قراءة في كتاب الأستاذ أحمد الحاقي:

التحولات السياسية في بلدان أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية؛
دراسة نظرية وتطبيقية في ضوء حالتي روسيا والأرجنتين

أولًا: مقدمة

ثانيًا: الدمقرطة والتحديث في ضوء مساري‏ أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية

ثالثًا: روسيا والأرجنتين؛ مساران بين الديمقراطية والاستبداد

رابعًا: أهم الاستنتاجاتأولًا: مقدمة

يبحث هذا الكتاب عوامل التحولات السياسية في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، بتخصيصها في مساري روسيا والأرجنتين. لذلك ينطلق في فهم هذه التحولات من منعطف إنهاء تدخل الدولة الذي انعطف معه الغرب، في عقب الأزمة الاقتصادية في السبعينيات، سائرًا خلف السياسة الاقتصادية لحكومة مارغريت ثاتشر في المملكة المتحدة. إذ اكتسب هذا المنعطف حدته من التعاليم الأيديولوجية لمدرستي شيكاغو والنمساوية، التي صيَّرها البنك الدولي وصفات تملى لـ “الإصلاح الهيكلي” الموجه نحو السوق؛ عبر اللبرلة والاستقرار والخصخصة، أو ما أطلق عليه في ما بعد بـ “إجماع واشنطن”.

تحت مسمى “الإصلاحات الجذرية” أو “العلاج بالصدمة”، أُنزلت هذه “الوصفات” السياسية والاقتصادية، منذ منتصف السبعينيات، في البلدان النامية و”الكتلة الشرقية”. وصار أغلب الدراسات، في السياسة المقارنة، منهجًا لفهم عدم استجابة هذه البلدان كليًا لهذه السياسات العالمية، بالتنقيب عن الحواجز الثقافية والبنيوية والسياسية أمام “اللبرلة” و”الدمقرطة”، وبالتركيز على متغير النخب والقوى الفاعلة في صناعة القرار، لإيجاد السبيل إلى “انتقال ديمقراطي” عالمي.

بناءً عليه، يولي هذا الكتاب الأهمية للتحولات التي انطلقت، في الظاهر منذ نحو ثلاثة عقود، من جنوب أوروبا وجنوب أميركا وصولًا إلى وسط أوروبا وشرقها. ولهذا الغرض اختار الكاتب مقارنة التحولات السياسية في منطقتي أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، بدراسة حالتي روسيا والأرجنتين. وعلى الرغم من صعوبات المقارنة بين المنطقتين، لتباعدهما الجغرافي ولاختلافهما على المستويات كافة، كان المنظور المقارن مهمًا في كشف اختلاف تحولاتهما وتشابه مآلاتهما. ففي روسيا بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي أعيدت هيكلة البنيات الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسات السياسية، في حين أعادت الأرجنتين توجيه وإحياء مؤسسات كانت قائمة. ومع ذلك تقاربت إستراتيجيات النخب التي سميت “إصلاحية” في البلدين، في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، في الرؤية والوسائل والأهداف والنتائج.

ولغاية تحليل وتفسير التحولات السياسية اعتمد الكاتب المتغيرات التاريخية والاقتصادية والدولية، بوصفها متغيرات مستقلة تحدد هذه التحولات في منطقتين مختلفتين، هما أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، عبر تشابه مسارين لحالتين مقارنتين، هما روسيا والأرجنتين. وبناءً على تحليل المسار السياسي الذي هيَّأ الشروط للتحولات السياسية العميقة منذ السبعينيات، في الدولة والنظام السياسي، والتي تطورت إلى نموذج مشترك للأزمة؛ روسيا عام 1998 والأرجنتين عام 2002، ستنتهي بإعادة هاتين الحالتين إلى مساريهما المتباينين.

منذ نهاية الخمسينيات وحتى أوائل السبعينيات أثارت كتابات سيمور مارتن ليبسيت (Seymour Martin Lipset-1959)، وليبسيت وستاين روكان (Lipset & Stein Rokkan-1967)، ودينكويرت روستو (Dankwart Rustow-1970)، وبيرينتون مور (Barrington Moore-1973)، وروبرت دال (Robert Dahl-1972)، النقاش حول مسألة قيام الديمقراطية وبقائها.

لتتدفق في السبعينيات الأدبيات عن عمليات التحول السياسي، التي وُضعت بعنواني “الدمقرطة” و”اللبرلة”، بخاصة مع صدور مقالة دينكويرت روستو (Dankwart Rustow-1970) عن “الانتقالات إلى الديمقراطية”، ثم موت فرانكو في إسبانيا منتصف السبعينيات، وانهيار دكتاتورية سالازار (Salazar) في البرتغال. ومع نهاية الحكم العسكري كما وقع في الأرجنتين عام 1983، وترنح كثير من الاستبداد، ظهر في منتصف الثمانينيات مشروع “الانتقالات”، الذي أسسه أودونيل وشميتر ووايتهيد (O’Donnell & Schmitter & Whitehead-1986)، في مجلدات أربعة عن “التحولات من الحكم الاستبدادي”.

وفي مطلع التسعينيات، ظهرت دراسات لباحثين مؤثرين، مثل هانتنتون (Huntington-1991) وسيفورسكي (Przeworski-1991) ودي بالما (di Palma-1990)، ترى أن “ثورات” أوروبا الشرقية، عام 1989، تمثل نزعة “دمقرطة” عالمية. فضلًا عن دراسة كارل وشميتر (Karl & Schmitter-1991) التي ساهمت كثيرًا في تأسيس أطروحة “الانتقال الديمقراطي”.

إلى جانب هذا الأدب المتراكم ظهرت مقاربات نقدية، مثَّلها أنصار مقاربة التبعية للمسار (Path Dependence) مثل ميشيل دوبري (Michel Dobry-2000)، وعلماء الدراسات السوفياتية (Sovietology) مثل فاليري بونص (Bunce Valerie-1995)، وقد أثارت الانتباه إلى تعدد السياقات والمسارات والاختلافات بين طبيعة “الانتقالات” ومآلاتها. وقد وجّه هؤلاء العلماء النقد لأطروحة “الانتقال” لافتين الانتباه إلى الاستبداد الناشئ من جديد، وإلى تعدد المسارات، مع اعتماد بعضهم مفهوم “التحول” (Transformation) عوض مفهوم “الانتقال” (Transition) لنزعته الغائية (Teleology). كما لفت طرح توماس كاروثرز (Thomas Carothers-2002) الانتباه إلى هجانة الأنظمة السياسية المسماة “انتقالية”، حيث استقرت في فترة “الانتقال”، فلم تصر ديمقراطية ليبرالية ولم ترجع استبدادية.

وقد تمكن الكاتب بعد مراجعة الأدب من تطوير مناقشته النظرية والمفاهيمية لإيجاد مفهوم للتحولات السياسية؛ كما أفضت هذه المراجعة إلى فهم حدود أطروحة “الانتقال الديمقراطي”، في تفسير التحولات السياسية، مع الاستفادة منها في استشكال مسألة الديمقراطية. في ذلك كله حاول الكاتب إيجاد مقاربة غير متمركزة أوربيًا وغربيًا، كي يتمكن من فهم وتفسير تعدد المسارات، كما بيَّنه بتحليل مساري روسيا والأرجنتين في سياقي أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية.

بحسب ما سبق فمقاربة موضوع الكتاب تدمج المنظور المقارن في دراسة الحالة، في جوانبها الاقتصادية والسياسية، مع فحص تاريخي متوسط الطول لمساري الحالتين المقارنتين. واعتمادًا على التبعية للمسار، ووفقًا للمنظور التاريخي المقارن، أمكن التشكيك في النزعتين العالمية والمناطقية على السواء. ومع أن الجزء الأكبر من الدراسات يركز على المقارنة بين بلدان أميركا اللاتينية بعضها مع بعض، ودول أوروبا الشرقية بعضها مع بعض، فالكاتب لم يجد التباعد الإقليمي للحالتين المقارنتين عائقًا لتطوير دراسة حالة مقارنة “فوق مناطقية”؛ لأن المنطقة ببساطة ليست سببًا. كما أتاحت له المقارنة بين حالتين تقويم التباين وفهم التقاطع، في ما سُمِّي ـ”الإصلاحات الجذرية” و”العلاج بالصدمة”، الذي أُخضعت له بلدان أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية في الثمانينيات والتسعينيات. ثم تحليل التفاعل بين الاقتصاد والسياسة في هذه الفترة، التي بدأت من اللبرلة في السبعينيات وانتهت مع أزمة الليبرالية الجديدة نهاية القرن العشرين.

وقد توزعت أفكار هذا الكتاب على ستة فصول أولها فصل تمهيدي يناقش مفهومي الديمقراطية والاستبداد، والجدل المفاهيمي والمعياري بينهما، وخمسة فصول ترجع أولها أدبيات الدمقرطة، وقوفًا عند الانتقادات والحدود النظرية لأطروحة الانتقال. ثانيها يحلل مفهومات التحديث وحدوده النظرية، لتصور ما يمكن أن تكون عليه التحولات السياسية غير الغائية ومتعددة المسارات. وثالثها يفحص مساري أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وتحولاتهما السياسية، لمعرفة التباين السببي في الحالتين. أما الفصل الرابع فيدرس مساري البلدين في التحول السياسي، عبر تحليل تاريخيهما السياسيين المعاصرين. ليخصص الفصل الخامس لتحليل المسارين بوصفهما حالتين مقارنتين، لمعرفة كيف تَكَوَّن نموذج مشترك للأزمة على أعتاب القرن العشرين.

ثانيًا: الدمقرطة والتحديث في ضوء مساري‏ أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية

في قضايا التحول السياسي كافة، تعترضنا أدبيات “الانتقال الديمقراطي”، التي صارت كباراديغم في حقل السياسة المقارنة. لذلك يصعب تطوير مناقشة في هذا الحقل من دون تبني أو تخطي هذه الكتاب، التي تُبنى على مفهوم إجرائي هو “الانتقال”، ومفهوم جدلي هو “الديمقراطية”، مع حصره في المعنى الليبرالي. لذلك فباستعمال متعمد لمصطلح بديل كـ “التحول” تتحتم مقاربة نقدية تجاه أطروحة “الانتقال”.

هذه الأطروحة التي تتعدد المقاربات داخلها؛ فهناك اتجاه كلاسيكي اهتم بمتطلبات الديمقراطية مثله ليبسيت (Lipset-1959)، وطوره في ما بعد لاري دايموند (Larry Diamond-1992)، واتجاه نيوكلاسيكي عن الانتقالات الديمقراطية (Rustow-1970)، تطور مع “مشروع الانتقالات من الحكم الاستبدادي” (O’Donnell & Schmitter & Whitehead-1986)، وصولًا إلى مقاربة الاتجاهات العالمية للدمقرطة (Huntington-1991) الذي تحسب أن الديمقراطية تموج في موجات.

وهذه المقاربات تجري في اتجاهين يمكن اختزالهما في كلمتين: البنية والفاعل. أسس الاتجاه الأول ليبسيت مجادلًا أن التنمية شرط مسبق للديمقراطية، لينتقده سيفورسكي وآخرون عادّين التنمية شرطًا بعديًا لبقاء الديمقراطية وليس لإيجادها. وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى منظور التاريخ المقارن الذي مثله بيرينتون مور (Barrington Moore-1973)، مجددًا الأطروحة الكلاسيكية: لا دمقرطة من دون برجوازية. والاتجاه الثاني هو اتجاه نخبوي، أسسه روستو، واتضحت معالمه مع مشروع أودونيل وشميتر ووايتهيد، والذي اهتم بدور الفاعلين وإستراتيجياتهم في الانتقال من نظام إلى آخر. استدعى الاتجاه النخبوي مناقشات النظريات النخبوية؛ بمفهوم “النخبة” مع فيلفريدو باريتو (Vilfredo Pareto-1935)، ومفهوم “الطبقة الحاكمة” لغايتانو موسكا (Gaetano Mosca-1939)، وفكرة روبرتو ميشيلز (Roberto Michels-1915) عن “الأوليغارشية”، ثم النقد الماركسي لنظريات النخبة مع نيكوس بولانتزاس (Nicos Poulantzas-1975) الذي وظف مفهوم “الطبقة المهيمنة”، ذلك كله لمعرفة أدوار النخب وعلاقة النخبوية بمسألة الديمقراطية.

كان لا بد من تأصيل هذه المناقشة بتحليل الأصول النظرية لهذه الاتجاهات المهيمنة في تفسير التحولات السياسية، بالرجوع إلى “نظرية التحديث”، وجذورها النظرية التطورية والوظيفية، مع هنري سومنر مين (Henry Sumner Maine-1861)، وفوستل دوكولانج (Fustel de Coulanges-1864)، وأوتوفون جيرك (Otto von Gierke-1868)، التي استند إليها فرديناند تونيز (Ferdinand Tönnies-1887) في التأسيس لثنائية التقليد والحداثة انطلاقًا من التمييز بين المفهومين الألمانيين (Gesellschaft) (المجتمع) و(Gemeinschaft) (الجماعة).

فوق أرضية هذه الدراسة النظرية النقدية تمكن الكاتب من نقد المنظور الوحيد، وتبيان أن مسألة الديمقراطية ليس لها لا مفهوم وحيد، ولا سؤال واحد ولا إجابة واحدة. ليعيد تركيب المسار التاريخي لأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، بوصفهما مجالين جيو-سياسيين أطَّرا التحولات السياسية في حالتي هذا الكتاب المقارنتين: روسيا والأرجنتين.

لذلك درس تجاذبات الخصوصية هاورد وِياردا (Howard Wiarda-1982) والتحديث مع ليبسيت في إعادة بناء مسار أميركا اللاتينية الذي طُبع بالتبعية، كما رأت دراسات أندريه جوندر فرانك (Andre Gunder Frank-1969)، وإرنست لاكلو (Ernesto Laclau-1971) وسيلسو فورتادو (Celso Furtado-1977)، فضلًا عن الاستبداد الجديد الذي حلله أودونيل (Guillermo O’Donnell-1979) وآخرون بمفهوم “البيروقراطية -السلطوية”.

لينتقل بعد ذلك إلى دراسة فضاء أوروبا الشرقية، وعدّه مقولة سياسية أكثر مما هو مجال جغرافي، مع الاهتمام بدور القوميات في تشكيله والهيمنة عليه. وقد تمكن انطلاقًا من فهم عيوب منظوري التحديث والانتقال كما يسميها من إعادة تقويم المسارات التاريخية المتعددة، من دون اختصارها في مسار نموذجي ومركزي “متفوق” يجب اتباعه. ولتطوير هذا الفهم انطلق من مقدمة منطقية بسيطة تفيد؛ ألا تراتبية للمفهومات ولا أولوية لمفهوم على آخر في الفهم والتفسير، بخاصة مفهوما الديمقراطية والاستبداد قطبا التحليل في هذا الكتاب؛ لذلك حاول تحييد القيم المعيارية والتحيزات الأخلاقية للمفهومين وأبقى على أهميتهما التحليلية والتفسيرية.

يعرض الكاتب نتائجه الأولية في الآتي: منذ أن وضع ليبسيت الأساس النظري الذي يربط الديمقراطية بالتنمية الاقتصادية، صارت فرضية نظرية التحديث الكلاسيكية في مسألة الديمقراطية، هي أن الديمقراطية لن تقوم إلا في البلدان “الغنية”. ومن داخل هذا المنظور حاول سيفورسكي وآخرون البرهنة على احتمالات قيام الديمقراطية في البلدان “الفقيرة”، مجادلين أن التنمية الاقتصادية لا “تخلق” الديمقراطية بل تساعدها في البقاء، من دون تفسير أساس قيامها. لذلك جاءت محاولات جديدة لربط الديمقراطية بمتغيرات غير بنيوية، كما فعل كريستيان ويلزيل (Christian Welzel) ورونالد إنغلهارت (Ronald Inglehart) (2008)، حين ربطا الديمقراطية بالتحرر الإنساني، أو دارون إسيموغلو (Daron Acemoglu) وجيمس روبنسون (James Robinson) (2006) حين ربطاها بإعادة التوزيع الاقتصادي.

تبعًا لذلك تحول النقاش من دور البنيات إلى دور الفاعلين، فتبين أن النخب لن تلجأ إلى الديمقراطية إلا لتفادي ثورة، وقد تعيق الديمقراطية إذا كانت ستهدد مصالحها. لذلك استعيدت نظريات النخبة الكلاسيكية؛ التي كادت تتفق على طوباوية المُثل الديمقراطية، لأن الأقلية (الحاكمين) تتحكم في موارد القوة وتفتقد الأكثرية (المحكومين) إلى التنظيم. ومنه تبلور اتجاه “الانتقال الديمقراطي”، الذي يمكن وصفه، بعد الدراسة، بأنه مجموعة مقترحات نظرية وخطط سياسية ترسم خارطة طريق النخبة لإقامة “ديمقراطية ليبرالية”. لذلك دافع أنصاره عن وجود -في الواقع ضرورة وجود- موجة عالمية للديمقراطية تموج بمعظم الدول غير الديمقراطية. لهذا الغرض قلَّلوا من أهمية الخصائص البنيوية وعززوا أهمية النخب السياسية. مع أن هذا التوجه استند إلى حتميات التحديث الاقتصادية نفسها عن التنمية، لكنه جعلها حتميات سياسية عن الدمقرطة. وقد بينت مجادلة مور مشكلة هذه الحتميات التحديثية مع عدم إمكان تكرار مسار أوروبا الغربية إلى الرأسمالية والديمقراطية.

تحت هذا الضوء تكشَّف لنا مسارا أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية في التحول السياسي، حيث لم توجد برجوازية داعمة للديمقراطية كما في أوروبا، وحيث أدى التنوع العرقي والإثني إلى نتائج سياسية حاسمة، بخاصة في أوروبا الشرقية. كما حتَّم التاريخ السياسي للمنطقتين نتائج تحولاتهما التي لم تبدأ مع تراجع الحكم العسكري في أميركا اللاتينية أو مع تفكك “الكتلة الشرقية”، كما تزعم أطروحات كثيرة. وبالمثل لا يمكن التسليم ببساطة بأن القيم التقليدية أو غير الغربية بوجه عام أعاقت التحديث والدمقرطة، ولا يمكن لأي تفسير جدي أن يقلل من أهمية الاستعمار والهيمنة الخارجية، الذي في ظلهما كانت تتفاعل عوامل التنوع القومي والإثني وضعف التنمية الاقتصادية وهشاشة المؤسسات السياسية.

كما يتبين في المقابل أن جزءًا من العوامل التاريخية التي تضافرت في تحديث أوروبا الغربية وتنميتها ثم دمقرطتها، هو نفسه الذي كرَّس، وحتى حتَّم، “تخلف” و”تقليدية” و”استبداد” مناطق مختلفة من العالم. لذلك تشبثت روسيا السوفياتية بانغلاقها ضد الهيمنة الرأسمالية، وتشبثت أميركا اللاتينية بـ “مؤسساتها التقليدية” ضد “المؤسسات الغربية”، كما بيَّن منظور الخصوصية (هاورد وِياردا)، المناهض لنظريات التحديث، التي ترى حاضر البلدان “المتخلفة” كماضٍ للبلدان “المتقدمة”، كما تقول مجادلة منظري التبعية التي تفسر التخلف كنتاج تاريخي للعلاقات الاقتصادية مع البلدان التي تعيش التقدم، وعليه فلا تنمية إلا باستقلال عن هذه العلاقات. وقد ترجم عدم الفكاك من هذه العلاقات عقودًا من الحكم العسكري الذي سيؤدي إفلاسه في نهاية المطاف إلى فرض برامج “الليبرالية الجديدة”، والتي ستفضي إلى أزمات اقتصادية وسياسية عميقة. وبالمثل يبين مسار بلدان أوروبا الشرقية، أن إمكانية تجاوز انقساماتها العرقية والثقافية الحادة، كانت ممكنة في لحظة تاريخية معينة من تطور قوة مثل الاتحاد السوفياتي.

ثالثًا: روسيا والأرجنتين؛ مساران بين الديمقراطية والاستبداد

انطلاقًا من تحديد المشكلات النظرية والواقعية للديمقراطية، وإشكالية شرعية الاستبداد وبقائه، تمكَّن الكاتب من بناء فهم مركب وسياقي لتحولات روسيا والأرجنتين السياسية. وقد بنى تحليله وفق مقاربة دراسة الحالة المقارنة، بتتبع المسار السياسي والاجتماعي للحالتين المقارنتين. وإذ تطورت الأرجنتين وروسيا عبر مسارين معقدين ومتباينين، فقاسمهما المشترك هو منعطف التحديث الذي فرضته تنمية أوروبا وتصنيعها، فكان على روسيا أن تتنافس وتتحارب مع القوى الأوروبية بسبب النفوذ الإمبراطوري الذي ورثته، في حين فرض التحرر والاستقلال على أجندة الأرجنتين في سياق الهيمنة الأوروبية والغربية على قارة أميركا اللاتينية.

وقد واجهت الأرجنتين الاستبدادين القديم والجديد (الحكم العسكري 1930-1983)، وكذلك روسيا خرجت من القيصرية إلى الانتقال الثوري، فسقطت لعوامل معقدة في الشمولية ثم تحولت إلى ما بعد الشمولية، وصولًا إلى تفكيك تنظيمها السياسي الإقليمي (1918-1989)، فظلت مع ذلك مركزًا إقليميًا يسقط ليعاود النهوض؛ من الإمبراطورية القيصرية وسقوطها، وبناء الاتحاد السوفياتي وتفكيكه، وصولًا إلى محاولات تجميع شتات الدول المستقلة، والاتحاد الروسي من جديد.

واستنادًا إلى تحليل ما يسميه الكاتب “نموذج مشترك للأزمة”، الذي مثلته روسيا (1989-1998) والأرجنتين (1983-2001)، توقف عند الخصائص العامة للاستبداد في البلدين؛ الاستبداد “ما بعد الشمولي” في روسيا والاستبداد “البيروقراطي العسكري” في الأرجنتين، وأدوار الدولة فيهما؛ الاقتصاد المختلط في الأرجنتين والاقتصاد المخطط في روسيا. وقد انتهى ذلك كله إلى تحويل المجتمع والدولة بـ “الإصلاحات الجذرية” و”العلاج بالصدمة” بإشراف المؤسسات المالية الدولية. والنتيجة؛ صعود قياسي للأغنياء الجدد، وانهيار تاريخي للطبقات المتوسطة، وظهور الفقراء الجدد والفقر المدقع، في بلدين كان توزيعهما الاقتصادي أكثر عدلًا. وقد جرى تفكيك الاتحاد السوفياتي، لتتسنى خصخصة وتقاسم موارد الدولة، بوصفه شرطًا لتغيير النظام السياسي والاجتماعي في روسيا، وشُنَّت “حرب خصخصة” في الأرجنتين، مع الفساد ونهب موارد الدولة في كلا البلدين.

وقد تبين أن تغيير نظامي روسيا والأرجنتين، وتحويل اقتصاديهما، كان بعيدًا من أي مفهوم معقول لـ”لإصلاح” بتعبير ستيفن كوهين (Stephen Cohen-1999)، ومع ذلك ظلت أدبيات الدمقرطة في التسعينيات تشيد بهذه التحولات، التي كانت تتحقق بالسلطوية الرئاسوية، التي مثَّلها كارلوس منعم في الأرجنتين وبوريس يلتسين في روسيا؛ اللذان سينتهي نظاماهما، إلى انهيارين ماليين كبيرين في روسيا عام 1998، والأرجنتين عام 2001-2002، ما سيمكن من إعادة النظر في السياسات الاقتصادية لليبرالية الجديدة، ويبين أن برامجها ذات نتائج متشابهة في سياقات متباينة.

