجمع المتناقضات و”سلب السلب” أو “نفي النفي” (من دون الوصول إلى غاية مطلقة، أي على عكس القراءة الماركسية لهيغل)، يؤكد جيجيك: “إن ما يعنيه نفي النفي هو: تبدّل في المنظور يُحوِّل الإخفاق إلى نجاح حقيقي”. ولا تكون الروح المطلق لدى هيغل سوى تلك الروح التي تدرك أنها مخفقة باستمرار لا محالة. وليس في ذلك انهزامية أو عدمية، كما يمكن أن يُفهَم، بل هي دعوة إلى الوقوف من جديد والاستمرار من جديد في عالم غير مثالي.
هكذا، نؤكّد ما أكّدنا عليه سابقًا، لا يُوجَّه السؤال نحو العاطفة، ولا يوجَّه حتى نحو العقل، بل نحو الأخلاق والنموذج الأخلاقي الذي نتبعه ونخضع له. وربما يكون النموذج الأخلاقي، الهيغلي اللاكاني، المنطقي والرومنطيقي، هو تحديدًا ما نحتاج إليه. ليست المشكلة في الرومنطيقية، بل يلزمنا كثير منها، علّنا نكسب ذاتيتنا من جديد التي وحدها، بجميع تناقضاتها، تسمح لنا أن نثور بصدق، تسمح لنا أن نطالب بالحرية بأصالة، تسمح لنا بأن نقول “لا” من دون خوف، تسمح لنا بأن نؤمن من جديد بإمكانية انتصار ثوراتنا الصغيرة والكبيرة حين تدلّ جميع المؤشرات على الفشل، تدفعنا دفعًا إلى أن نعيش رغباتنا ومتعنا النفسية والجسدية، وأن نحب الآخر بمعقولية ورومنطيقية في الآن نفسه.

نور حريري

مهندسة وكاتبة ومترجمة. ماجستير في الفلسفة. حائزة على المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة لعام 2016 التي ينظمها المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط في برشلونة، إسبانيا. لها عدة ترجمات منشورة منها: مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية لجوديث بتلر، سُبُل النّعيم: الميثولوجيا والتحوّل الشخصي لجوزيف كامبل، الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع لجوديث بتلر؛ وعدة أبحاث منشورة منها: الترجمة تفكيكيًا: الخطاب النسوي نموذجًا، جوديث بتلر: أدائيات الذات.

مشاركة: