ما بعد غزة … ما بعد الإنسان

إنّ طريقة تعاطي المجتمع الدولي مع جريمة الإبادة في غزة، وقبلها مع الجرائم المرتكبة في سوريا، تمثل مؤشرًا واضحًا على دخول العالم مرحلة جديدة يمكن توصيفها بـ «ما بعد الفلسفة» أو «ما بعد الإنسان». ويُقصد بهذه النهاية تراجع القيم التي قامت عليها المنظومة الدولية الحديثة، بما في ذلك احترام القانون الدولي ومبادئ العدالة وحقوق الإنسان، لمصلحة منطق القوة الصرفة والمصلحة المجردة من أي بعد أخلاقي.

لقد تزامن هذا التحول مع التغيرات العميقة التي أحدثها دخول الآلة والذكاء الاصطناعي إلى عملية الإنتاج. فبينما كان الإنسان في المراحل السابقة فاعلًا منتجًا وصانعًا للمعنى — من خلال نضاله من أجل الحرية وحقوق العمل والمشاركة الإنسانية — أصبح اليوم مستهلكًا سلبيًا، بل تحوّل في كثير من الأحيان إلى سلعة غرائزية تُسقط عنه أبعاده الفكرية والرمزية.

في ظل هذا الفراغ القيمي والمعنوي، صار الإنسان المعاصر يُنتِج السخافة أكثر مما يُنتِج الفكر، وبرزت الشعبوية كهوية بديلة عن المشاريع الفكرية الكبرى التي كانت تُوجّه الوعي الجمعي وتمنحه أفقًا ومعنى. لقد حلَّت الغريزة محلَّ العقل، وغلب الانفعال على الحكمة، حتى صار المشهد العام محكومًا بالاستقطاب الحاد والانقسام، ليس حول القضايا المصيرية فحسب، بل حتى في أبسط المسائل الهامشية.

ويُعزى ذلك بدرجة كبيرة إلى هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها الهائلة على تشكيل الرأي العام، لا في المجال السياسي فقط، بل في بناء أنماط وعيٍ جديدة لمجموعات فرعية تعيش في فضاءات مغلقة من الأفكار والمعلومات. مجموعات تنكر المسلمات العلمية، وتستقي “حقائقها” من منصات المؤثرين وصنّاع التفاهة، أو من قنوات الدعاية المضلِّلة المدعومة بجيوش من «الذباب الإلكتروني» الذي استولى على المجال العام وفرّغه من مضمونه.

لقد أسهم انحسار العمل السياسي وتراجع الفعل القانوني في تعميق هذا الانحدار، إذ لم يبقَ أمام الأفراد سوى فضاءات افتراضية تُحرّك الفزعات العابرة وتُغذّي الانقسام بدل الحوار، حتى غدا الوعي الجمعي أسيرًا لسطحية الخطاب، وهيمنة الصورة. لقد تحوّل المجال العام من فضاءٍ للنقاش والتداول إلى ساحةٍ للاستعراض والضجيج، يُكافأ فيها الصوت الأعلى لا الفكرة الأعمق.

إنّ ما نشهده اليوم لا يمثل مجرد أزمة سياسية أو أخلاقية، بل هو تحوّل بنيوي عميق في موقع الإنسان داخل العالم. فالإنسان لم يعد فاعلًا منتجًا للمعنى، بل تحوّل إلى كائن تكنولوجي مُدار بالخوارزميات، تُوجّه سلوكه وتحدِّد أولوياته دون وعي منه. يعيش في عالمٍ “ما بعد إنساني” تغيب فيه الفلسفة بوصفها أفقًا للتساؤل، وتنهار فيه العلوم الإنسانية بوصفها مرجعًا لفهم الذات والمجتمع، لتحلّ محلّها تقنيات المراقبة والتنبؤ التي تختزل الإنسان في بياناتٍ قابلة للقياس والتسويق.

في السياق الإقليمي، وبعد سقوط أكثر من ستين ألف مدني في غزة وما يقارب المليون في سوريا، لم يعد لهذا الدم المسفوك معنى سياسي أو إنساني واضح، ولم تعد المعاناة المرتبطة به تُنتج وعيًا تحرريًا أو مشروعًا فكريًا. لقد تحوّل الضحايا إلى مجرّد أرقام في تقارير المنظمات الدولية، بعد أن فُقدت القدرة على إضفاء البعد القيمي أو الدلالي على المأساة. وبهذا، تراجع حضور المفاهيم المؤسِّسة للحرية والنضال والكرامة، في مقابل بروز سرديات تقنية وإجرائية تُفرغ الحدث من محتواه الإنساني والسياسي.

