مقدمة
السياسة في جوهرها ليست مجرد صراع على النفوذ أو تنافس انتخابي، بل هي فعل منظم لا يقوم إلا بوجود مؤسسات عامة تعترف بالتعددية وتنظمها في إطار شرعي. فحيثما وُجدت مؤسسات حقيقية، تحوّلت التفاعلات الاجتماعية إلى طاقة إيجابية، وأصبحت الصراعات سببًا في سنّ قوانين تجعل من الحرية شرطًا لتحقيق العدالة والمساواة أمام القانون. أما حين تُغلق هذه المؤسسات، فإن السياسة نفسها تنعدم، ويجد المجتمع نفسه في مواجهة فراغ يُملأ بأشكال أخرى من الفعل الجمعي.
وقد تنبّه عدد من المفكرين إلى هذه الحقيقة. فميكيافيلي[1]، في المطارحات، رأى أن الحرية في روما لم تولد من الانسجام بل من الصراع المنظم بين العامة ومجلس الشيوخ، أي من السياسة بوصفها إطارًا قانونيًا للصراع. أما روسو[2] فاعتبر أن السياسة الداخلية لا تكون شرعية إلا إذا تأسّست على الإرادة العامة والعقد الاجتماعي، أي على مؤسسات تضمن التوازن بين الفرد والجماعة. وعلى نحو موازٍ، ميّز ابن خلدون[3] بين الملك الطبيعي القائم على الغلبة والملك السياسي القائم على الشرع والقانون، فيما شدّد الكواكبي[4] على أن الاستبداد يميت السياسة ويحوّل الدولة إلى خصم لشعبها.
النقطة المشتركة بين هذه الرؤى، شرقية وغربية، أن السياسة لا وجود لها من دون شرعية قانونية ومؤسسات علنية. وحين تُختطف هذه المؤسسات ويُحتكر المجال العام، لا يتوقف المجتمع عن الفعل، لكنه يلجأ إلى بدائل ما قبل سياسية لتأخذ أشكالًا أخرى.
وقد أثبتت الثورات والتجارب المختلفة عبر التاريخ، ومن بينها الثورة السورية على النظام السابق، أن احتكار المجال العام لا يحد من ردّة فعل المجتمع. فحين تحولت الدولة من إطار جامع إلى مجرد سلطة، أُفرغت المؤسسات من مضمونها، وأُغلق المجال العام، ولم يبقَ أمام المجتمع سوى المقاومة، لا كخيار بديل، بل كـردّة فعل طبيعية على غياب السياسة واغتصاب الحق في المشاركة.
وإذا كان المفكرون قد أجمعوا، عبر تجارب مختلفة، على أن السياسة لا تقوم إلا على الشرعية والمؤسسات، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف انعكس هذا المبدأ على أرض الواقع؟ هناك مجتمعات نجحت في ترجمته إلى أنظمة قائمة على القانون والتعددية، فاستوعبت الصراع داخل مؤسسات شرعية، بينما ظلّت مجتمعات أخرى بعيدة عن هذا المسار، فأدى غياب السياسة فيها إلى ولادة أشكال مختلفة من الفعل، يمكن إدراجها جميعًا تحت فعل المقاومة. ومن هنا يبدأ البحث في العلاقة بين السياسة والمشروعية من جهة، وبين غياب المؤسسات ونشوء المقاومة من جهة أخرى.
السياسة والمشروعية
القانون في ذاته لا يكفي ليُنتج سياسة حقيقية. فحتى لو صدر عن سلطة تبدو شرعية، يظل القانون عاجزًا عن بلوغ غايته النهائية، أي العدالة، ما لم يضمن احترام الحقوق الأساسية للأفراد ويُبنى على منظومة مؤسساتية متكاملة تكفل المساواة أمامه. بل إن القانون يفقد أحد أهم أركانه، وهو الإلزام الأخلاقي والاجتماعي، إذا تضمّن قواعد ظالمة تتناقض مع جوهر العدالة. من هنا يبرز التمييز بين الشرعية والمشروعية[5]. فقد تستند سلطة ما إلى شرعية قانونية شكلية، أو إلى شرعية كاريزماتية نابعة من زعامة شخصية، أو حتى إلى شرعية واقعية تفرضها القوة، لكن هذا لا يجعل قراراتها مشروعة. فالمشروعية لا تتحقق إلا حين تستند الشرعية إلى مؤسسات منتخبة تعبّر عن إرادة المجتمع وتخضع لرقابة متبادلة. ولعل المثال الأوضح هو البرلمان المنتخب شعبيًا: إذ يصعب أن يذهب إلى سنّ قوانين تناقض مصالح الناس أو تنتهك حقوقهم الأساسية، بينما تستطيع سلطة غير منتخبة أن تشرّع ما تشاء بلا محاسبة.
هذا التمييز تجلّى بوضوح في التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. فالقوانين التي فرضها النظام النازي كانت تتمتع بغطاء شرعي شكلي، لكنها افتقدت إلى المشروعية لأنها صادرت الحقوق الأساسية وشرّعت التمييز العرقي. بعد سقوط النظام، أُعيد بناء الحياة السياسية على أساس “القانون الأساسي” لعام 1949، الذي ضمن الحقوق والحريات وصار مرجعية عليا ملزمة. هكذا عادت السياسة لتُمارس داخل مؤسسات علنية تعكس التعددية، لا كقوانين شكلية تفرضها قوة مسيطرة.
هذه الفكرة وجدت صداها أيضًا في الفلسفة السياسية. فالمشروعية عند روسو والكواكبي ارتبطت بالعدالة، بوصفها الضامن ضد تغوّل السلطة، فيما شدّد ميكيافيلي وابن خلدون على التوازن بين القوى بوصفه الشرط الذي يحول دون تحوّل السياسة إلى غلبة واستبداد. فالمشروعية إذن هي نقطة الالتقاء بين العدالة كقيمة أخلاقية، والتوازن كشرط عملي لتنظيم السلطة.
تكاد التجارب التاريخية تجيب بالنفي. ففي غياب المشروعية، لا يبقى من السياسة سوى قشور شكلية تخفي واقع الاستبداد، ويكون البديل الطبيعي للمجتمع هو المقاومة. أما حين تُصان المشروعية عبر مؤسسات حقيقية، تتحقق السياسة كفعل منظّم يضمن الحرية والعدالة والمساواة.
حين تُصان المشروعية تتحقّق السياسة
لا يمكن الحديث عن وجود الدولة من دون مؤسسات، فالمؤسسة هي الجهاز الذي يطبِّق القانون ويفرض احترامه. وكلما تراجع حضور المؤسسات، تراجعنا عن مفهوم الدولة الحديثة وعدنا إلى أشكال الحكم الاستبدادي. لكن وجود المؤسسات بحد ذاته لا يكفي؛ إذ لا بد أن تحظى بقبول شعبي، فحينها فقط تتولد المشروعية. لذلك، فإن وجود المؤسّسات والقبول الشعبي بها يمثلان شرطين جوهريين، وغياب أحدهما ينزع عن القرارات الصادرة عن السلطة صفة المشروعية.
العناصر الأساسية لصيانة المشروعية، مثل الدستور، مبدأ فصل السلطات، استقلال القضاء، ونزاهة الانتخابات، لا تكفي وحدها إذا لم تُدعَم بثقافة سياسية حيّة. هذه الثقافة لا تُفرض من فوق، بل تُبنى عبر التزام الدولة بحرية الحياة العامة، وقبولها بالمنافسة السياسية المنظمة من خلال الأحزاب، وضمان حقوق التعبير والتظاهر. فالمجتمع الذي تتاح له هذه الحقوق ينمّي وعيًا سياسيًا، ويشارك في إثراء المشروعية بدل الاكتفاء بالخضوع الشكلي للقانون. وكما قال إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا عام 1789، متأثرًا بأفكار روسو وبما ينسجم مع ما طرحه الكواكبي: «مصدر كل سيادة يكمن في الأمة؛ ولا يمكن لأي هيئة أو فرد أن يمارس سلطة لا تصدر عنها».
وتشير تجارب دولية عديدة إلى أن الصراعات السياسية تحت سقف القانون شكّلت طوق نجاة في مواجهة الأزمات الداخلية. ففي فرنسا مثلًا، تحولت النزاعات المتكررة بين الملكية والبرلمان، ثم الثورة وما تلاها من إعلانات دستورية، إلى مصدر لإعادة تعريف السيادة وبناء دولة حديثة تستند إلى المؤسسات. وفي جنوب أفريقيا، انتقلت المقاومة ضد نظام الفصل العنصري إلى داخل المؤسسات بعد صوغ دستور 1996 الذي كرّس المساواة أمام القانون. ولم يكن هذا الدستور مجرد نص قانوني، بل أُرفق بآليات عملية مثل لجنة الحقيقة والمصالحة التي سمحت بطي صفحة الماضي وتحويل الانقسام إلى طاقة سياسية خلاقة. وهذا ما أكدته أيضًا الرؤى النظرية التي أشرنا إليها في مقدمة هذا المقال؛ فميكيافيلي شدّد على أن الحرية تنشأ من الصراع المنظم داخل المؤسسات، بينما ميّز ابن خلدون بين الملك الطبيعي القائم على الغلبة والملك السياسي القائم على النظر العقلي في جلب المصالح ودفع المضار.
تُظهر هذه التجارب أن السياسة تزدهر حين تُصان المشروعية عبر مؤسسات شرعية تحظى بالقبول الشعبي. غير أن هذه الصيانة ليست منجزة إلى الأبد، بل هي عملية مستمرة تتطلب حماية متواصلة. وإلا فإن البديل لن يكون الاستقرار، بل الانقسام وعودة الصراع إلى أدواته البدائية، أي العنف.
حين تغيب المشروعية تنعدم السياسة
وإذا كانت السياسة تزدهر حين تُصان المشروعية، فإن تجربة السوريين تكشف الوجه الآخر للمعادلة: غياب المشروعية لا يؤدي إلى زوال السياسة وحسب، بل وإلى تحوّلها إلى قشرة فارغة تخدم الاستبداد أيضًا. فالأحزاب الشكلية التي أقيمت لم تكن أدوات للحياة العامة، بل مجرد واجهات تمنح النظام غطاءً سياسيًا زائفًا. وبذلك، غابت السياسة بوصفها فعلًا منظمًا، وحلّت محلها واجهة دعائية لا علاقة لها بالتعددية أو المشاركة.
ومع تفشي الفساد الذي كان نتيجة مباشرة لغياب الرقابة السياسية على أداء السلطة الحاكمة، انهارت آليات المحاسبة واحترام القانون. صار تطبيق القوانين مقتصرًا على الفئات الضعيفة التي لا تتمتع بأي حماية من السلطة، بينما جرى تجاوزها بانتقائية عندما تعلق الأمر بالمقربين من الحكم. وهكذا، لم يعد القانون وسيلة لضبط السلطة أو حماية الأفراد، بل أداة في يد النظام لمراكمة النفوذ وتوسيع دائرة الولاء.
في ظل هذا الواقع، عزف الأفراد عن المشاركة في الحياة العامة لإدراكهم استحالة التغيير داخل المنظومة القائمة. لكن مع تفاقم الفساد وعجز الدولة عن القيام بوظائفها الأساسية، ازداد التدهور الاقتصادي والمعيشي، فانفجر المجتمع في مظاهرات تطالب بالإصلاح والتغيير. وعندما عجز النظام عن الاستجابة لتلك المطالب، لأن أي إصلاح كان سيؤدي إلى تفكيك بنيته الفاسدة، تحوّلت المقاومة من سلمية إلى عنفية، ودخلت البلاد في حرب طويلة انتهت بسقوط النظام وتفكك مؤسسات الدولة.
يؤكد هذا المسار أن المجتمع لا يلجأ إلى المقاومة ابتداءً، بل يبدأ بالمطالبة بالإصلاح، ثم يتطور فعله تدريجيًا مع انسداد الأفق. كما يبين أن الانتخابات الشكلية أو القوانين الانتقائية لا تُعد سياسة، بل هي مجرد واجهات خاوية تخفي غياب السياسة كليًا. وهو ما سبق أن أشار إليه الكواكبي حين رأى أن الاستبداد يميت السياسة، وروسو حين أشار إلى أن القوانين التي لا تعبّر عن الإرادة العامة لا تحمل شرعية حقيقية.
أخيرًا
تثبت التجارب التاريخية والفكرية أن السياسة والمشروعية متلازمتان ولا تنفصلان؛ فغياب المشروعية يعني بالضرورة غياب السياسة. وإذا كانت هناك وسيلة لتجنيب المجتمعات الانزلاق نحو الفساد أو العزوف أو العنف، فهي في صيانة المؤسسات وضمان عملها وفق مبادئ العدالة والتوازن. وهذا ما تؤكده التجربة السورية التي أظهرت أن الاستبداد يفضي في النهاية إلى الانفجار.
واليوم، بعد مرور ما يقارب العام على تشكيل السلطة الانتقالية في سوريا، يبدو أن بعض ملامح التجربة تتكرر. فالتفرّد بالقرار، والانتقائية في تطبيق القانون، وإقصاء التعددية السياسية، كلها مؤشرات تُضعف المشروعية ذاتها التي يُفترض أن تكون أساس المرحلة الجديدة. إن استمرار هذه الممارسات يعني العودة إلى دائرة الفساد والعزوف، وتهيئة الظروف لانفجارٍ جديد.
الخلاصة: المشروعية ليست مجرد آلية قانونية شكلية أو ترفًا سياسيًا، بل هي الضمانة الجوهرية لاستمرار العدالة والتوازن السياسي، والشرط الأول لقيام السياسة وبقائها في أي مجتمع، ولا سيما في المجتمعات الخارجة من الاستبداد أو النزاعات.
- نيكولو ميكيافيلي، المطارحات على العقد الأول لتيتوس ليفيوس، ترجمة: خضر زكريا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2004، ص 69. ↑
- جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة: عادل زعيتر، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1954، ص 34. ↑
- بن خلدون، المقدمة، دار الفكر، بيروت، 2005، ص 191. ↑
- عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار النفائس، بيروت، 1992، ص 17. ↑
- المشروعية: هي الأساس العادل لممارسة السلطة، أي التزام القوانين والمؤسسات بالحقوق الأساسية للأفراد ومبادئ العدالة والمساواة. وهي تختلف عن الشرعية التي تعني مجرد وجود السلطة أو استنادها إلى نصوص قانونية أو قوة واقعية؛ فالقانون قد يكون شرعيًا شكليًا لكنه غير مشروع إذا انتهك الحقوق أو افتقد إلى القبول الشعبي. ↑