إهداء
إلى أطفال غزة، أمل المستقبل وصمود الأمة، لتذكيرهم بأهمية التاريخ والوعي السياسي في مواجهة التحديات، ولكي يعرفوا كيف يمكن للتاريخ أن يكون درسًا ومرشدًا في بناء استراتيجيات وطنية واقعية.
مقدمة
تعد الفترة الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر حتى نهاية الحقبة السوفياتية 1991 من أكثر المراحل حساسية وتأثيرًا في تاريخ القضية الفلسطينية والعلاقات الدولية.
لم تكن الهجرات الروسية الأولى إلى فلسطين عشوائية، بل كانت جزءًا من سياسات روسية/سوفياتية دقيقة بدأت منذ العهد القيصري، إذ سعت الإمبراطورية الروسية إلى تصريف اليهود من أراضيها إلى فلسطين لتحقيق مصالحها الاستراتيجية وضمان استقرار الداخل، في حين ركز الفلسطينيون على المكاسب الثقافية والسياسية والاجتماعية من دون الانتباه إلى المخاطر الكامنة.
يتناول هذا الكتاب “القضية الفلسطينية في أدبيات الاتحاد السوفياتي ووثائقه 1947-1991” تحليل المواقف السياسية والأدبية السوفياتية تجاه فلسطين، مع التركيز على التناقض بين دعمهم للفلسطينيين وحركات التحرر العربي من جهة، ومصالحهم الاستراتيجية الخاصة في المنطقة من جهة أخرى. كما يعرض تطور الحزب الشيوعي الفلسطيني منذ تأسيسه على يد أفربوخ اليهودي الصهيوني إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري، ودوره في السياسة الفلسطينية ضمن سياسات السوفيات الاستراتيجية.
الفترة ما قبل الانتداب والهجرات الكبرى (قبل 1917–1920)
بدأت الهجرات الروسية إلى فلسطين منذ العهد القيصري، وكانت روسيا تستخدم فلسطين كمساحة تصريف للمجموعات اليهودية التي رغبت في إخراجها من أراضيها.
لم يكن هذا التهجير بدافع إنساني، بل خطة استراتيجية للحفاظ على مصالح روسيا الداخلية والخارجية.
ركّز الفلسطينيون على المكاسب الثقافية والسياسية والاجتماعية، بينما غاب عنهم المخاطر الكبيرة الناجمة عن تحركات الإمبراطورية الروسية والسياسات الدولية.
الانتداب البريطاني (1920–1947)
أضاف إعلان وعد بلفور طبقة جديدة من التعقيد السياسي، إذ بدأت بريطانيا في تمكين الصهاينة سياسياً وعسكريًا على حساب الفلسطينيين.
استمرت الهجرات الروسية، مع استمرار دعم الاتحاد السوفياتي للأدبيات والثقافة الفلسطينية، ما أعطى الفلسطينيين شعورًا زائفًا بالأمان والدعم الدولي.
استخدم السوفيات هذه المرحلة للعب على التناقضات بين القوى الكبرى، داعمين الفلسطينيين إعلاميًا وسياسيًا، لكن التوازن الاستراتيجي بقي دائمًا في صالح مصالح روسيا/السوفيات.
القرار الدولي وتقسيم فلسطين (1947–1948)
كان الاتحاد السوفياتي أول من اعترف بقرار تقسيم فلسطين، على الرغم من دعمه للفلسطينيين، ما يعكس ازدواجية السياسة السوفياتية بين الدعم والمصالح الاستراتيجية.
وضع الفلسطينيون والعالم العربي ثقتهم بشكل كبير في الموقف السوفياتي، ما شكل خطأ استراتيجي أدى إلى صدمة بعد النكبة. أبرزت هذه المرحلة كيف كان السوفييت يتقنون السياسة والتوازنات الإقليمية لضمان مصالحهم في الشرق الأوسط.
مرحلة الخمسينات والستينات: صفقات السلاح وفترة عبد الناصر (1953–1970)
لم يكن دعم السوفيات لحركات التحرر العربية والفلسطينية بدافع الأخوة أو العدالة، بل كجزء من السياسة الاستراتيجية لمواجهة النفوذ الغربي وإسرائيل.
جاءت صفقات السلاح ضمن التوازنات العسكرية والسياسية في المنطقة، وكان الفلسطينيون يواصلون وضع ثقتهم في الاتحاد السوفياتي.
رحب الاتحاد السوفياتي بالطلاب العرب للدراسة في موسكو، وقدم الدعم المالي والإعلامي للحركات التحررية، لكن هذا الدعم كان محددًا وموجهًا لتحقيق أهدافه السياسية ونشر الشيوعية.
الحزب الشيوعي الفلسطيني (1919–1982)
1919: تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني من انقسام في الحركة الشيوعية اليهودية، ليعبر عن الموقف الشيوعي العربي المناهض للصهيونية.
1923: الإعلان الرسمي لتشكيل الحزب، مع الانضمام إلى الكومنترن (الأممية الشيوعية)، ما عزز التواصل الدولي للحزب.
1947: تأثر الحزب بقرار تقسيم فلسطين، واضطر إلى تعديل مواقفه السياسية ضمن التحديات الإقليمية المتصاعدة.
1982: إعادة تأسيس الحزب في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، مع تغيير اسمه ليصبح “الحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري”، مستمرًا في لعب دور سياسي محدود مقارنة بالحركات الوطنية الأخرى.
الدرس الأساسي: تصرف الفلسطينيون بحسن نية، بينما السوفيات والروس تصرفوا بذكاء وحنكة سياسية لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية، وهو درس واضح لكل الأجيال القادمة.
فترة الرؤساء السوفيات: من خروتشوف إلى غورباتشوف
خروتشوف (1953–1964): دعم إعلامي وسياسي للقضية الفلسطينية، واستخدامها كأداة ضغط على الغرب.
بريجنيف (1964–1982): دعم المنظمات الفلسطينية والعلاقات العسكرية مع الدول العربية ضمن المنافسة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
أندروبوف وتشيرنينكو وغورباتشوف (1982–1991): تقليص الدعم تدريجيًا بسبب الضغوط الداخلية وانهيار الاتحاد السوفياتي، مع الحفاظ على مصالح روسيا في الشرق الأوسط.
الأخطاء الفلسطينية في الاستراتيجية
1. وضع الثقة كاملة في السوفيات من دون بناء تحالفات متعددة.
2. الاعتماد على الدعم السياسي والعسكري من دون فهم محدودية قدرة الاتحاد السوفياتي على الالتزام طويل الأمد.
3. عدم قراءة التوازنات الدولية بشكل صحيح، ما أدى إلى تراجع القضية بعد تقلص الدعم السوفياتي.
4. تجاهل المخاطر الناجمة عن الهجرات الروسية وتوظيفها من قبل الإمبراطوريات لتحقيق مصالحها.
ربط بالموقف الروسي الحالي
تحافظ روسيا اليوم على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف (إسرائيل والدول العربية والفلسطينيين).
تعتمد الدبلوماسية الروسية على تجربة الاتحاد السوفياتي السابقة، مع عدم الانحياز الكامل لأي طرف.
يظهر التاريخ السوفياتي والفلسطيني ضرورة تنويع التحالفات وعدم الاعتماد على لاعب عالمي واحد لضمان استمرار دعم القضية.
خاتمة الكتاب
تصرّف الفلسطينيون، وخصوصًا المثقفون والطلاب الذين درسوا في الاتحاد السوفياتي وروسيا، بحسن نية صادقة، وسعوا لتعلم الخبرات ونقلها لبناء وطنهم.
لكن التجربة التاريخية أظهرت أن السوفيات والروس كانوا أذكى وأكثر حنكة: رحبوا بالطلاب الفلسطينيين ليس حبًا فيهم، بل لنشر الشيوعية وضمان النفوذ الاستراتيجي في فلسطين والمنطقة.
السياسة هي فن الممكن والبقاء فيها يعتمد على الذكاء والحسابات الاستراتيجية، وليس على القوة أو حسن النية وحده. درس أساسي لكل جيل فلسطيني وعربي: حسن النية وحده لا يكفي، بل يجب فهم التوازنات الدولية والتصرف بذكاء استراتيجي.
بعد الخاتمة: درس في السياسة العالمية
السياسة السوفياتية/الروسية: ذكاء وحنكة كبيرة، استغلال حسن نية الفلسطينيين والمثقفين العرب لتحقيق مصالح استراتيجية طويلة الأمد، مع نشر الشيوعية وتأمين النفوذ.
السياسة البريطانية والأميركية: فن التأقلم والتلاعب بالتوازنات، تذهب مع القوة الصاعدة، وتنسحب أو تتحالف مع من يظهر في المستقبل، ما أعطاها مرونة كبيرة للبقاء في اللعبة الدولية.
الدرس الأهم: السياسة فن ممكن، والنجاح فيها يعتمد على الذكاء والحسابات الاستراتيجية، وليس فقط على القوة أو حسن النية.