من حلب إلى غزة، ومن صنعاء إلى الموصل، تمثّل أنقاض المدن العتيقة، التي كانت شاهدةً على قرونٍ من التراكم الحضاري، رمزًا لصراعٍ مفتقر إلى المشروع والرؤية. إنّ دمار هذه المدن لا يعكس فقط انهيار البنية المادية، بل يعبّر عن تشوّه مفهوم الدولة في الوعي العربي الحديث، بوصفها الإطار المفترض لاحتضان الهوية وصون الكرامة الإنسانية.

تثير أنقاض هذه المدن اهتمام فاعلين اقتصاديين غرباء جدد يروّجون لنماذج اقتصاديّة صورية تقوم على المظاهر الاستهلاكية والبنى التجميلية أكثر مما تقوم على التنمية البشرية أو العدالة الاجتماعية. يقوم هذا النموذج على إنتاج الفضاءات الباذخة: أبراجٍ زجاجية، وشواطئ مصطنعة، وأشجارٍ بلا جذور، في مقابل تهميش الإنسان وتحويله إلى مستهلكٍ منفصلٍ عن تاريخه وانتمائه الاجتماعي والثقافي.

وهكذا، يتجاور مشهد الدمار في غزة وحلب مع مشهد الازدهار الاستعراضي في مدن الخليج، في مفارقةٍ تُبرز بوضوح اختلال الوعي الجمعي العربي بين واقعٍ من الانكسار والهزيمة من جهة، وصور بصرية لرفاه زائف من جهةٍ أخرى، ما دام هذا الرفاه قائمًا على اقتصادات ريعية غير منتجة قادرة فقط على شراء السلم المجتمعي.

وفي خضمّ هذا الواقع، تأتي كلمات السفير الأمريكي لدى تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، توم باراك، لتعكس هذه الرؤية حين قال: «لا يوجد شرق أوسط، وإنما قبائل وقرى ودول قومية أنشأها سايكس بيكو… أعتقد أنه وهم أن نرى سبعًا وعشرين دولة مختلقة فيها مئة وعشر مجموعات إثنية تتفق على مفهوم سياسي واحد».

تكشف هذه المقولة عن عمق الأزمة البنيوية التي تعيشها دول المشرق العربي؛ فهي أزمة كيانات لم تنجح خارجيا في تجاوز حدودها المصطنعة، ولا داخليًا في بناء دول حديثة قائمة على مشروعٍ وطنيّ جامع. لقد ظلّ التكوين السياسي هشًّا، محكومًا بإرث التجزئة وغياب العقد الاجتماعي الذي يضمن المواطنة والمساواة والانتماء المشترك.

يبدو هذا الخلل جليًا في مشاهد العنف المتكررة التي تُمارس داخل هذه الكيانات، كما في حادثة قتل أحد المدنيين في السويداء لمجرّد إعلانه أنه سوري، أو في تصفية عشرات الأشخاص في غزة من دون محاكماتٍ عادلة أو أدلةٍ قانونية. هذه الوقائع ليست حوادث معزولة، بل تعبّر عن تفكك المعنى الوطني وانهيار الرابط السياسي والأخلاقي الذي يفترض أن يجمع الأفراد في إطار دولة حديثة قائمة على القانون والكرامة الإنسانية.

من هنا تبرز أهمية طرح مجموعةٍ من الأسئلة التأسيسية:

ماذا يعني أن يكون المرء سوريًا؟ ماذا يعني أن يكون فلسطينيًا؟ لماذا علينا العيش معًا؟ وما المشروع الذي يمكن أن يجمعنا؟

إنها أسئلة لا تتعلق بالهوية فحسب، بل بقدرة هذه المجتمعات على إعادة تعريف ذاتها وصياغة مشروعها الذي يعيد للوجود معناه، وللانتماء قيمته، وللإنسان مكانته داخل الدولة والمجتمع.

في ظلّ حالة التفكك والانهيار التي تشهدها المنطقة، تطالب بعض النخب بتبنّي النموذج الديمقراطي أو العلماني بوصفه مخرجًا للأزمة، غير أنّ هذه الدعوات غالبًا ما تتجاهل السياق التاريخي والمعرفي الذي أفرز مثل هذه النماذج في الغرب. فالمجتمعات الشرقية، في أغلبها، لم تمرّ بالمراحل التحولية التي مهّدت لقيام الحداثة، بما تضمنته من نقضٍ للميتافيزيقيات، واعترافٍ بـ العقل والإنسان بوصفهما محورَي المعرفة والفعل.

كذلك، لم تنخرط هذه المجتمعات في النقاشات الفكرية التي أفرزتها فلسفة ما بعد الحداثة، بما حملته من نقدٍ لمركزية العقل ولتصوّر الإنسان كفاعلٍ مطلق، ولم تشهد التحولات الفكرية والسياسية التي مثّلت في الغرب لحظاتٍ فارقة، مثل نهاية التاريخ أو الجدل حول ما بعد نهاية التاريخ.

إنّ غياب هذه التحولات يجعل من استيراد المفاهيم السياسية والفكرية الغربية – كالديمقراطية والعلمانية – عمليةً إشكالية، لأنها تُطرح خارج سياقها التاريخي والمعرفي، ودون توافر البنية الفلسفية والاجتماعية التي تجعلها قابلةً للتحقق. ومن ثمّ، لا يمكن القفز على هذه الفجوات الحضارية والفكرية، لأنّ النظام الغربي الحديث هو نتاجُ مسار تراكميّ من التحولات الفلسفية والسياسية والعلمية التي لم تعرفها كيانات الشرق بعد، لا من حيث عمقها التاريخي ولا من حيث شروطها الثقافية.

يبدو أن الأمر أعقد من مجرد فجوة معرفية، إذ إن الحاجة التي أطلقت مسار التحول الحداثي في الغرب غير موجودة في مجتمعات الشرق. في أوروبا، واجه الإنسان ظروفًا طبيعية قاسية، من طقس بارد ومتجمد، وتربة غير صالحة للزراعة، وطرقًا مغلقة بالثلوج. هذا الواقع أجبر الأوروبيين على تطوير ثقافة تنظيمية تمكنهم من العمل الجماعي المنتظم لفتح الطرق، وإزالة الثلوج، وشق الترع والأنفاق لتأمين الدفء ووسائل البقاء، ما أدى تدريجيًا إلى ظهور المؤسّسة القادرة على الاستمرار والعمل على الرغم من اختلاف منتسبيها وتمايزهم. المؤسّسة التي تجمع أعضاءها حول المصلحة المشتركة لا حول حكمة أو كاريزما القائد، وهذا ما شكّل لاحقًا نواة الدولة الحديثة التي تعتمد على هيكل تنظيمي مستقل عن الروابط العائلية أو المحلية.

في المقابل، لم تسعَ مجتمعات شرق وشمال المتوسط يومًا إلى ترويض الطبيعة أو إلى فهمها، بل اكتفت بالتعايش معها من خلال استراتيجيات بقاء تتضمن: الرحيل عند الجفاف، والاحتماء بالجبال، والدخول في الصحاري عند الهروب من الأعداء، بالتالي الاعتماد على اقتصاد ريعي بسيط يتيح البقاء دون تطوير بنى إنتاجية واسعة.

أنتجت هذه البيئة الدافئة نمطًا من الحياة الاقتصادية الريعية، بما يتضمنه من عادات وأفكار ونظم اجتماعية متوافقة مع هذا النمط البسيط. علاوة على ذلك، شهدت هذه المجتمعات انكسارات متكررة في مسار تحولاتها الحديثة في القرن العشرين. ففي الوقت الذي كان من الممكن أن تشهد فيه هذه المجتمعات تحولًا إلى اقتصادات زراعية كبرى وتحول البرجوازية إلى رأس مالية، جاءت سياسات التأميم والإصلاح الزراعي لتقضي على هذا التحول، معيدة إنتاج النمط الريعي الذي ترعاه هذه المرة سلطات بحلات جديدة.

ويضاف إلى هذه الانكسارات سلسلة من الخسارات العسكرية والسياسية، والحروب المتكررة، والخيارات الاستراتيجية العبثية التي اجتاحت المنطقة، ما أدى إلى تعزيز الهشاشة البنيوية وفشل بناء مجتمع مدني قادر على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بشكل مستدام.

اليوم، تبدو مجتمعات المشرق العربي على موعدٍ مع تحدياتٍ مغايرة تمامًا لما عرفته في العقود السابقة. فإلى جانب موجات الجفاف المتزايدة وتمدّد الصحراء، وما يترتب على ذلك من استمرار الهجرات نحو المدن المكتظة أصلًا، تجد هذه المجتمعات نفسها أمام واقعٍ بيئي واقتصادي واجتماعي بالغ التعقيد.

إنها ليست أمام أزمةٍ سياسية فحسب، بل أمام أزمة وجودية تتجلّى في انقطاع الصلة بين الإنسان وتاريخه، وبين الأرض والهوية، وبين الدولة والمواطن.

ويرتسم في هذا السياق مشهد جديد يحمل مفارقة مأساوية: عمران بلا إعمار، واستقلال بلا سيادة. تسود فيه اقتصادات الظلّ وتغيب الاقتصادات الوطنية المنتجة، وتتراجع المؤسّسات الحكومية أمام تمدّد التنظيمات والجماعات التي تملأ فراغ السلطة، لتصبح الدولة ذاتها فضاءً مُفكّكًا تتنازع فيه قوى متناقضة.

في ظلّ هذه المعطيات، لا يمكن القفز مباشرةً إلى المطالبة ببناء ديمقراطية أو إجراء انتخابات، لأنّ مثل هذه الخطوات تفترض وجود وعي جمعيّ متماسك وسردية وطنية مشتركة، وهما ما تفتقر إليهما مجتمعات اليوم. فالبداية الحقيقية يجب أن تنطلق من إعادة طرح السؤال الجوهري: ماذا يعني أن تكون سوريًا؟ ماذا يعني أن تكون فلسطينيًا؟ لماذا ينبغي للسوريين أن يعيشوا معًا؟ ما هي سرديتنا ورؤيتنا المشتركة للمستقبل؟

لقد أصبحت الإجابات التقليدية عن هذه الأسئلة – التي تستند إلى التاريخ أو اللغة أو الثقافة المشتركة أو الانتماء الديني – غير كافية في عالمٍ تغيّر جوهريًا. المطلوب اليوم هو إعادة إضفاء المعنى على وجود الفرد من خلال صون نفسه وحقوقه وكرامته ونسله ودينه، مع الاعتراف باختلافه واحترام خصوصيته وإتاحة المجال أمام صوته ليُسمع ضمن الفضاء العام.

إنّ إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية، وتحميل النضال الفلسطيني والثورة السورية قيمًا أخلاقية وإنسانية، تمثل خطوةً أساسية نحو إعادة بناء الإنسان والوعي والهوية، بحيث يُصبح الفعل السياسي متجذرًا في معنى العدالة والمسؤولية لا في ردّات الفعل الآنية أو الانتماءات الضيقة. ويقتضي هذا المسار أيضًا العودة إلى تعريف الدولة بوصفها كيانًا جامعًا للشرعية والرمزية، قائمًا على عقدٍ اجتماعيّ يعبّر عن الإرادة الجمعية، لا بوصفها سلطةً تحتكر القوة لمجموعةٍ تفرض هيمنتها على المجموعات الأخرى.

وأحيراً في الإطار الاقتصادي، لا بدّ من إعادة النظر في النمط الريعي السائد، وفي البنى الاقتصادية التي تكرِّس التبعية وتُعمّق الهشاشة وتُضعف مقومات التنمية المستدامة. فإعادة هيكلة الاقتصاد ليست مجرد مطلب تقني، بل هي شرطٌ لإعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع والفرد على أسس إنتاجية تُعيد للإنسان مكانته كفاعل في التاريخ لا مجرد تابعٍ لقوى السوق أو السلطة.

 

  • دكتوراه في القانون الدولي العام من جامعة السوربون، أستاذ مساعد بكلية الحقوق، جامعة الأصالة، السعودية (2023). باحث في قسم القانون العام، جامعة بروكسل الحرة (2018–2022). من مؤلفاته ومنشوراته: أطروحة دكتوراه: دمقرطة العالم العربي: المثال الليبي؛ كتاب القانون العام بعد القنابل – مشاريع الإصلاح الدستوري والتشريعي لسوريا ديمقراطية، جامعة بروكسل، 29 حزيران/ يونيو؛ مقالة بحثية: فهم الأزمة السورية: قراءة مأساة، ضمن كتاب عقد من المنفى: الوجود السوري والاندماج في أوروبا، هارمتان، لييج/باريس، 2021؛ مقالة بحثية: من المؤتمر السوري العام 1919 إلى المؤتمر الوطني 2025: دروس الماضي ومخاطر الحاضر والمستقبل، شبكة سوريا المستقبل؛ مقالة بحثية: قراءة في الإعلان الدستوري السوري: رؤية نقدية، شبكة سوريا المستقبل.

منشورات آخرى

صدر حديثاً