أزمة التاريخ والذاكرة في الشرق: مقارنة بين إسرائيل، سوريا، إيران وتركيا

مقدمة

في عام 1936 كتب الفيلسوف الألماني روزنستوك هويسي مقالةً بعنوان “مأزق التاريخ”. ويرى هويسي بأن هناك صراعًا بين التاريخ والذاكرة على تمثيل الماضي بدأ منذ القرن العشرين. فالذاكرة هي سرد عاطفي لأحداث من الماضي بطريقة تجعل الحاضر استمرارًا لهذه الأحداث، أو نتيجة من نتائجه. والسرد الذاكراتي يحمل أحاسيس ومشاعر تجاه هذه الأحداث. أما التاريخ فهو علم يقوم بالتحقيق بأحداث الماضي والأسباب التي قادت إلى حدوثها بالشكل التي حدثت عليه وسردها بشكل منفصل عن الحاضر. ورواية التاريخ للماضي مجردة من الأحاسيس والمشاعر. فعلى سبيل المثال إن ما يجعل الفرنسيين يشعرون بالفخر عند ذكر الثورة الفرنسية، فذلك لكونها جزءًا من الذاكرة الجماعية للشعب الفرنسي وأُدخلت في عملية التعليم الوطني على أنها ذاكرة خلقت حاضر الفرنسيين المعاصر وستظل تسهم في مستقبلهم. فلو تحدث سياسي فرنسي عن الثورة الفرنسية، فسيكون خطابه عاطفيًا مملوءًا بالأحاسيس والفخر تجاه هذا الحدث. وسيشعر المستمع إليه وكأن الثورة الفرنسية أسقطت الملكية أمس، وليس منذ أكثر من مئتي عام. أما لو كان المتحدث مؤرخًا، لبدأ حديثه عن الفقر والاضطرابات الاجتماعية، الدينية والسياسية في باريس في تلك الفترة، وكيف تطورت الأحداث بعدها. سيتحدث المؤرخ عن عالم مختلف تمامًا عن فرنسا التي نعرفها اليوم. إذًا الفرق الجوهري بين سرد التاريخ والذاكرة هو اللغة المستخدمة، فلغة الأول هي الموضوعية العلمية، أما لغة الثانية فهي العاطفة والأيديولوجيا.

وصحيح بأن الذاكرة انتقائية تجاه الأحداث التي ترويها وتنطق بلغة أيديولوجية، إلا أنها مهمة جدًا في تكوين أي شعب بالمعنى السياسي، والذي بدونها لا يمكن أن تستقر الدولة القومية التي ينتمي إليها هذا الشعب. ولذلك فإن التاريخ لا يجب أن يحارب الذاكرة بغرض تدميرها بل يجب أن ينتقدها بغرض تنقيتها وتحجيمها عن بناء أيديولوجيا سلبية وتدويرها في المجتمع. ويرى هويسي بأن تدمير الذاكرة كليًا سيقود الشعب إلى البحث عن بدائل لمعنى وجوده التاريخي في الأساطير الشعبية. وهذا ما حدث حينما دمر التنوير في ألمانيا التراث والذاكرة المسيحية تمامًا، فاعتمدت النازية مطلع القرن العشرين على الأساطير الشعبية، التي تقول بنقاء وتفوق العرق الآري، في بناء أيديولوجيتها المعادية لبقية الشعوب. وهذه مسألة ما زالت تشكل مشكلة لعدة دول قومية في الشرق اليوم منها تركيا، إسرائيل، إيران، وسوريا.

في هذه المقالة أتحدث عن أزمة التاريخ في البنية الأيديولوجية للدولة القومية في إسرائيل. سأوضح بداية صراع الذاكرة والتاريخ في الدولة القومية الحديثة في دول الشرق الأوسط وذلك من خلال المقارنة بين الأسطورة السياسية في كلٍّ من إيران، سوريا وتركيا، ثم أناقش خصوصية الصراع بين الذاكرة والتاريخ للدولة القومية في إسرائيل. ثم سأنتقل لنشأة مدرسة المؤرحين الجدد في إسرائيل منذ ثمانينيات القرن الماضي والصراع مع الذاكرة والأسطورة الصهيونية التي ما زالت تشكل أساسًا مهمًا للتاريخ القومي الرسمي في إسرائيل.

أولًا: الأسطورة في الدولة القومية الحديثة في الشرق، مقارنة بين إيران، سوريا، تركيا

تنتمي النخبة الحاكمة في إيران إلى تيار الإسلام السياسي الشيعي، ولذلك فهي تحاول تهميش تراثها الفارسي من جهة لأنه يتعارض مع الأيديولوجية الإسلاموية للنخبة الحاكمة، وتحاول تهميش ذاكرتها السنيّة من جهة أخرى لأنها تتعارض مع الأيديولوجية الشيعية من جهة أخرى. وغياب تاريخ نقدي في إيران مستقل عن السلطة، فتح الباب واسعًا أمام أسطورة الولي الفقيه التي يعتمد عليها النظام السياسي بشكل أساسي لتشريع وجوده وبقائه في الحكم. ونظرية الولي الفقيه تقول بتولي الولي الفقيه في إيران شؤون الأمة الإسلامية ريثما يعود الإمام المهدي من غيبته، وهذه الأسطورة تشكل جزءًا مهمًا من الذاكرة الشعبية الشيعية، كما أنها تدخل في عملية التعليم الرسمي. وبسبب غياب فحص تاريخي نقدي للذاكرة الشعبية والأساطير المتشابكة معها، فإن ذلك يخلق نوعًا من الشعور الأسطوري بالمظلومية الجماعية للإنسان الإيراني بسبب تفوقه على بقية الشعوب. وهذا الشعور تساهم النخبة الحاكمة في إيران في تعزيزه من خلال اللغة المستخدمة في خطاباتها السياسية التي تحاكي على الدوام فكرة الدولة المستهدفة بالمؤامرات من بقية الدول بسبب تميزها.

أما في سوريا، فقد عاشت وما زالت تعيش صراعًا محمومًا بين التاريخ والذاكرة. فبعد استقلال سوريا عن الاستعمار الفرنسي في نهاية أربعينيات القرن الماضي سعت النخب العلمانية الحاكمة لتهميش الذاكرة الإسلامية التي سادت لعصور طويلة في تاريخ سوريا، وتغليب الذاكرة العربية. إلا أن فكرة العروبة التي قامت عليها الدولة القومية بعد الإستقلال جزء لا يتجزء من الذاكرة الإسلامية. فالعرب استوطنوا سوريا بعد الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، أما ما قبل القرن السابع فقد كانت سوريا جزءًا من الإمبراطورية الرومانية والتي لا تمت للعروبة بصلة. وبالتالي فإن النخب الحاكمة أخرجت العروبة من سياقها الإسلامي، وقولبتها بقالب لا يتناسب معها حينما حاولت تعريب التاريخ الروماني لسوريا وذلك بهدف خلق ذاكرة عربية علمانية مهيمنة. ونتج عن الصراع بين التاريخ والذاكرة في سوريا، ذاكرة تحاكي هوية عربية وليدة ليست موجودة لا في التاريخ السوري ولا في الذاكرة. ونتج عن هذا الصراع بأن الإنسان السوري اليوم يؤمن بأسطورة مفادها بأنه الإنسان العربي النقي الذي يشكل آخر حصون الدفاع عن الأمة العربية ومصالحها، ويقف وحيدًا في وجه المؤامرات التي تستهدف استقلال هذه الأمة المتمايزة عن غيرها.

أما بالنسبة إلى تركيا، فبعد سقوط الدولة العثمانية سعت الحركة الوطنية التركية لتتريك الذاكرة التركية بشكل كامل، والتخلي عن تراثها الإسلامي الشرقي لأن النخبة العلمانية التركية رأت حينها بأن هذا التراث هو سبب التخلف، وأن مستقبل تركيا مع الغرب وليس مع الشرق. إلا أن النخب العلمانية التركية لم توجد بديلًا لهذا التراث من الذاكرة التركية، ومع محاولات ربط تركيا بالغرب كان المفكرون الأتراك يستوردون الذاكرة الغربية بشكل لاواعٍ لبناء مفاهيم الأمة التركية عليها. وهذا الصراع أنجب في نهاية الأمر أسطورة الإنسان التركي العلماني المتمايز عن الشرق والغرب معًا. وفي العقود الأخيرة، مع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة، وهو حزب تقوم الكثير من مفاهيمه وأيديولوجيته على الإسلام السياسي السني، بدأ التراث الإسلامي التركي يجد مكانًا له في الذاكرة التركية إلى جانب تراثها العلماني الذي تبنته الدولة منذ نهايات القرن العشرين. إلا أن الصراع أصبح محتدمًا داخل الذاكرة نفسها، بين الذاكرة العلمانية التركية من جهة والذاكرة الإسلامية التركية من جهة أخرى. وذلك، برأيي، بسبب تهميش الفحص النقدي التاريخي لهذه الذواكر، وتغليب دور الخطابات السياسية على كتابات المؤرخين. فعلى سبيل المثال ما زالت هناك أسطورة تسود الأوساط الشعبية التركية بشكل واسع تقول إن سقوط الدولة العثمانية كان بسبب الشعوب غير التركية التي خانت وتآمرت ضدها. أمام هذه الأسطورة توجد مساحة صغيرة في أروقة الجامعات والبحث العلمي في تركيا تعزو الأسباب الحقيقية لسقوط الدولة العثمانية لضعف شخصيات القصر منذ القرن الثامن عشر، التراجع العلمي والاقتصادي والعسكري العثماني في مقابل تفوق أوروبي في شتى المجالات، إفلاس السلطة العثمانية، فساد موظفيها المدنيين والعسكريين، قمع الشعوب غير التركية وتهميشها، وغيرها من الأسباب التي لا مجال لبحثها هنا.

ثانيًا: خصوصية الصراع بين التاريخ والذاكرة في إسرائيل

في إسرائيل، يتشابه الوضع مع بقية دول المنطقة في أن هناك صراعًا بين التاريخ والذاكرة، إلا أن الاختلاف يكمن في طبيعة هذا الصراع في عدة مسائل. المسألة الأولى: تأسست دولة إسرائيل في أربعينيات القرن العشرين على أرض فلسطين، في بقعة جغرافية ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط بجهود الصهيونية، وهي حركة قومية علمانية نشأت منذ نهايات القرن التاسع عشر في أوروبا على أيدي مفكرين يهود. واعتمدت الصهيونية على الذاكرة الدينية لليهود لخلق مفهوم الأمة اليهودية. وبالتالي فإنه لا توجد لا ذاكرة ولا تاريخ مشترك بين الصهيونية والجغرافيا التي أقامت عليها دولتها. فالصهاينة الأوائل وُلدوا وعاشوا في أوروبا وليس في الشرق هذا من جهة. ومن جهة أخرى إن علمانيتهم يفترض أن تقصيهم بشكل أو بآخر عن الذاكرة الدينية اليهودية التي اُعتمدت لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

المسألة الثانية: لقد عاش اليهود لعصور طويلة كأقليات في مختلف دول العالم، تأثروا بالمجتمعات التي عاشوا معها وأثروا فيها، فكان لكل مجتمع يهودي تجربته الخاصة التي تختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر حتى في المكان نفسه. فعلى سبيل المثال عاش اليهود في أوروبا كأقلية وحيدة بجانب الأغلبية المسيحية التي عاملتهم بازدراء لأسباب دينية، ما دفع اليهود إلى الانعزال الاجتماعي فكان التأثير المتبادل بين اليهود والمسيحيين في أوروبا محدودًا. وحتى بعد صدور مراسيم تحرير اليهود في أوروبا منذ القرن التاسع عشر، استمر معظم اليهود في أوروبا بالحفاظ على عزلتهم الاجتماعية في ذلك الوقت نتيجة التجربة المسبقة لقرون طويلة. وبالتالي فقد ترك تاريخ اليهود في أوروبا ذاكرة اجتماعية ودينية سلبية لدى المجتمعات اليهودية اتسمت بالشعور الدائم بالمظلومية والخوف. أما تجربة اليهود في العالم الإسلامي فقد كانت مختلفة، فقد عاش اليهود في الدولة العثمانية، على سبيل المثال، كأقلية من بين عدة أقليات. اتبعت الدولة العثمانية نظام الملّة الذي يمنح الأقليات غير المسلمة الاستقلال في شؤونهم الدينية، فأسهم هذا النظام بفتح المجال للتأثير المتبادل بين اليهود وبقية المجتمعات سواءً الأغلبية المسلمة أو الأقليات الأخرى.

علاوة على ذلك فقد كانت العلاقة بين اليهود والدولة العثمانية إيجابية لكونها تلبي رغبات الطرفين. فاليهود لم يكونوا ليتمردوا ضد الدولة العثمانية لأنهم عاشوا في مراكز المدن إلى جانب الأغلبية المسلمة، فلم يكن لهم وجود مركزي في مكان واحد يشكلون فيه أغلبية ويصلح للتمرد أو طلب الاستقلال الذاتي، كما في حالة الدروز الذين شكلوا أغلبية في جبل العرب جنوب سوريا، أو العلويين في جبال الساحل السوري وأنطاكية. أما السبب الثاني فإن اليهود يؤمنون بالحفاظ على العهد الإلهي بعدم الثورة على الحاكم في دول الشتات حتى وإن مورس ضدهم القمع. إذًا، فالاستقلال في الشؤون الدينية لليهود، جعل من الدولة العثمانية بيئة اجتماعية وسياسية جيدة لهم. ومن جهة أخرى، إن فكرة عدم التمرد ضد السلطة العثمانية التي حملها اليهود في أذهانهم، جعل منهم أقلية مثالية للدولة العثمانية التي كانت تخشى من تمرد الشعوب التي تحكمها. ولذلك اتسمت ذاكرة اليهود العثمانيين والعرب بالإيجابية مقارنة بالذاكرة اليهودية الأوروبية. وبالتالي فإن التجارب المختلفة لليهود بحسب المكان الذين عاشوا فيه تفسر مواقفهم المختلفة من فكرة الدولة القومية. ففي حين سعى مفكرون يهود في أوروبا، وألمانيا خصوصًا، لإيجاد مكانٍ لهم في الدولة القومية الحديثة التي حلّت محلَّ الإمبراطوريات القديمة، نجد أن مفكرين يهودًا في الدولة العثمانية نادوا بالتمسك بالإمبراطورية العثمانية بشكلها القديم.

المسألة الثالثة تتمثل بهجرة اليهود منذ عام 1882 إلى فلسطين بغرض إقامة دولة يهودية فيها. كانت الهجرة الأولى من شرق أوروبا، تلاها الأوربيون الغربيون، ثم هجرة اليهود من مختلف أنحاء العالم وتزايدت بشكل كبير منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948. وبالتالي فقد تم تأسيس الدولة من مجتمعات يهودية تحمل خبرات وذواكر مختلفة، مجتمعات يهودية غير متجانسة ثقافيًا ولا لغويًا، ولا تاريخيًا. ومن أجل بناء شعب سياسي ينتمي إلى الدولة الوليدة، فإن الصهيونية كانت في حاجة إلى لغة رسمية واحدة مشتركة، تاريخ رسمي واحد مشترك، ثقافة اجتماعية ودينية مشتركة. فحلّت اللغة العبرية بشكل قسري محل كل اللغات الثانية التي جلبها اليهود معهم من بلادهم التي هاجروا منها، وتم إقصاء وتهميش من لا يتحدث العبرية. وحلّت التوراة محل كتب التلمود التي أسست الثقافات الدينية للمجتمعات اليهودية المختلفة. وهيمنت الذاكرة اليهودية الأوروبية السلبية القائمة على المظلومية على التاريخ الرسمي لإسرائيل، وتم تهميش ذاكرة اليهود الشرقيين. وهذا ما قاد في نهاية الأمر إلى أن يحاكي التاريخ الرسمي الإسرائيلي بشكل كبير الأساطير الدينية، كتسمية حرب 1948 بحرب “الاستقلال”، وعدِّها بمنزلة نصر إلهي موعود لليهود، ومؤشر لبداية نهاية العالم.

إن هذه المسائل الثلاث تلخص أزمة كبيرة في تاريخ دولة إسرائيل الحالية، فالصهيونية حركة علمانية تعتمد بشكل أساسي على الذاكرة الدينية لليهود لتحويل اليهود إلى شعب بالمعنى السياسي ينتمون إلى إسرائيل الدولة القومية الجديدة. وبالتالي فإنه تم تكييف التاريخ والذاكرة أيديولوجيًا لتتناسب مع هذا الغرض. وذلك لم يكن ليشكل عبئًا مع الجيل المؤسس في أربعينيات القرن الماضي، لكونها كانت فترة تأسيسية من جهة، وفترة حروب مع العرب من جهة أخرى. لكن بعد استقرار الدولة وشعور مواطنيها بالأمان كان لا بد للجيل الثاني من أن يفتح الباب أمام المسائل العالقة. فطرح الجيل الثاني من الإسرائيليين مسألة أصولهم القومية وثقافاتهم الخاصة ولغات وذاكرة آبائهم، فعلى سبيل المثال طرح اليهود الإسرائيليون من أصول عراقية، مثل إيلا حبيبة شوحط وآفي شلايم مسألة تهميش الهوية والثقافة العربية لليهود في إسرائيل، ومسألة أسطورة العداء التاريخي بين العرب واليهود التي تتبناها الأيديولوجية الصهيونية. مسألة أخرى تناولها الجيل الثاني بقوة، وهي مسألة كان الجيل المؤسس قد تغافل عنها قصدًا هي ماهية دولة إسرائيل هل هي دولة علمانية أم دولة دينية. إن الصراع بين هذه الذواكر الاجتماعية المختلفة لليهود من جهة وصراع الذواكر مع التاريخ الرسمي من جهة أخرى فتح المجال لكثير من الأساطير القومية وكان في نهاية المطاف أحد الأسباب التي أدت إلى ظهور مدرسة المؤرخين الجدد في إسرائيل.

ثالثًا: المدرسة التاريخية الجديدة ونقد التاريخ الرسمي

حينما غزت حكومة الليكود لبنان عام 1982 سعت لشرعنة هذا الغزو من خلال إيجاد استمرارية تاريخية بين أعمالها وأعمال الآباء المؤسسين عام 1948. ادّعى مناحيم بيغين حينها أن ما تفعله حكومته هو استمرار لسياسة دافيد بنغوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، الذي كان يسعى لتقسيم لبنان عن طريق إقامة دولة مسيحية شمال نهر الليطاني. كما قال بيغن إنه لا يفعل شيئًا مغايرًا لما فعله بنغوريون الذي بذل أقصى جهد لمنع إقامة دولة فلسطينية عام 1948، ودمر قرى عربية تدميرًا شاملًا بهدف إقامة دولة يهودية صافية. إن كلام بيغين حرّك مجموعة من الباحثين الإسرائيليين للبحث في تاريخ حرب 1948، وكان هدفهم الرئيس في بداية الأمر تبرئة اسم بنغوريون والحط من شأن بيغن. إلا أن هذه المسألة ساهمت في ظهور مدرسة المؤرخين الجدد في إسرائيل والذين شنّوا حملة واسعة على أساطير إسرائيل التأسيسية ساهمت بإعادة تقويم التاريخ الإسرائيلي الرسمي.

إن السياسة الليبرالية التي تتبعها إسرائيل في الكشف عن الوثائق الحكومية الرسمية للجمهور للاطلاع عليها بعد ثلاثين سنة من حفظها، تمامًا كما تفعل الدول الغربية التي كان لها دور في حرب 1948، مكّنت المؤرخين الجدد من إعادة تقويم أصول إسرائيل التاريخية. وهذا ما قاد إلى جولة جديدة من الصراع بين التاريخ والذاكرة، لكن هذه المرة حول التاريخ والذاكرة لإسرائيل الدولة القومية التي أنشأها الصهاينة. فقال سمحا فلابان صاحب كتاب “ميلاد إسرائيل: الأساطير والحقائق“، بأن هناك سبع أساطير أساسية حول تأسيس دولة إسرائيل يتداولها الصهاينة وهي: الصهيونيون قبلوا بقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، وكانوا يسعون للسلام. العرب هم من رفضوا السلام وشنّوا الحرب على اليهود- هرب الفلسطينيون طوعًا لأن في نيتهم العودة منتصرين- الدول العربية وحدت صفوفها لطرد اليهود من فلسطين- الغزو العربي جعل الحرب أمرًا لا مفر منه- إسرائيل كانت تفتقر إلى السلاح اللازم للدفاع عن نفسها وكانت تواجه الدمار على أيدي غولاث العربي- وأخيرًا فإن إسرائيل سعت للسلام لكن لم يتجاوب معها أي مسؤول عربي.

وقد ذهب مؤرخون آخرون إلى تناول هذه المواضيع بالتفصيل. فقدم بني موريس في كتابه “ولادة مشكل اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949” أدلة ملموسة على مسؤولية الجيش الإسرائيلي عن تهجير اللاجئين الفلسطينيين. كما فند آفي شلايم أسطورة غيلاث العربي الذي يريد تدمير إسرائيل نهائيًا في كتابه “تواطؤ عبر نهر الأردن، الملك عبدالله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين” فقدم وثائق بشأن عروض سلام قدمها الملك عبدالله الأول ملك الأردن لإسرائيل، وعرض قدمه حسني الزعيم. ووضح إيلان بابيه في كتابه “بريطانيا والصراع العربي- الإسرائيلي” بأن بريطانيا لم تكن تمانع قيام دولة يهودية كما تدّعي الصهيونية، بل على العكس من ذلك فإن بريطانيا كانت تسعى لمنع إقامة دولة فلسطينية. لكن على الجانب الآخر هناك من دافع عن الذاكرة القومية التي تمثل التاريخ الرسمي لإسرائيل، كما فعل المؤرخ الإسرائيلي أستاذ الدراسات المتوسطية في كنغز كوليج بجامعة لندن إفرايم كارش، والذي طعن بأهلية المؤرخين الإسرائيليين الجدد واتهمهم في كتابه “فبركة التاريخ الإسرائيلي” بتزييف الحقائق وتزييف التاريخ. وهذا ما يمكن تسميته صراعًا بين الذاكرة التي يقوم عليها التاريخ الرسمي لإسرائيل ويؤمن بها كارش ووراءه الجمهور، وبين التاريخ النقدي الذي يسعى لنقد هذه الذاكرة وتعرية أساطيرها.

خلاصة

إن الأسطورة السياسية التي تنجم عن الصراع بين التاريخ والذاكرة ليست مسألة تخص إسرائيل وحدها، إنما يمكن ملاحظتها في كل الدول القومية التي نشأت بعد انهيار الإمبراطوريات الكبرى. فقد نشأت الأسطورة السياسية سابقًا في أوروبا، وتم تداولها أثناء الحروب والصراعات بشكل واسع في دول مثل ألمانيا، بشكل مشابه للأساطير السياسية التي يتم طرحها وتداولها اليوم خلال الصراع بين روسيا وأوكرانيا. كما نشأت الأسطورة السياسية في دول قومية في الشرق مثل إيران، سوريا وتركيا. وغياب الفحص التاريخي النقدي لهذه الأساطير يؤدي إلى تعزيز مكانتها، كما في حالة إيران التي تتبنى أسطورة الولي الفقيه، وسوريا التي تتبنى أسطورة العروبة التاريخية للبلد. يختلف الأمر بعض الشيء في تركيا، التي لم تعد تتبنى ذاكرة أحادية علمانية، أو إسلامية، إنما أصبح هناك تنافس بين تراثها الإسلامي والعلماني نتيجة التنافس بين النخب السياسية الحاكمة فيها. لكن ما يزال هناك غياب ملحوظ لدور التاريخ النقدي في تنقية الذاكرة من الأساطير القومية في هذا البلد.

والدولة القومية في إسرائيل أيضًا تشهد صراعًا محمومًا بين التاريخ والذاكرة مثلها مثل بقية الدول القومية، إلا أنها تختص بطبيعة هذا الصراع. وذلك مرده إلى عدة عوامل منها: إن الحركات القومية التي أسست دولها القومية نشأت في البيئة الجغرافية والاجتماعية نفسها التي أسست فيها هذه الدول. أما بالنسبة إلى الصهيونية فقد أسست دولتها القومية في بيئة جغرافية واجتماعية غريبة عنها. فقد وُلدت الصهيونية في الغرب ويحمل أبناؤها ذاكرة شخصية غربية، وأسست دولتها القومية في الشرق، حيث ليس لهم ذاكرة شخصية مباشرة فيها، فكان عليهم أن يخلقوا ذاكرة تربطهم بالبيئة الجغرافية التي سيؤسسون دولتهم فيها، فكانت الذاكرة الدينية اليهودية. وهنا يكمن الفرق، فمن جهة الصهيونية حركة قومية نشأت في الغرب ومن جهة أخرى هي حركة علمانية غريبة أيضًا عن الذاكرة الدينية التي تعتمد عليها لخلق مفهوم الشعب اليهودي بالمعنى السياسي. أما العامل الآخر فهو عدم وجود ذاكرة اجتماعية وثقافية موحدة تربط كل المجتمعات اليهودية التي هاجرت إلى إسرائيل من مختلف دول العالم، وهذا ما عزّز دور الذاكرة الدينية وأساطيرها، وتحويلها إلى ذاكرة رسمية تربط بين كل هذه المجتمعات المختلفة.

حسن الخطيب

كاتب سوري، درس الحقوق في جامعة دمشق، بكالوريوس "دراسات شرق أوسطية" من جامعة أمستردام، طالب ماجستير "دراسات يهودية" في جامعة أمستردام. عمل محررًا في مجلة زمزم بين عامي 2018-2020 (مجلة أكاديمية باللغة الهولندية تصدر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أمستردام). منذ عام 2020 يعمل مستشار تواصل في مركز أمن المعلومات وحماية الخصوصية في هولندا. في عام 2021 صدرت له رواية بعنوان "رصاصة أخيرة" عن دار نون للنشر في تركيا.

مشاركة: