الحزب السياسي بين الفكرة والممارسة

مقدمة

في كل مجتمع يسعى نحو العدالة والاستقرار، تشكّل الحياة السياسية أحد أعمدة التوازن بين الدولة والمجتمع، ومجالًا مفتوحًا لتداول الأفكار وتنظيم المصالح وتوزيع السلطة. ويمثّل الحزب السياسي، في هذا السياق، أكثر من مجرد هيكل تنظيمي؛ إنه تجسيد لفكرة، وتحالف إرادات، وأداة مدنية لتنظيم الخلاف داخل المجتمع.

في البلدان التي تمرّ بمرحلة انتقالية أو خرجت توًّا من نظام استبدادي طويل الأمد، كما في الحالة السورية، تصبح مهمة بناء حياة سياسية سليمة أكثر إلحاحًا، لكنها أيضًا أكثر تعقيدًا. فالحقل السياسي يكون في العادة مثقلًا بإرث من القمع، وضعف الثقة، وانقطاع طويل عن أي ممارسة ديمقراطية حقيقية. في مثل هذا السياق، لا يكفي النص الدستوري وحده، ولا يكفي صدور قانون يسمح بتأسيس الأحزاب، إذا كانت البنية القانونية ذاتها تقيّد هذا الحق، كما هو الحال في قانون الأحزاب السوري لعام 2011، الذي يشترط إقامة المؤسسين داخل البلاد وعدم حملهم لأي جنسية أجنبية، على الرغم من أن أكثر من ثلث السوريين كانوا لاجئين لحظة صدوره، وكثير منهم يحمل جنسية مزدوجة.

لا يُعدّ تأسيس الأحزاب، في مثل هذه الظروف، خطوة تنظيمية فحسب، بل هو فعل سياسي ومجتمعي بامتياز، يحمل في طياته رهانات كبيرة تتصل بالصدقية والتمثيل والشرعية. ويزيد من صعوبة هذه المهمة غياب الثقافة السياسية الحزبية، وافتقار التجارب الناشئة إلى أساس فكري متين، أو التباس الغايات بين الطموحات الشخصية والعمل العام. كما أن الخوف من خسارة الشارع، في ظل شعبوية طاغية أحيانًا، قد يدفع بعض الأحزاب الناشئة إلى تجنب نقد السلطة أو التماهي مع خطابها، وهو ما يُفقد الحزب دوره الحقيقي كأداة رقابة وتمثيل وتوازن.

تنطلق هذه المقالة من هذه الخلفية المركّبة، لتقدم قراءة في الشروط السياسية والتنظيمية اللازمة لنجاح الأحزاب السياسية في السياقات الانتقالية، مع التركيز على الحالة السورية. لا تهدف المقالة إلى تقديم نموذج جاهز، بل إلى تأطير مجموعة من المبادئ والضوابط التي قد تُسهم في توجيه أي تجربة حزبية نحو الفعالية والاتساق، سواء على المستوى التنظيمي الداخلي أو في علاقتها مع المجتمع والدولة.

الحزب بوصفه أداة للتنظيم السياسي

تُعد الأحزاب السياسية من أبرز أدوات التنظيم الجماعي في النظم الديمقراطية، ومن الفاعلين الأساسيين في الحياة العامة، سواء من حيث وضع البرامج، أو التمثيل، أو التأثير في السياسيات العامة. وخلافًا لما هو شائع، فإن أهمية الحزب تُقاس بدرجة التزامه بالمبادئ التي تضمن انسجامه الداخلي واستمراره، لا بمجرد قدرته على التمثيل أو الانتشار.

يتشكّل الحزب ويتطور تحت تأثير ثلاثة عناصر رئيسة، تتطلب فهمًا عميقًا نظرًا إلى تأثيرها الحاسم في رسم مساره ضمن إطار مرن وواقعي:

أولًا التجربة: لكل حزب مسار يتشكل مع الوقت، ويُعيد صياغة نفسه من خلال التراكم، والانقطاع، والتجريب. لا يكفي تبني مبادئ جيدة، بل لا بد من مراقبة كيفية تجسدها فعليًا، وتصحيح الانحرافات، والتعلم من الأخطاء بدلًا من إنكارها.

ثانيًا الظروف الداخلية: مثل عدد الأعضاء، وتنوعهم، وخلفياتهم الفكرية والسياسية، وتوازن القوى داخل الحزب، ومستوى التكوين السياسي، ومدى نضج الثقافة الديمقراطية داخليًا. هذه العناصر تحدد ما إذا كان الحزب قابلًا للنمو أو هش داخليًا.

ثالثًا السياق العام: ويشمل البيئة السياسية والقانونية، موقف الدولة من التعددية، وحرية التعبير والتنظيم، ومستوى انخراط المجتمع في الشأن العام، والعلاقة مع الفضاء المدني والإعلام. فلا يمكن لحزب أن يتطور من دون وجود فضاء عام يسمح له بالتنافس، والتأثير.

من ولادة الفكرة إلى تشكل النواة

عادة لا تبدأ الأحزاب السياسية بنصوص أو أنظمة، بل بفرد يمتلك تصورًا سياسيًا يتكوّن من خلال تجربة أو شعور بالحاجة إلى بديل. يبدأ هذا الشخص بطرح مشروعه على محيطه القريب، باحثًا عمن يشاركونه المبادئ الأساسية والرؤية العامة. ومن هذه اللحظة، التي تبدو بسيطة لكنها حاسمة، تبدأ عملية تشكّل النواة التأسيسية.

هذه النواة لا تتكوّن دفعة واحدة، بل تُبنى تدريجيًا عبر دعوة انتقائية لعدد محدود من الأشخاص، يُفترض بهم الانسجام الفكري والأخلاقي، والقدرة على تحمّل المسؤولية، والانخراط في عمل جماعي منظّم، والتفرغ الجزئي. فنجاح هذه المرحلة لا يتحقق بالحماسة أو القرب الشخصي، بل يعتمد على توفر صفات محددة، في مقدّمها الاستقلالية الفكرية، الانفتاح على النقاش، والانضباط السلوكي، إلى جانب التواضع، والقدرة على التنفيذ لا الاكتفاء بالشعارات.

من المفيد كذلك أن تضم هذه النواة كفاءات عملية متنوعة: من يمتلكون خبرات تنظيمية، أو قدرة على التعبير السياسي، أو مهارات تواصل فعالة، شرط أن توضع هذه القدرات في خدمة المشروع لا في خدمة النفوذ الشخصي. في المقابل، من الضروري تجنّب استقطاب نماذج سلبية منذ البداية، كالساعين للهيمنة، أو المتقلبين في المواقف، أو أولئك الذين تحركهم مصالح آنية أو مشاعر سخط مجردة من البدائل.

من هنا، تبرز ضرورة اعتماد آلية انتقائية واضحة ومعلنة، تُوازن بين الانفتاح والحذر، وتمنع تحوّل النواة الأولى إلى خليط متنافر. كما تقتضي هذه المرحلة وضع هيكل تنظيمي أولي مرن، وآليات لضبط الخلافات وضمان العلاقة المتوازنة مع الفضاء العام.

أخيرًا، يجب أن يُنظر إلى القيادة التأسيسية بوصفها مسؤولية مرحلية، مكلّفة بالتأطير والانطلاق لا بالاحتكار. يجب أن يُرسَّخ التداول كمبدأ مؤسِّس من اللحظة الأولى.

التحديات في بداية الطريق

غالبًا ما تنطلق التجربة الحزبية بحماسة عالية، لكنها سرعان ما تصطدم بجملة من التحديات الداخلية، أبرزها طغيان العلاقات الشخصية على منطق المؤسسة، ضعف الثقافة التنظيمية أو الاستخفاف بأهميتها، غياب آليات محدّدة لإدارة الخلاف أو صناعة القرار، شخصنة النقد وتحويله إلى موقف شخصي، وأخيرًا التحالفات السرية المبنية على غاية مد النفوذ والسيطرة لا على قيمة أو مبدأ أو هدف أخلاقي أو سياسي. هذه التحديات إذا لم يتنبه القائمون على العمل الحزبي إلى خطورتها ستؤدي حكمًا إلى تأكل المشروع من الداخل، من خلال ارتجال القواعد والحلول التنظيمية بدلًا من العودة إلى النص، التمركز حول الأشخاص بدلًا من الأفكار أو المبادئ، تراخي التكوين السياسي والانتماء الحزبي، التردد بممارسة النقد بسبب الخوف من الشخصنة، وصولًا إلى التراجع والانكفاء، وأخيرًا تولد القناعة بعدم الجدوى، وبالتالي موت المشروع في مخيلة أعضائه.

شروط النجاح التنظيمي

ليست هناك وصفة جاهزة لبناء حزب سياسي ناجح، لأن كل تجربة تُولد في سياقها الخاص. ومع ذلك، فإن غياب الوصفة لا يعني غياب المعايير. فثمة شروط حاسمة، لا غنى عنها، ولا يمكن التعامل معها على طريقة الانتقاء أو التفضيل، بل يجب التمسك بها مجتمعة بوصفها أساسًا في أي مشروع حزبي جاد.

  1. المراجعة الفكرية: لا يمكن أن يُبنى حزب سياسي على تراكم عفوي للأفكار أو على شعارات عامة. لا بد من مراجعة الوثائق التي بني عليها الحزب، وتحديد الموقف من قضايا العدالة، والدولة، والمواطنة، والديمقراطية، بصورة دقيقة ومعلنة.
  2. احترام النظام الداخلي: ليس بوصفه مجموعة إجرائية، بل كعقد ناظم للعلاقات داخل الحزب. فكل تجاوز له، حتى لو تم بتوافق أو تحت ذريعة “الضرورة”، يُقوّض فكرة الحزب نفسها كمؤسسة. النظام الداخلي هو دستور المنظمة وعدم احترامه هو في حقيقته عدم احترام لمبدأ سيادة القانون.
  3. الشفافية: سواء في اتخاذ القرار، أو في الإدارة المالية، أو في المعايير التي يُكلف بناء عليها الأشخاص، فالشفافية ليست شعارًا أخلاقيًا، بل آلية حماية من الانزلاق إلى الفساد أو الشخصنة.
  4. احترام النقاش وتقبّل النقد: الحزب الذي لا يصون حق الاختلاف لا يمكنه التعايش مع المجتمع ولا مع نفسه. فالنقاش الداخلي، مهما كان حادًا، هو ما يُنتج الحيوية، ويمكّن من المراجعة والتطور.
  5. الانسجام بين الخطاب والممارسة: لا قيمة لأي شعار أو بيان إذا لم يكن معبرًا عنه في طريقة إدارة الحزب، وعلاقات أعضائه، وممارساته اليومية. التناقض بين القول والفعل من أسرع الطرق نحو فقدان الصدقية.

المبادئ فوق التنظيمية

في السياقات الانتقالية، حيث تتشكل الأحزاب في ظروف هشّة وتحت ضغط الاستعجال، غالبًا ما تُبنى التنظيمات على قواعد إجرائية صلبة، من دون أن ترافقها ثقافة تنظيمية راسخة أو وعي بالضوابط الأخلاقية. وهنا تبرز الحاجة إلى ما يمكن تسميته بـ “المبادئ فوق التنظيمية”؛ وهي تلك القواعد غير المكتوبة التي لا يتضمنها النظام الداخلي صراحة، لكنها تشكّل شرطًا جوهريًا لنجاح أي تجربة حزبية، وأداة فعالة لتفادي الانزلاق نحو التسلط أو المحسوبية أو الانغلاق.

صحيح أن النظام الداخلي يُعد مرجعًا تنظيميًا أساسيًا في توزيع المهمات وضبط آليات القرار، لكنه وحده غير كافٍ لضمان سلامة الحياة الحزبية. فهناك مبادئ تُعد من بديهيات العمل السياسي السليم، ويُفترض التعامل معها بوصفها ضرورات لا تخضع للنص أو التصويت. فإذا كان تدوين القواعد الإجرائية يهدف إلى ضمان الالتزام، فإن هذه المبادئ العامة يجب أن تُعامل على أنها فوق تنظيمية، حاكمة لسلوك الحزب، وإن لم تُدرج في وثائقه التنظيمية. من أبرز هذه المبادئ:

  1. فصل السلطات داخل الحزب، بحيث لا يُحتكر القرار ولا تتداخل الوظائف الرقابية والتنفيذية.
  2. عدم ازدواجية المهمات، لضمان وضوح المسؤولية، وتفادي تركّز النفوذ في يد واحدة.
  3. ضمان عدم تضارب المصالح، عبر تجنّب الظروف التي تمنح أحد الأعضاء تأثيرًا مزدوجًا سياسيًا أو ماديًا، أو تسمح بنشوء علاقات خاصة ما دون حزبية.
  4. الشفافية المالية والتنظيمية، لا من باب الإدانة المُسبقة، بل لضمان الثقة بين الأعضاء.
  5. حماية حق النقد والاختلاف، لأن النقاش الداخلي هو وقود الحياة التنظيمية، وليس تهديدًا لها.
  6. ضمان عدم الشخصنة وبناء التكتلات، فحين تطغى الولاءات الشخصية على المبادئ، يتآكل الحزب من الداخل.
  7. الفصل بين المجال الحزبي والمجال العام، لضمان أن يبقى الحزب فاعلًا سياسيًا لا وصيًا على المجتمع أو أعضائه.

لا يمكن اعتبار المبادئ التنظيمية ضمانة مطلقة لسلامة التجربة الحزبية، لكنها تظل أداة لمنع التناقض بين الخطاب والممارسة. وغياب هذه المبادئ، أو التعامل معها بوصفها خيارات ثانوية، يفتح الباب أمام تحوّل الحزب إلى كيان متعارض مع غايته المعلنة. هذه المبادئ لا تحتاج إلى التصويت عليها أو إضافتها إلى ملحق تنظيمي، لأنها تُفترض بداهةً في أي عمل حزبي سليم، وغيابها يولد ظروف احتمال الفشل.

التمويل سلاح ذو حدين

لا يمكن لأي تجربة حزبية أن تستمر من دون موارد مالية واضحة ومنظمة. فالتمويل ليس مسألة لوجستية فحسب، بل هو عنصر حاسم في الاستقلالية، والشرعية، والاستمرارية. لكن خطورته تكمن في كونه سلاحًا ذا حدين: يمكن أن يكون وسيلة لتمكين الحزب من أداء مهماته، كما يمكن أن يتحوّل إلى بوابة للنفوذ الشخصي، أو أداة خارجية لشراء الولاءات وتوجيه المواقف.

على المستوى الداخلي، ينبغي وضع ضوابط صارمة لتنظيم التمويل الفردي، مثل تحديد سقف للمساهمات، وربط التمويل بشفافية محاسبية، وتحييد من يساهمون ماليًا عن مواقع القرار، تجنّبًا لاجتماع المال والسلطة في يد واحدة. كما يُستحسن إنشاء آليات داخلية للرقابة على الصرف، ونشر تقارير مالية دورية تُعرض على الأعضاء.

أما في ما يخص التمويل الخارجي، فلا بد من الحذر الشديد. فالحزب الذي يبني قراره السياسي على أساس ما يُرضي ممولًا خارجيًا، فقد استقال عمليًا من استقلاليته، مهما حسنت النيات. التمويل الخارجي لا يكون مشروعًا إلا إذا جاء بلا شروط سياسية، ومن دون أن يُفرَض على الحزب مقابل صمته عن قضايا مبدئية.

في جميع الحالات، يجب التعامل مع التمويل بوصفه مسؤولية تنظيمية وأخلاقية، لا مجرد مورد. فكيفية جمعه، ومن أين يأتي، ولمن يُمنح، وعلى أي أساس يُصرف، هي أسئلة يجب أن تكون واضحة ومعلنة أمام كل عضو، لأن الغموض في هذه المسألة هو أقصر الطرق لانهيار الثقة.

السياسة أداة تحوّل وليست شكلًا مؤسّساتيًّا وحسب

تبرز الحاجة اليوم إلى ما هو أعمق من إنشاء تنظيمات جديدة. فالمشكلة ليست دائمًا في غياب الأحزاب، بل أحيانًا في طبيعة السياسة التي تمارسها هذه الأحزاب، أو في الفهم السائد حول وظيفة الحزب وحدود سلطته ودوره على المستوى الداخلي أو اعلى المستوى العام. ما نحتاج إليه فعلًا هو مفهوم مختلف للسياسة نفسها، يحمي التجربة من تكرار النماذج الفارغة أو الجامدة غير القابلة للتطور. ويمكننا تلخيص ملامح هذا المفهوم في أربعة اتجاهات أساسية:

  1. المرونة التنظيمية ضمن شروط احترام المبادئ، فالقدرة على التكيف مع التحولات لا تعني التخلي عن المبادئ، بل تعني مراجعة الأدوات والآليات من دون المساس بجوهر المشروع.
  2. أجيال سياسية جديدة لم تتشرّب ثقافة الطاعة ومتحررة من الأفكار الذكورية، إذ لا مستقبل لحياة سياسية تُدار بعقلية التعليمات والتراتبية الصارمة. المطلوب هو تكوين كوادر حزبية تعرف كيف تفكر وتنتقد وتشارك، لا كيف تُطيع وتصمت وتنتظر التعليمات، كوادر تتمتع بالثقة بالنفس والمقدرة على التعبير.
  3. توازن بين الانتماء الحزبي والانفتاح على المجال العام، إذ يجب أن يحتفظ العضو الحزبي بولائه لمجتمعه قبل حزبه، وأن يُمارس السياسة بأفق مدني، لا بعقلية الاصطفاف والانغلاق. الحزب وسيلة للانخراط، وليس جدارًا للعزل.
  4. ربط السياسة بالحياة اليومية لا بالشعارات وحسب، حين تبقى السياسة في مستوى الخطاب أو البيان، تنقطع صلتها بالناس. المطلوب اليوم أن تُستعاد السياسة كممارسة يومية ملموسة، لا أن تبقى حبيسة الشعارات.

الحزب بوصفه نموذجًا مصغرًا لما ندعو إليه

وعلى الرغم من أن الغاية المعلنة من تأسيس الأحزاب السياسية هي خوض غمار التنافس على السلطة، إلا أن وظيفة الحزب تتجاوز ذلك كثيرًا. الحزب، في جوهره، ليس مجرد وسيلة للصعود السياسي، بل أداة لنشر ثقافة المسؤولية، وتدريب الأفراد على العمل الجماعي، وتعزيز الحسّ المدني، وترسيخ قيم النقاش، والمحاسبة، والانتماء إلى مشروع يتجاوز الأشخاص والمصالح المباشرة. يُقاس نجاح الحزب بمدى التزامه بالقواعد التي يطالب بها الآخرين، وليس بمجرد وصوله إلى السلطة أو تأثيره اللحظي، وبقدرته على أن يكون نموذجًا مصغرًا لما يدعو إلى تعميمه على الدولة والمجتمع. والحزب الذي يُدرك ذلك، سيكون أكثر قدرة على البقاء، والتأثير، والنمو من دون أن يفقد ذاته في الطريق. عودٌ إلى بدء، لا تُقاس شرعية الحزب بما يعلنه من مبادئ، بل بقدر ما تنعكس هذه المبادئ في قراراته وسلوك أعضائه ومواقفه العامة. فالصدقية تُبنى حين تتجسّد القيم في الممارسة، لا حين تُرفع كشعارات.

مع ذلك، من الضروري التذكير بأن وجود حياة حزبية فاعلة لا يمكن فصله عن وجود حياة سياسية تحميها الدولة. فالحزب لا يمكنه العمل في بيئة لا يحكمها القانون، بل يحتاج إلى بيئة تضمن حرية التنظيم، وحق التعبير، وتمنع تدخل الدولة من التحكم أو التأثير في الشأن الحزبي. ففي غياب هذه الضمانات، يصبح العمل الحزبي نشاطًا رمزيًا محفوفًا بالمخاطر، حتى لو توفرت النيات الصادقة لدى القائمين عليه.

في ظل التحولات العميقة التي تشهدها مجتمعاتنا، لن يكون للحزب السياسي معنى ما لم يكن نموذجًا في ذاته، نموذجًا في الديمقراطية، في الانضباط، في المسؤولية، وفي احترام الإنسان. التأسيس فعل سياسي بامتياز، لكنه أيضًا امتحان أخلاقي يتكرر كل يوم.

 

منشورات آخرى

صدر حديثاً