اختار حسام الدين درويش لكتابه العنوان الآتي: “منمنماتٌ فكريةٌ في الفلسفة والحياة (اليومية) والقضية الفلسطينية”. ولأن للعنوان دلالةً مهمّةً، أبدأ تقديمي للكتاب، عبر تناول العنوان. يحتوي الكتاب على مجموعةٍ من المنمنمات، وذلك لأنه متعدد الموضوعات والتي تجمعها وحدة المنهج والأسلوب السجالي. ليس للكتاب موضوعٌ واحدٌ، ولا فكرةٌ واحدةٌ موجهةٌ. الوحدة تبقى بأسلوب الطرح من جهةٍ، وبارتباط جميع الأفكار المطروحة بقضايا الرأي العام من جهةٍ أخرى. ويستحق أسلوب الطرح ومنهجيته دخولًا في التفاصيل والذي أتناوله بعد تناول ما وضعه درويش بين قوسين وأعني مفردة (اليومية).
ربط درويش ما بين اليومي والفلسفة على نحوٍ يبدو فيه مخالفًا لموروثٍ فلسفيٍّ طويلٍ كانت الفلسفة فيه تتعالى على اليومي باتجاه مثلٍ عليا أو باتجاه أفكارٍ مجردةٍ وأنساقٍ نظريةٍ ما-فوقيةٍ. وأستحضر، في هذا السياق، مقالةً لبيير ماشوري Pierre Macherey بعنوان “هل اليومي موضوعٌ فلسفيٌّ”Le quotidien, objet philosophique? لا يكتفي ماشوري بتأكيد فلسفية اليومي وحسب، بل يقدم نقدًا، من خلال اليومي، لتعالي الفلسفة عما هو في الأسفل، أو في الأعماق، وتهرُّبها من النزول إلى قاع المشكلات نحو السماء. ويذكُر طرفةً حدثت مع الفيلسوف طاليس الذي تعثر بحفرةٍ، بينما هو يتأمل السماء، بحثًا عن الحقيقة. يبدو اليومي بالنسبة إلى الفلسفة والفيلسوف، ويمكن أن يكون كذلك الحال للمثقف والمفكر، على أنه عثرة أو جورة نقع فيها. وينقل أرسطو طرفةً عن هرقليطس الذي قال، عندما فوجئ الناس به جالسًا في فرنٍ بالقرب من النار، وكأنه ليس على الفيلسوف الخروج من برجه، والدخول في ما يدخله الناس في حياتهم اليومية: “وهنا أيضًا تسكن الآلهة”. ليست الشياطين وحدها من يسكن في أفران همومنا اليومية، بل الآلهة أيضًا، كما يقول هرقليطس.
ولكي لا يساء فهم اليومي، هنا، نحتاج، ربما إلى مفهمته، فليس المقصود باليومي ما اعتدنا فعله في يومياتنا من استيقاظٍ عند الصباح، والذهاب إلى العمل والأكل والشرب ولقاء الأهل والصحبة. المقصود بالأحرى، ما نفكر فيه بوصفه همًّا يوميًّا، لدى عامة الناس، مرتبطًا بقضايا عامةٍ، كقضايا الرأي والحرية وعيشنا المشترك وقيم مجتمعنا وهوياتنا الجامعة. أغلب المفهومات المطروحة في هذا الكتاب والمشكلات التي ترتبط بها، تتعلق بهمٍّ عامٍّ ينتزعه درويش من مقالاتٍ وكتبٍ وندواتٍ تتناول أفكارًا تجعل من راهنيات السياسة والحياة الاجتماعية موضوع نقاشٍ. لهذا، تجده يناقش مقالةً تتحدث عن وجوب احترام الاختلاف الثقافي عبر حدث أو واقعة من حياتنا اليومية كعادة (لعق البوظة).
وتقوم سجالات درويش على مناقشة الخطابات، وتفتيت مفهوماتها، وتفكيكها، وتبيان ما فيها من تناقضاتٍ، ومن تطويع تقل الأمانة فيه، أحيانًا أو الدقة. والخطابات هي مادة سجالاته، فقلما يذهب خلفها في بناءٍ مستقلٍّ عنها. فالحديث عن الديمقراطية، إنما هو حديثٌ عنها، كما هي حاضرةٌ في هذا الخطاب أو ذاك، وكذلك حال العلمانية والإسلامية والهوية والاختلاف والتعددية الثقافية. ويردنا هذا إلى عدته الفلسفية من مفهومات ومن مناهج تجمع ما بين تفكيكٍ وتأويلٍ.
وحتى، في حواراته في هذا الكتاب، أي في لقاءاتٍ أجريت معه، تجده مساجلًا مجادلًا في خطابات يحاول تحديد تطرفها. والتحديد، أي كشف حدود أي خطاب، هو الصيغة النقدية التي يتبناها عبر تفتيت ما يسميه المثنويات والازدواجيات؛ وكأنه يرى، في عملية رسم الحدود، إمكانيةً للحوار، ومن دونها تبقى الخطابات في حالة صراع هتٍّ وتعييرٍ. ولا يطرح درويش حلًّا بديلًا عما تتضمنه تلك الخطابات المنتقدة، بل يحاول على ما يبدو تأسيس أرضيةٍ لحوارٍ ممكنٍ بين خطاباتٍ متصارعةٍ. الحوار هو رهانه الذي يحاول أن يؤسس له عبر انتقاد أطراف الصراع الفكري دونما انتماءٍ إلى أيٍّ منها. وانتقاد الجميع مجازفةٌ، لأنه قد يوحي بحيادية المتفرج، أو كمعلقٍ على مباراةٍ لا يشجع فيها أحدًا. وهذا يبعده، ربما، عن كلا الفريقين، في وقتٍ يحاول هو التقريب بينهما.
وإضافة إلى رسم الحدود، يشدِّد درويش على أمرٍ مهمٍّ إن كان بصيغة النقد أو الإشادة، وهو التوازن والاتزان في طرح الأفكار. والاتزان، كما الحذر، سمةٌ من سمات العقلانية. واتزان حسام في عملية الفهم والتقريب، أحيانًا، قد يتعرض لسوء فهمٍ؛ كأن يبدو وكأنه يقوم بعملية توفيقٍ تلفيقيةٍ بين خطاباتٍ تبالغ في أيديولوجياتها وفي حديتها. ففي تجنبه الوقوع بالجوهرانية، في حكمه أو في محاكماته لتلك الخطابات، تجده يبالغ في البحث في الممكنات النظرية. فيمكن أن يكون الإسلامي ديمقراطيًّا نظريًّا، وفق نظرية الابتعاد عن الجوهرانية، بدليل أن بعض الإسلاميين يدعون علنًا تبنيها. وبينما يعمل منهج التفكيك على إظهار أن المزاعم الديمقراطية لهذا “البعض” هي مجرد قشورٍ، الأمر الذي ربما يفتت مصداقية ذاك التبني، تعمل مقاربة الفهم والتأويل على تصديق المعلن أو افتراض صدقه.
ويسجل درويش استغرابه من استخدام بعض أطراف الخصومة الفكرية والأيديولوجية، في محاجاتهم، لمفهومات وقيمٍ لا يؤمنون بها. يذكر، كمثالٍ، على ذلك نقد أحد أعضاء حزب التحرير، وهو حزبٌ إسلاميٌّ لا يؤمن بالديمقراطية، لمحاضرين في مؤتمر عن العلمانية، بأنهم لم يحترموا حقه الديمقراطي بالنقد. وتكشف هذه الواقعة إلى أي مدى قد تتجاوز الصراعات الأيديولوجية، في الحقب المأزومة، قيمة المفهومات ذاتها، عندما تتحول إلى مجرد عصيٍّ لضرب الآخر. من هنا، يبدو رهان درويش على السجال والحوار، عبر رسم حدود الخطابات وتبعيض الأحكام وافتراض الصدق في ما هو معلن، أشبه بالمغامرة والتي تجعل من اتزانه نفسه طرفًا في مثنويةٍ قائمةٍ على اتزانٍ عقلانيٍّ في مقابل تطرفِ أيديولوجيةٍ.
ثمة جدةٌ في مغامرة درويش، وإن بدت، أحيانًا، مستفزةً، في تقريبه للفلسفة، من اليومي، وفي رهانه على الحوار، في زمن الأيديولوجيات المفتوحة على الصراع والمنغلقة على ذاتها. وتؤكد هذه المقاربات السجالية أهمية أن يأخذ المرء مسافةً من الأفكار المطروحة والابتعاد عن التخندق، تجنبًا للوقوع في صراع المهاترات على مستوى الفكر. كما أنها تفتح العيون على أهمية القراءة النقدية للذات، حتى عندما يمس الأمر أكثر القضايا حساسيةً كالمسألة الفلسطينية وعلاقتنا بالآخر. وعندما تكون المشكلة في صراعاتنا، وفي خلافاتنا، يبدو الحوار، ليس مهمًّا وحسب، بل ضرورة لا غنىً عنها، وتبدو الحقيقة، كما الحلول، حواريةً.