ففي الأرجنتين أُغلق تدريجًا قوس الليبرالية الجديدة بصعود اليسار في بداية الألفية، مع الحفاظ على الديمقراطية الوليدة، إذ كانت الأوضاع مواتية لتظل الديمقراطية “اللعبة الوحيدة في المدينة”، بتعبير (Michel Dobry-2000). وفي روسيا كان العكس صحيحًا، فقد عاشت الليبرالية الجديدة فترة أطول بقليل، لأنها كانت توفر الغطاء، باسم “الخصخصة”، لاغتنام الموارد العمومية من أجل استقرار نظام “الأوليغارشيا” و”المافيا”، مع فترة ديمقراطية قصيرة، ستتحول سريعًا إلى ما يشبه “الديمقراطية التفويضية” بمفهوم أودونيل (1994)، لتنكمش إلى “استبداد انتخابي”، سيكتسب شرعيته، بوصفه المخرج المتبقي لوقف النهب والفساد وإسقاط الأوليغارشيا.

على خلفية تفكيك الاتحاد السوفياتي، بعد انحلاله داخليًا، بدعم وتوجيه من القوى الغربية، وإفلاس الاستبداد العسكري في الأرجنتين، بعد هزيمة عسكرية، وبعد الشروع في تطبيق برامج الليبرالية الجديدة، تضافر عاملان: الفاعلون الدوليون من المؤسسات المالية الدولية والحكومات الغربية، والنخب والطبقات الجديدة، في تحديد مصير التحول السياسي لعقدي الثمانينيات والتسعينيات. فبحجم تأثير الإرث التاريخي وعمق البنيات الاجتماعية، كان التحول أكثر نخبوية وفوقية؛ اضطلعت به النخب المحلية والقوى الدولية لتغيير الهياكل الاجتماعية والأطر السياسية، ولذلك ارتدت هذه الهياكل وهذه الأطر إلى مساراتها “الطبيعية”، فروسيا عادت إلى متطلباتها القومية والاستبدادية وعادت الأرجنتين إلى لعبتها الديمقراطية التي توصلت إليها قبل أكثر من قرن.

انطلاقًا من فهم عيوب منظورات التحديث والانتقال، ومشاكل الدمقرطة، تمكن الكاتب من إعادة النظر في تفسير وتبرير الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية، وأعاد تقويم تعدد المسارات وتعدد النتائج. فالديمقراطية والاستبداد بالنهاية ظاهرتان سياسيتان معاصرتان لبعضهما، وهما وجها العالم المعاصر، بالنسبة إليه، حيث الاختلال في توزيع الثروة والسلطة لا يزال ممكنًا ومبرَّرا. وقد عدّ أن الوهم بأن الديمقراطية هي مرحلة عليا من تطور أنماط الحكم، وأشكال الاستبداد كلها سابقة عليها قد تبدد، وبالنسبة إليه: الاستبداد لا يزال مشرعنًا الآن وفي المستقبل المنظور. إذ تتعزز حظوظ الديمقراطية حين لا تدعم موازين القوى احتكار السلطة والثروة، ويفرض واقع تاريخي توزيعهما نسبيًا بين الأطراف المتصارعة. لذلك يرى أن الاستبداد يبقى ممكنًا ببساطة حين تكون الديمقراطية غير ممكنة، في غياب قوة خارج السلطة قادرة على انتزاعها أو انتزاع جزء منها، وحيث لا يوجد صراع داخل النخبة الحاكمة أو الطبقة المهيمنة يهدد تماسكها.

بناءً على ما ورد يستكشف الكاتب التاريخ السياسي المعاصر لمساري روسيا والأرجنتين، في سياقيهما الجيو-سياسيين أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وانهيار نموذجيهما الاقتصاديين وتنظيميهما السياسيين، وتفكك التحالفات الاجتماعية والسياسية التاريخية التي كونتهما. وكيف أعيد بناء تحالفات جديدة مع صعود نخب جديدة، بالموازاة مع ظهور أغنياء جدد وفقراء جدد، نتيجة برنامج سياسي واقتصادي من “الإصلاحات الراديكالية” للليبرالية الجديدة.

لذلك يرى أن أهمية السياقات السياسية والثقافية شديدة التنوع التي تعتمل فيها التحولات السياسية، توضح أنه لا يمكن وضع نقطة نهاية للتحولات التي لا تزال جارية، والتي لم تتوقف مع دمقرطة النظام في الأرجنتين ولا مع بناء نظام استبدادي جديد في روسيا، كما لا يمكن وضع نقطة بداية لها منذ نهاية الحكم العسكري في الأرجنتين عام 1983، ولا إنهاء الاتحاد السوفياتي عام 1991.

وبالنهاية يستنتج أن التحيز الأخلاقي الذي أسس له ماكس وِيبر (Max Weber-1930)، معتمدًا نموذج الرأسمالية والتصنيع في أوروبا الغربية، مفسَّرا بـ “الأخلاق البروتستانتية”، هو الذي لا تزال تحاكم به “الأخلاق” الاجتماعية والدينية في الثقافات الأخرى. فهي مصدر إعاقة التحديث على النمط الغربي في بقية العالم، تلك “البقية” التي يتعين عليها الاسترشاد بالنموذج ومحاكاته، لذلك فأي مواجهة لهذا النموذج السائد المدفوع بالعولمة لا تكون إلا بحشد نسخة ما من القومية، التي سرعان ما تفلس في غياب أفق عالمي يسمح ببناء بدائل. ويؤكد الكاتب أنه بتحييد عامل الصراع الجيوسياسي، كما يقع بين روسيا و”الغرب”، يمكن أن تنجح العوامل الداخلية في ترسيخ المؤسسات الديمقراطية بعد أن تكون موازين القوى سمحت في ظرف تاريخي ملائم، بناءً على عوامل كثيرة، بتأسيسها وتفكيك النخبة السلطوية وإنهاء نفوذها، كما وقع في الأرجنتين بعد إفلاس شرعية البيروقراطية العسكرية في عقب هزيمة عسكرية، لذلك يرجح انهيار شرعية نظام بوتين في حالة هزيمته في أوكرانيا، والعكس صحيح.

 

رابعًا: أهم الاستنتاجات

في مرحلة مبكرة من البحث أعلن الكاتب أن مفهوم “التحولات السياسية” ليس مفهومًا نظريًا، مجادلًا مع ذلك أن للمفهوم مجالًا واسعًا للاستعمال الإجرائي في وصف وتحليل معقولية التحولات السياسية، التي يؤطرها المسار والعوامل البنيوية، وتفعِّلها النخب المحلية والمؤسسات الدولية والعوامل الجيوسياسية. لذلك تفاعلت لديه إستراتيجية البحث نقديًا مع أطروحات التحديث والانتقال، مستوعبة طرائق وأشكال التغيير السياسي المختلفة ونتائجها المتباينة، مع اهتمامه بالمحرك الرئيس الذي هو التبدّل؛ أي تلك المتغيرات التي تقلب واقعًا وتغير مجرى مسار. لذلك يعدّ الاستقرار والثبات هو خارج أي مفهوم ممكن لـ “التحولات”، ويعلن أنه: يوجد أكثر من تحول في البلد الواحد، كما توجد تحولات كثيرة بحسب كل بلد.

واستنادًا إلى التحليل البنيوي الذي استعرضه الكاتب مع نظرية التحديث واتجاهاته النقدية، تبين أن الديمقراطية مرتهنة في قيامها وبقائها بالتنمية. وكذلك يبين منظور التاريخ المقارن أن للتاريخ ممرات متباينة يخط فيها المسار السابق الطريق لعبور المسار اللاحق. وفي التحليل النخبوي يتبين أن حظوظ الديمقراطية تزيد حينما تكون أقل خطورة على مصالح النخب. ليستنتج الكاتب أن الفاعلين، ومنهم الدوليون، يحددون وجهة التحولات السياسية، بينما تحدد البنيات عمقها وطبيعتها.

وقد عدّ أنه في أحيان كثيرة انكمشت الديمقراطية إلى مجرد عملية موافقة بالاقتراع العام على تداول النخب الحاكمة للسلطة، حيث مظاهر “الديمقراطية الانتخابية” (الأرجنتين) و”الاستبداد الانتخابي” (روسيا) رافقت الإصلاحات والتغيير الاقتصادي والسياسي. وكما يتبين على طول صفحات الكتاب أن الحكومات الاستبدادية كانت شرطًا للإصلاحات الاقتصادية، واللبرلة السياسية كانت لتعوق اللبرلة الاقتصادية. إذ يُبيِّن مسارا أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية في التحول السياسي، تعقُّد المسارات التاريخية؛ لذلك يقول الكاتب إنه لا يوجد تحول واحد في النظام والدولة، ولا طريق واحد، ولا وجهة واحدة؛ وبالنسبة إليه فالمسارات متعددة وليس لها طابع عالمي.

بالموازاة مع ذلك يبين الكتاب كيف أن أهمية عامل إضعاف المجتمع المدني الموروث أو المعاد اكتشافه؛ ففي الاتحاد السوفياتي، حيث فُكِكَ المجتمع المدني طوال عقود، في مجتمع مبني على التصنيع والتحديث السريع، حولت البيروقراطية (Nomenklatura) الطبقة العاملة إلى كتلة صماء من الأفراد العزل الذين لا دور سياسي لهم في مجتمع مبني نظريًا على مصالحهم، وبعد تفكيك هذا التوازن، لم تجد النخبة الليبرالية الجديدة (الأوليغارشية) صعوبة من تطويع النظام الدستوري لمصالحها كلية. أما في الأرجنتين فقد انبثق المجتمع المدني من جديد، بفضل “أمهات ساحة ماي”، ولأن التكتلات الشعبية لم تُسحق تحت ضربات “الحرب القذرة” للحكم العسكري ضد المعارضة، وعلى الرغم من انفراط التحالف الشعبي، الذي قاده البيرونيون عقودًا، وقوامه “كتلة تاريخية” من قطاعات من الطبقتين الوسطى والدنيا، تحولت إلى حركات اجتماعية عارمة للعمال العاطلين والفقراء الجدد، ما صعَّب على النخب الجديدة مهمة الهيمنة وهندسة النظام السياسي والدستوري وفق مصالحها، وما فَتَح المجال أمام ديمقراطية هشة تقوت تدريجًا ولم تسقط، كما أخفق الحكم العسكري في تجديد شرعيته بعد هزيمته في حرب جزر مالفيناس، بعكس روسيا حيث تمكن النظام، بعد استقرار الحكم وتحول ناجح من نظام إلى آخر، من إيجاد منبع جديد للشرعية بشن حروب إقليمية مبررة بالدفاع عن حدود الدولة وتعزيز نفوذها في فضائها الجيوسياسي (الشيشان 1994، كوسوفو 1999، جورجيا 2008، شبه جزيرة القرم 2014، أوكرانيا 2022).

منذ صعود منعم بولايتين متتاليتين (1989-1999) تحول البيرونيون، الذين بنوا هويتهم السياسية على القومية الاقتصادية، إلى ممررين للتدابير الليبرالية الجديدة، إذ توافقت، في صورة مفارقة، الشعبوية مع الليبرالية الجديدة وسميت هذه الظاهرة “الليبرالية الجديدة الشعبوية”. ومنذ إعلان الاتحاد الروسي (1991)، في عقب صعود يلتسين بولايتين متتاليتين (1991-1999)، شُرِع في خصخصة المؤسسات العامة وفتح الاقتصاد، واغتنام ممتلكات الدولة عبر أكبر نافدة فساد في تاريخ روسيا المعاصر، نُهبت فيها الموارد الطبيعية الغنية في ظلّ فوضى تفكيك الاتحاد السوفياتي؛ لم ينتهِ هذا الوضع إلا مع نهاية بوريس يلتسين السياسية وصعود فلاديمير بوتين. فقد تمكن الزعيم الجديد، منذ عام 2001، من إعادة هيكلة النظام السياسي، وإقامته على نوع من “الإجماع” على قيادة الرئيس في ما يشبه “الديمقراطية التفويضية”، لاستعادة قوة الدولة ونفودها الجيوسياسي، وهي المهمة التي نجح فيها وهو يقود تحالفًا جديدًا من النخب الأمنية والبيروقراطية الجديدة التي صعدت معه، حيث استرجع مفهوم الأمة الروسية الإمبراطوري وجدد مشاعرها القومية. وقد رسخ طوال عقدين شرعيته بناءً على تحدي النفوذ الغربي، وتأسيس عقد اجتماعي في الداخل قائم على قبول الإقصاء والسلبية السياسية، في مقابل الاستقرار والأمن وتوزيع اقتصادي مقبول من قطاعات واسعة؛ كما اتضح مع الأزمة العالمية لعام 2008 وانخفاض أسعار النفط، ومع العقوبات الغربية منذ 2014، ما هيأ النظام لحساب وخوض مغامرات إستراتيجية؛ كضم شبه جزيرة القرم عام 2014 وغزو أوكرانيا في 24 شباط/ فبراير 2022.

وفي النهاية يقول الكاتب إن عمليات الدمقرطة والاستبداد هي عمليات متلازمة مع قوة موازين القوى الدولية. ففي ما سبق فرضت الديمقراطية على الدول المنهزمة في “الحرب العالمية” الثانية، وفرضت بطرائق غير مباشرة على بلدان أخرى. وبالموازاة لم تسمح التدخلات الخارجية، بإقامة الديمقراطية في عدة بلدان، عبر تكسير مساراتها في تغيير الأنظمة السياسية. ليتضح أن أحد مصادرها، كما تبين الحالة الروسية، هو توسع النفوذ الغربي نفسه، إذ يطالب خصومه بالديمقراطية وفي الوقت نفسه يدعم كثيرًا من حلفائه المستبدين. كما تعوق أقوى الدول كالولايات المتحدة تطور كثيرٍ من الديمقراطيات، وتهدد استمرارها، لأنها لا تقبل استقلال قرارها السياسي والاقتصادي، بخاصة في أميركا اللاتينية (شيلي، البرازيل، الأرجنتين، بوليفيا، فينزويلا…). وعليه يصل الكاتب إلى الآتي: “تتمثل معضلة الديمقراطية المعاصرة بإقامة ديمقراطية حقيقية مع سيادة وطنية كاملة يمكن حمايتها من دون استبداد”.

 

أحمد الحاقي

باحث من المغرب، دكتور في العلوم السياسية، أستاذ زائر في كليات الحقوق. مهتم بعلاقات السلطة والمجتمع، والنظرية السياسية والتحولات السياسية والحركات الاجتماعية، وقضايا التحو المناخي. له عدة دراسات منها "الأبعاد السياسية لقضية المناخ: من يدفع الثمن؟"، و"تعلّم الحركة الاجتماعية: ماذا تقول حركة إيميضر عن العدالة المناخية"، وصدر له كتاب "السلطة السياسية في المغرب: التحولات السياسية والاجتماعية منذ الاستعمار"، أفريقيا الشرق 2023.

مشاركة: