Search

الفلسفة والهوية.. هل للفلسفة دور في عصر العلم؟

يجنح عدد من الفلاسفة والمفكرين في المنطقة العربية لوضع العقلية العربية في موقع خاص عن الإنسانية، ما يجعل فهم هذا الاتجاه على أنه محاولة للتمييز، أو أنه محض اختزال للفلسفة وقولبة لعقلية الإنسان المعاصر، وهو ما يُعَدُّ منحى غير مرغوب في ذهنية الإنسان العالمي، ولا يصبّ في صالح الفلسفة العربية. والتي تهتم بتفنيد مشاكل المنطقة العربية ومحاولة فهمها وتقديم حلول لها، ولكن لا يمكن لها أن تحمل خطاب للإنسان العالمي.

وهنا يظهر الفارق بين مسار الفلسفة الغربية والعربية والذي يكمن في الهدف الذي ترمي إليه كل فلسفة على حدة؛ فإذا كانت الفلسفة العربية تركز على الفكر العربي ومشاكل المجتمع المتحدث باللغة العربية أو يحمل هوية المنطقة، يأتي خطاب الفلسفة الغربية موجِّهًا للإنسانية كلها.

أصول الفلسفة العربية

النقطة الأولى: لعلّ الأصح أن نتكلم على نسبة الفلسفة العربية بدلًا من الكلام عن أصولها. وهذا يحدث بمعرفة أسلاف هذه الفلسفة الذين كان الفلاسفة العرب أنفسهم يطلقون عليهم تسمية “القدماء من اليونانيين” أو “القدماء”، بمعنى الأسلاف، وفي هذه الإشارة تلميح من العرب إلى أنهم كانوا يعدّون أنفسهم بمنزلة “ورثة” الإغريق أو “أخلافهم”، وبعبارة أخرى كانوا يجاهرون بصحيح انتسابهم شرعًا إلى العقل اليوناني.

النقطة الثانية:

كلمة فلسفة تعريب للكلمة اليونانية Philosophia غير أن التعريب يختلف عن الترجمة، ومن شأن هذه المسألة اللسانية أن تذكرنا بأنه لم يكن في الثقافة العربية أصلًا ما يكافئ الفلسفة اليونانية، وهو سبب استشعار العرب الحاجة إلى تعريب الكلمة اليونانية مباشرة.

“اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل في العربية”

أبو نصر الفارابي،

سرّ التسمية

كبير فلاسفة القرن الرابع للهجرة

هذا بالضبط ما أخذه على الفلسفة جميع خصومها حتى القرن الرابع عشر على الأقل “دخيلة” على اللسان العربي بوصفة لغة القرآن، وبالتالي، “دخيلة” على الوحي نفسه.

فلسفة عربية، أم فلسفة إسلامية؟!

السبب الأول: هو أن الفلاسفة لم يكونوا جميعًا مسلمين، فبين وجهائهم كان هناك أيضًا يهود ومسيحيون كتبوا بالعربية، ناهيكم عن الوثنيين منهم، مثل ثابت بن قرة، وعن منكري الوحي، مثل أبي بكر الرازي، وعن المشكّكين، مثل ابن الراوندي. فحتى يشملهم المصطلح الذي يشار به إلى النشاط العقلي الذي زاولوه جميعًا، لابد لهذا المصطلح من أن يجتنب التلون المِلَّي، حتى إذا كان من البديهي أن جميع هؤلاء الفلاسفة عاشوا في مجتمع إسلامي جزمًا.

السبب الثاني: لا يقل عنه وجاهة من حيث المضمون: حين كان المسلمون واليهود والمسيحيون والصابئة وغيرهم يشتغلون بالفلسفة، فإنهم لم يفعلوا ذلك أصلًا لتأويل القرآن أو التوراة أو العهد الجديد، بل فعلوه سعيًا منهم إلى تعيين ما يتيسّر للبشر أن يفهموه بخصوص العالم والإنسان.

وهكذا، كانت منطلقاتهم المشتركة، نظريًا على الأقل، عناصر معرفية يقبلها كل إنسان، ألا وهي معطيات العقل البشري، من دون التماس أي وحي بعينه، وكانوا جميعًا، أو أغلبهم، يستنكرون فكرة الانطلاق من أشياء أخرى غير معطيات العقل.

 

سرّ التسمية

إن تعريف مجال فلسفي من خلال اللغة كما هي الحال في مجال الفلسفة العربية يبدو غريبًا وغير نموذجي في تاريخ الفلسفة، إننا نميل إلى تعريف الفلسفة من خلال التطوّرات الثقافية كفلسفة عصر النهضة أو بحسب التسلسل الزمني كالفلسفة القديمة، القروسطية والفلسفة الحديثة. كما أنه من الشائع أن تُعرَّف فلسفة معينة بحسب الأماكن الجغرافية كالفلسفة الهندية والتي أصلها من الهند ومكتوبة بالعديد من اللغات. نذكر أيضًا الفلسفة الصينية والتي من الممكن أن تبدو كتسمية لغوية، إلا أنها تشير إلى المكان الجغرافي وليس اللغة.

الفلسفة في عصر العلم

يشير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط إلى سمة فريدة تميز العقل البشري، وهي سعيه الدائم للبحث عن إجابات عن أسئلة يستحيل الإجابة عنها. ومع علمه بهذه الاستحالة، فإنه لا يكفّ عن طرح تلك التساؤلات. ونلمس هنا إدراك كانط أن الفلسفة لا تعني طرح الإجابات دائمًا، بل إن الإجابات التي تقدمها الفلسفة تشحذ في أذهاننا ملكة التساؤل والتفكير.

التقدّم العلمي يطرح الأسئلة

في عالم اليوم المثقل بالإنجازات العلمية الكبيرة، من غزو الفضاء إلى البيولوجيا الدقيقة إلى اكتشاف الخريطة الجينية وثورة الاتصالات التي أدخلت البشرية عصرًا جديدًا، أصبح يصعب التنبؤ بجميع نتائج العلم وتداعياته؛ هنا يأتي التساؤل الأكثر أهمية.

هل بقي للفلسفة وسط هذا الزخم العلمي أي مجال خاص بها، يمكنها أن تهتم به؟ أم حالها ومآلها باتا محصورين في الاجترار العقيم لقضايا عتيقة؟

إن كل تقدم علمي جديد يفتح أبوابًا واسعة لتساؤلات فلسفية جديدة لم تكن مطروحة من قبل، ولا يستطيع العلم اليوم أن يتغافلها أو يتجاهلها، تأتي في مقدماتها الثورة الرقمية التي نعيش بداياتها في هذا القرن، والتي فتحت مجالات جديدة لتساؤلات لم تكن واردة سابقًا، مثل: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يمكنني أن أعمل؟ ماذا يمكنني أن آمل؟ وإذا كانت هذه التساؤلات جميعًا تصل في نهاية المطاف إلى غايات الوجود البشري، فإنها تصاغ اليوم صياغة جديدة على ضوء هذه المعطيات والشروط الملموسة للعالم المعاصر بقفزاته العلمية الكبيرة.

“إذا كان من الضروري إعادة النظر في طبيعة المهمّة الملقاة على عاتق الفلسفة، باعتبارها أداة لنشر العقلانية والفكر النقدي، فإن هذه المهمّة غدت ممكنة ومتاحة في الفضاءات الفكرية الجديدة لعالم اليوم، بل أضحت تمثل انشغالًا أساسيًا في الفكر المعاصر”

يورغن هابرماس

فيلسوف ومفكر ألماني

مهمة جديدة للفلسفة

من هذا المنطلق طرح الفيلسوف يورغن هابرماس، نظرية فلسفية جديدة للعلاقات الإنسانية في ظل الثورة الرقمية، تقوم على أساس تحقيق أكبر قدر من التفاهم المتبادل بين الأفراد والجماعات، من أجل تحقيق أكبر قدر من المواءمة بين هذه الثورة الرقمية وثقافات الشعوب، وذلك يؤدي إلى فتح آفاق لتساؤلات فلسفية جديدة، تتطلب أجوبة عنها. والفلسفة بأوسع معانيها هي وحدها القادرة على فتح باب الحوار، وتبادل الآراء حولها، كي تساعدنا على استعادة التوازن واسترجاع التناسق في رؤية الإنسان لعالمه المعاصر.

فلسفة عربية/ فلسفة عالمية

ليست الفلسفة عبارة عن دين، كما أنها ليست حكمة بأي معنى مادي، غير أن الفلسفة تستطيع أن تلعب دورًا حيويًا في استرداد المعنى الكامل لإنسانيتنا، في مرحلتنا التاريخية والثقافية التي تمرّ بها، والتي تشهد أفول نجم الدين وسطوع نجم المذهب المادي المدمر لذاته.

يهتم البعد الديني للحياة بالأسئلة التي لا يمكنها حتى أن تعالج التفسير العلمي للعالم، كما فشلت حجج العلم في منح التعزية للدين، لا يمكن أن يكون هناك صراع بين الدين والعلم، فكل واحد منهما له نطاقه الخاص الذي يؤثر فيه.

الفلسفة ليست مماثلة للدين، هي تستطيع أن تضع الطريق إلى الحكمة فحسب، حتى وإن كانت لا تزود الناس بها بشكل مباشر، هذا هو الوعد الذي تقدمه الفلسفة، وهذا هو التحدي الذي تضعه على عاتقها في القرن الواحد والعشرين.

رشا مكّي

باحثة دكتوراة من مصر، تخصص فلسفة عقل، كاتبة، شاعرة، نشرت عددًا من الكتب والمقالات الفكرية، والقصائد الشعرية، مهتمة بالفكر والثقافة والسياسة.

مشاركة: